واجه الاقتصاد اللبناني صعوبات عديدة خلال السنوات الأخيرة يتمثل أبرزها في تفاقم مستويات الدين العام في ظل تصاعد حدة الأزمات السياسية الداخلية واستمرار الصراع السوري الذي فرض أعباء استضافة مليون ونصف المليون لاجئ سوري، على نحو ساهم في إضعاف الأداء الحكومي في التعامل مع إشكاليات مثل انقطاع التيار الكهربائي وتراكم النفايات.
لكن رغم ذلك، اتجهت الحكومة، لا سيما بعد انتهاء أزمة الفراغ الرئاسي في أكتوبر 2016، إلى إجراء بعض الإصلاحات الجوهرية على غرار إقرار قانون الشراكة مع القطاع الخاص وتنظيم قطاع النفط وبدء عمليات الاستكشاف والتنقيب في المياه الإقليمية مؤخرًا.
وأدركت الحكومة ضرورة الحصول على تمويل خارجي لتعزيز استقرار الاقتصاد ودعم البنية التحتية، حيث عولت في هذا السياق على مؤتمر "سيدر" بباريس في جذب مليارات الدولارات، لكن نجاحها في تحقيق ذلك يتوقف على متغيرات سياسية واقتصادية عديدة.
إصلاحات ضرورية:
فرضت الضغوط السابقة تداعيات مباشرة على الاقتصاد اللبناني، حيث تباطأ نموه ليصل إلى نحو 1.5% في عام 2017، وليس من المتوقع أن يتجاوز 2% في العام الجاري. ومع انكماش قطاعى السياحة والعقارات، تزايد عجز الحساب الجاري ليبلغ 18% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2017، وهو مستوى العجز نفسه تقريبًا في عامى 2015 و2016. فيما لم تنجح الحكومة في ضبط ماليتها العامة بما دفع لتفاقم الدين العام ليصل إلى نحو 152.2% من الناتج المحلي في عام 2017.
وفي الأعوام الماضية أيضًا، وكنتيجة لضعف الأداء الحكومي، برزت بعض الإشكاليات مثل نقص الطاقة الكهربائية وتراكم النفايات في عدد من المدن، وهو ما أدى إلى اندلاع احتجاجات شعبية كان أكثرها اتساعًا تلك التي شهدها عام 2015.
لكن مع انتهاء أزمة الفراغ الرئاسي في أكتوبر 2016 اتخذت خطوات هامة لتعزيز الثقة نسبيًا بالاقتصاد، يتمثل أهمها في إقرار البرلمان، في أكتوبر 2017، أول موازنة للدولة منذ 12 عام، بعد فشل الحكومات المتعاقبة في تمرير الموازنات بسبب سلسلة من الأزمات السياسية التي أعقبت اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري في عام 2005.
كما تبنت الحكومة تدابير عدة لتحفيز مشاركة القطاع الخاص في دعم البنية التحتية، بعد إقرار قانون الشراكة في القطاعين العام والخاص في أغسطس 2017، على نحو مكنها من إبرام اتفاق مع ثلاث شركات لبنانية لشراء 200 ميجاوات تخطط لتوليد الطاقة من توربينات تعمل بالرياح في فبراير الفائت. وسبق ذلك إعلان وزارة الطاقة والمياه، في يناير 2017، عن خطة الطاقة المتجددة التي تهدف إلى مساهمة الطاقة المتجددة بـ12% من إجمالي استهلاك الطاقة الكهربائية والحرارية بحلول عام 2020.
فيما مثل نجاح الحكومة في طرح جولة تراخيص للاستكشاف والتنقيب عن النفط والغاز الطبيعي في المياه الإقليمية بالبحر المتوسط في بداية عام 2017 وموافقتها بعد ذلك، في نهاية العام نفسه، على تحالف يشمل ثلاث شركات دولية هى "توتال" الفرنسية و"إيني" الإيطالية و"نوفاتيك" الروسية للتنقيب عن النفط في الرقعتين 4 و9 في المياه الإقليمية اللبنانية، أحد التحولات الرئيسية التي قد تعزز من قوة الاقتصاد، وستسمح ليس فقط بخفض فاتورة استيراد النفط وإنما أيضًا بزيادة عوائد النقد الأجنبي.
اهتمام متبادل:
تدرك الحكومة، في ظل محدودية الموارد المحلية، أنه لا خيار آخر أمامها سوى التعاون مع شركائها للحصول على التمويل اللازم لدعم استقرار اقتصادها وتنمية بنيتها التحتية، وهو ما دفعها إلى الدعوة لتنظيم عدة مؤتمرات دولية بغرض جذب التمويل من مختلف الجهات الدولية، كان أولها المؤتمر الوزاري الدولي لدعم الجيش والقوى الأمنية الذي عقد بروما، في 15 مارس الجاري، وشاركت فيه 40 دولة أبدت اهتمامها بدعم لبنان في تعزيز قدراتها الأمنية.
