تواجه الولايات المتحدة الأمريكية تهديدات إلكترونية متنوعة، تزداد من حيث تعقيدها ودرجة خطورتها، فخلال السنوات العشر الماضية، تغيرت طبيعة التهديدات الإلكترونية التي تواجهها، من اختراق أو إغلاق مواقع رسمية، إلى سرقة معلومات عسكرية واقتصادية وتسريب وثائق سياسية وسرقة أنظمة حربية، وإمكانية إلحاق أضرار جسيمة بالبنى المدنية الحيوية إذا ما تعرضت إلى ضربة إلكترونية قوية؛ الأمر الذي يمثل خطراً حقيقياً على الأمن القومي الأمريكي، لاسيما مع تعدد الأهداف الإليكترونية التي يمكن إصابتها حالة حدوث حرب إلكترونية.
ولا تعد مواجهة التهديدات الإلكترونية شأناً داخلياً أمريكياً فحسب، بل تمتد كذلك لتشمل التعاون الأمريكي مع دول أخرى في مجال "الدفاع الإلكتروني"، فقد حثت الاستراتيجية الدولية للفضاء الإلكتروني، التي كشفت عنها وزيرة الخارجية الأمريكية، هيلاري كلينتون، في مايو 2011، على تعظيم التعاون الدولي لخلق بنية تحتية مفتوحة وآمنة للمعلومات والاتصالات. كما تسعى الولايات المتحدة إلى بناء ما يمكن أن يسمى "تحالفات إلكترونية دفاعية؛ وهو ما يظهر على سبيل المثال في دعوة وزير الدفاع الأمريكي، تشاك هيغل، أثناء لقائه مع وزراء الدفاع مجلس التعاون لدول الخليج العربية يوم 13 مايو 2014، إلى تعزيز التعاون المشترك بين الجانبين في مجال الدفاع الإلكتروني؛ الأمر الذي يتطلب الوقوف على تحديات الدفاع الإلكتروني في العقيدة العسكرية الأمريكية.
لماذا الدفاع الإلكتروني الأمريكي؟
تزداد التخوفات الأمريكية من تلقي ضربة إلكترونية بالنظر إلى ربط معظم البنى التحتية الأمريكية، سواء كانت مدنية أو عسكرية بالفضاء الإلكتروني، مثل أنظمة الاتصالات والمواصلات وإدارة المنشآت النووية ومحطات توليد الطاقة الكهربائية ونظم إدارة السدود المائية، إضافة إلى أنظمة توجيه الصواريخ عن بعد والطائرات بدون طيار والسيطرة على الأقمار الصناعية وغيرها. ولذا فإن الحفاظ على هذه البنى من أي هجمات إلكترونية يدخل في صميم الأمن القومي الأمريكي، لأن تعرض أحد هذه الأنظمة لهجوم إلكتروني يمكن أن يولد آلاف الضحايا في دقائق معدودة، فمثلاً قد يؤدي اختراق نظام المواصلات كأنظمة ملاحة الطيران والسفن وأنظمة السكك الحديد إلى تصادمها وتعرض الولايات المتحدة لـ "بيرل هاربر" جديد؛ ومن ثم فإن خلق نظام دفاع إلكتروني فعال يعمل بمثابة حائط صد للهجمات الإلكترونية هو أمر حيوي للأمن القومي الأمريكي.
وفي إطار مواجهة التهديدات الإلكترونية المختلفة أعدت الإدارات المتعاقبة على البيت الأبيض، سواء خلال فترتي جورج دبليو بوش أو خلال فترتي باراك أوباما، العديد من الخطط والاستراتيجيات التي تتنوع ما بين الهجوم مثل الاستراتيجية القومية العسكرية لعمليات الفضاء الإلكترونية الصادرة في عام 2006، وإنشاء قيادة عسكرية في الفضاء الإلكتروني تابعة لوزارة الدفاع "البنتاجون" الصادرة في عام 2009، والدفاع مثل الاستراتيجية القومية للحماية المادية للبنية التحتية الحيوية والأصول الرئيسية والاستراتيجية القومية لتأمين الفضاء الإلكتروني الصادرتين في عام 2003، وتعظيم التعاون الدولي في مجال مكافحة الهجمات الإلكترونية مثل الاستراتيجية الدولية للفضاء الإلكتروني الصادرة في عام 2011.
وقد تم النظر إلى الفضاء الإلكتروني في الاستراتيجية القومية العسكرية لعمليات الفضاء الإلكترونية على أنه "مسرح لعمليات عسكرية ممكنة"، كما تشير استراتيجية الأمن القومي الأمريكي في عام 2010 إلى أن "التهديدات الإلكترونية تمثل واحدة من أخطر التهديدات التي تواجه الأمن القومي والسلامة العامة للمواطنين"، فضلاً عن أنها أحد أهم التحديات التي تواجه الاقتصاد القومي، ومن ثم يجب تأمينها وأن تكون جديرة بثقة مستخدميها، ويمكن تحقيق ذلك عبر الاستثمار في الناس والتكنولوجيا، وعبر تدعيم قدرات الشركات مع القطاعات المختلفة، سواء أفراداً أو مؤسسات خاصة. وإضافة إلى ذلك تقوم وزارة الدفاع الأمريكية بصفة دورية بإجراء محاكاة للتعرض لحرب إلكترونية فيما يطلق عليه Cyber Storm أو عاصفة الحواسب، كما عملت على تطوير أسلحة إلكترونية تشمل فيروسات قادرة على تخريب شبكات العدو.