كما تعول الحكومة أيضًا على مؤتمر "باريس 4" أو ما يعرف بـ"سيدر 1" للحصول على تمويل بقيمة 16 مليار دولار من جهات دولية مختلفة من أجل تمويل البنية التحتية للبلاد ودعم الاقتصاد. وإذا نجحت في جذب جزء من هذه المبالغ، فإن ذلك سيساهم في تجاوز بعض التحديات الاقتصادية التي تواجهها.
وفي المقابل، يدرك المجتمع الدولي أن الاستجابة لهذه الجهود تعد مسألة جوهرية ليس فقط لاعتبارات اقتصادية بحتة وإنما أيضًا لدواعي سياسية. كما ترى القوى الدولية المعنية أن دعم الحكومة الحالية قد يؤدي إلى تعزيز قدرة تيار المستقبل على تحقيق نتائج بارزة في الانتخابات البرلمانية المقررة في مايو المقبل.
خطوات إجرائية:
وقد بدأت بعض الجهات الدولية بالفعل في تقديم الدعم للقطاعات الحيوية في لبنان، حيث أبرم البنك الأوروبي لإعادة الإعمار اتفاق تعاون مع بنك فرنسَبنك اللبناني، يقضي بمنح الأخير خطًا لتمويل التجارة بقيمة 50 مليون دولار لتعزيز التجارة الخارجية.
وسبق أن سيطر البنك الأوروبي على 2.51% من أسهم بنك عودة، في إشارة إلى أن الأول يدرك الدور الجوهري الذي يمارسه القطاع المصرفي في الاقتصاد اللبناني. كما وافق البنك الدولي، في 16 مارس الجاري، على حزمة تمويل بقيمة 295 مليون دولار للمساهمة في تحديث شبكة المواصلات العامة، مستفيدًا من قانون تنظيم الشراكة بين القطاعين العام والخاص. وتعهد الاتحاد الأوروبي أيضًا تقديم حزمة بقيمة 61.5 مليون دولار لدعم قطاع الأمن اللبناني.
ومن دون شك، فإن مدى نجاح لبنان في جذب المساعدات الدولية سوف ينعكس في نتائج مؤتمر "سيدر" الذي سيعقد في إبريل المقبل، حيث تخطط للحصول على مليارات الدولارات.
لكن تقديم مزيد من الدعم للبنان سيتوقف على عاملين رئيسيين: يتمثل أولهما، في اتجاهات التوازنات السياسية خلال الفترة المقبلة، والتي ستحددها نتائج الانتخابات البرلمانية التي سوف تجرى في مايو المقبل.
وينصرف ثانيهما، إلى قدرة الحكومة على اعتماد خطة عاجلة للإصلاح الاقتصادي تشجع المانحين والمستثمرين على تعزيز التعاون معها في الفترة المقبلة. وكما يشير صندوق النقد الدولي، في تقرير له حول لبنان نشر في فبراير الماضي، فإن البلاد بحاجة ماسة للضبط المالي خاصة مع تفاقم مستويات الديون، وهو ما يتطلب منها إجراءات لزيادة الإيرادات وكبح النفقات.
ويبدو أن الحكومة تعتزم القيام بذلك بالفعل خلال الفترة المقبلة، حيث قال وزير المالية علي حسن خليل، في 12 مارس الجاري: "نحن ذاهبون باتجاه إصلاحات حقيقية. نعرف أننا لا نستطيع أن نفعل كل شىء في نفس الوقت ولكن المهم أننا نسير على الطريق الصحيح". ومن المتوقع، بحسب موازنة عام 2018، أن ينخفض مستوى ميزانيات الوزارات بنحو 20% ليهبط العجز بنحو 145 مليون دولار مقارنة بعام 2017، لكنه في العموم يظل مرتفعًا عند 4.8 مليار دولار.
وبجانب ذلك، يرى الصندوق أن احتواء المخاطر التي تهدد الاستقرار المالي يكتسب أهمية خاصة، بما في ذلك اتخاذ مزيد من الإجراءات الرامية إلى تحسين جودة الائتمان، بالإضافة إلى إصلاح قطاع الكهرباء مع تعزيز وتفعيل الإطار التنظيمي لمكافحة الفساد.
وفي النهاية، يمكن القول إن نجاح الحكومة في مواجهة تلك الاختبارات يظل مرتبطًا بمدى قدرة لبنان على تجاوز التحديات السياسية والأمنية التي تواجهها في الفترة الحالية، بفعل التطورات التي طرأت على الساحتين الداخلية والإقليمية خلال الأعوام الماضية.