ثلاث قضايا أساسية
تأتي الولايات المتحدة في مقدمة الدول التي لديها قدرات هجومية إلكترونية، إلا أن الحرب ليست هجوماً فقط، بل هجوم ودفاع، ورغم أن الولايات المتحدة أكثر الدول تقدماً في مجال الهجمات الإليكترونية، إلا أنها لا تزال بحاجة لزيادة قدراتها الدفاعية، حتى وإن لم تتعرض بعد لهجمات كبرى أو قوية، لأن جميع القطاعات والبنى الحيوية في الولايات المتحدة تعتمد بصورة مباشرة على الفضاء الإلكتروني؛ مما يجعل منها أهدافاً متعددة يمكن إصابتها والتسبب في شل حركة الدولة الأمريكية.
ولا يقتصر الأمر في هذه الحالة على تأمين شبكات البنتاجون السرية وغير السرية، بل يشمل أيضاً تأمين شبكات المقاولين العسكريين، وشركات صناعة الأسلحة التي تعتمد هي الأخرى على الفضاء الإلكتروني، وسائر شركات القطاع الخاص التي تتعاون مع الحكومة في مجالات الصناعات العسكرية، والتي تعتبر جميعاً عرضة للتهديدات الإلكترونية؛ فعلى سبيل المثال تمكن قراصنة صينيون في عام 2007 من اقتحام الخوادم الخاصة بشركة "لوكهيد مارتين" الأمريكية، وحصلوا على معلومات خاصة بتصنيع المقاتلة "إف – 35" التي استخدمتها الصين فيما بعد لتصميم وتصنيع مقاتلة "تي 20" الصينية.
ومن ثم فإن الملاحظة الأولى حول قدرات الدفاع الإلكتروني الأمريكية تشير إلى أنه إذا كانت واشنطن تملك القدرة على توجيه هجمات إلكترونية، إلا أنها لا تملك ذات القدرة في المستقبل على صد هجمات مماثلة من بعض الدول المتقدمة في هذا المجال مثل الصين أو كوريا الشمالية أو إيران.
أما مجال التقييم الثاني، فهو أنه في الوقت الذي لا يمكن للولايات المتحدة أن تعمل فيه بمفردها على ضبط الفضاء الإليكتروني عبر معاهدة دولية، فإنها لم تتردد في إثارة المخاوف حول نواياها، لاسيما في ضوء تجسسها على أقرب حلفائها العالميين، مثل ألمانيا، علاوة على تجسسها على ملايين المواطنين حول العالم؛ ولهذا ربما تسعى واشنطن إلى محاولة استعادة الثقة بينها وبين الدول الأوروبية من جانب، وتعمل في الوقت ذاته على إيجاد حلفاء آخرين بعد اتجاه بعض الدول الأوروبية إلى إنشاء شبكة اتصالات أوروبية تتفادى مرور رسائل البريد الإلكتروني والبيانات الأخرى عبر الولايات المتحدة.
ويرتبط الأمر الثالث بحقيقة أن تأمين البنى التحتية الأمريكية، وخصوصاً المدنية، من الهجمات الإلكترونية، يحتاج مستقبلاً إلى مليارات الدولارات، خاصة أن الشركات الخاصة هي من يسيطر على البنى التحتية وتديرها، وهي لا تقوم في الوقت ذاته بتمويل أساسي في تأمين هذه البنى إلا عبر التدخل والدعم الحكومي المباشر.
وتبدو خلاصة ما سبق أن ثمة تغيرات كبرى طرأت على مفهوم القوة وتحولاتها وتطبيقاتها، غيرت من موازين القوى العالمية، بحيث أصبح امتلاك التكنولوجيا الحديثة وتوظيفها في المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية كافة، أحد أهم أدوات إدارة العلاقات الدولية، وإذا كان العدو في الحرب الباردة معروفاً وواضحاً، ويمكن تعقبه والتنبؤ بسلوكه، فإن الأمر مختلف تماماً في حالة الحرب الإلكترونية، فالعدو ليس بالضرورة دولة، وليس بالضرورة له جوار جغرافي، كما أن استهداف المناطق والخدمات الاستراتيجية أصبح أقل تكلفة من الحرب التقليدية، بل أكثر تدميراً في بعض الأحيان إذا كان الأمر يتعلق بالسيطرة على البنى التحتية والخدمات اللوجستية، سواء كانت مدنية أو عسكرية؛ وهو ما يشير إلى أهمية التعاون والتنسيق الخليجي مع القوى العالمية المختلفة في مجال حماية وضبط الفضاء الإلكتروني، والتعاون في هذه المجالات وفق المصلحة الوطنية وحماية الخصوصية ودراسة الإيجابيات والسلبيات التي قد تتحقق نتيجة للتعاون مع أي من الدول في مجال الدفاع الإلكتروني.