مرة أخرى يطل الإرهاب على العالم في أماكن عديدة كالغول الهائل الذي يهدد الجميع، لا ديناً بذاته أو بلداً بعينه؛ فإلى جانب الأحداث الدموية التي تعانيها بعض دول الشرق الأوسط بشكل أصبح معتاد يومياً؛ تعيش أوروبا مسلسلاً من تنامي الإرهاب، لاسيما بعد حادثة هي الأكثر دموية في تاريخ فرنسا منذ ستينيات القرن الماضي، وذلك بعد مقتل عشرة صحفيين ورسامي كاريكاتير بصحيفة "شارلي إيبدو"، بالإضافة إلى اثنين من أفراد الأمن بينهم فرنسى من أصل مسلم، على يد إرهابيين شباب من أصول مهاجرة يدّعون الإسلام، وهما الشقيقان سعيد وشريف كواشي وزميلهم أحمدي كوليبالي.
ولم تتوقف ردود الفعل الأوروبية عند هذه الحادثة باعتبارها استهدفت صحفيين، على نحو وصفه الأوروبيون بأنه "ينطوي على محاربة لحرية الرأي والتعبير، التي هي جزء من هوية الدولة الفرنسية"، حتى لو كان الحادث رد فعل على رسوم مسيئة للإسلام والنبي الكريم؛ بل بلغت ردود الفعل مداها إلى الحد الذي وصل بالبعض إلى التأكيد أن فرنسا تعيش حالياً أجواءً شبيهة بما حدث في الولايات المتحدة في 11 سبتمبر 2011.
ويثير ما سبق العديد من التساؤلات، ومنها: ما الدوافع وراء تنامي ظاهرة التطرف في فرنسا والغرب عموماً؟ وهل سيدفع المسلمون الذين يعيشون في فرنسا ثمن هذا العمل الإرهابي؟ وما موقع دول منطقة الشرق الأوسط من هذه الأحداث؟
هجمات باريس.. الجذور وردود الفعل
أعلن تنظيم القاعدة فى اليمن مسؤوليته عن الهجوم الذي استهدف مقر مجلة "شارلي إيبدو" الفرنسية، وذلك رداً على رسومات مسيئة للإسلام. لكن إلى جانب حالة الغضب من تلك الرسوم المسيئة المنشورة في بعض وسائل الإعلام الغربية، يمكن القول إن ثمة ملابسات وعوامل إضافية أدت إلى وقوع مثل هذه الحوادث المتطرفة في فرنسا وغيرها من العالم الغربي، ومنها:
1- مواقف الدول الغربية من قضايا المسلمين، سواء القضية الفلسطينية أو الأحداث في العراق وسوريا وحتى ميانمار، حيث حمَّلت الشعوب المسلمة المسؤولية الكاملة للغرب عن المآسي والكوارث التي تحدث في هذه الدول، واتهمته بأنه يتحرك في هذه القضايا وفقاً لمصالحه وليس للمبادئ التي يدعو إليها؛ مما أدى إلى تعميق الكراهية لدى المسلمين، وأعطى ذريعة للجماعات المتطرفة التي لا ترى غير العمل المسلح أسلوباً للتعامل مع الغرب.
وأبسط مثال على ذلك، استخدام الولايات المتحدة للفيتو لإسقاط مشروع القرار المتعلق بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة ودعم قيام دولة فلسطينية مستقلة أكثر من مرة، حيث وُصف هذا السلوك الأمريكي بأنه استخفاف بمشاعر العرب والمسلمين.
2- واقع المسلمين في أوروبا وفقدانهم نسبياً للعدالة الاجتماعية وفرص العمل، مما يوجد أرضية خصبة لنشوء ونمو الجماعات المسلحة التي تزرع بذور العنف والإرهاب والفوضى.
ويكفي القول إن الإرهابيين الذين ارتكبوا حادثة "شارلي إيبدو" هم من شباب الضواحي الجانحين، الذين نشأوا في بيئة البطالة والفقر واعتادوا العيش على السرقات والجرائم الصغرى، ثم دخلوا السجون الفرنسية، وتم تجنيدهم فيها من شبكات إرهابية خارجية تدّعي الإسلام. ومن ثم فإن النخبة السياسية في فرنسا فشلت في سياستها لمعالجة المشكلة الاجتماعية التي تفاقمت في الضواحي.
3- تكريس الدول الغربية الأسلوب الأمني في التعامل مع الإرهاب، وإهمال آليات أخرى قد تكون ناجعة تتعلق بمواجهة مسببات هذه الظاهرة من الأساس مثل الفقر وغياب الديمقراطية والعدالة الاجتماعية وانتهاك حقوق الإنسان في المجتمعات التي تفرز العناصر المتطرفة، وإن كان البعض يعتبر أن تحقيق هذه الأهداف مجرد أوهام، وأن أقصى ما يمكن أن يفعله الغرب هو محاولة منع الهجمات الإرهابية التي تستهدف مواطنيه.
وعلى صعيد ردود الفعل عقب وقوع هجمات "شارلي إيبدو"، فقد احتشد الشعب الفرنسي في تظاهرات عارمة بمشاركة قادة 50 دولة وحكومة، للاحتجاج ضد هذه الأعمال الوحشية ونبذ العنف، حيث انتشرت رسائل مثل "نحن جميعاً شارلي" ليس فقط في عموم فرنسا، بل انتشرت كذلك في الدول الأوروبية المجاورة.
وتعد هذه التظاهرات من أكبر الحشود التي شهدتها فرنسا على مر تاريخها، واتسمت بثلاث سمات، أولاها أنها تضمنت جموعاً مختلفة نسبياً، سواءً في العمر أو الخلفيات الاجتماعية أو العرق والدين، ومن دول مختلفة. ومن الواضح أن رسائل الإدانة التي صدرت من قِبل رجال الدين المسلمين كان لها تأثير، حيث أعرب هؤلاء الأئمة عن أسفهم من شيوع التطرف، ودعوا المسلمين للخروج بشكل جماعي احتجاجاً على الإرهاب.
وثانيتها أن هذه التظاهرات كانت خالية تقريباً من العنف أو المشادات، وثالثتها أن المسيرة المليونية التي قادها الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند يوم 12 يناير في باريس بمشاركة زعماء دول أخرى، شهدت غياب حزب الجبهة الوطنية اليميني المتطرف برئاسة "ماري لوبان"، حيث حرص الحزب على تنظيم تظاهرات منفصلة، بما ينبئ بتصعيد اليمين المتطرف لحملته ضد مسلمي فرنسا.
تداعيات الحادث على مسلمي أوروبا
ثمة تساؤل رئيسي مفاده: ماذا يعني حادث "شارلي إيبدو" بالنسبة لوضع وصورة المسلمين في أنحاء العالم؟.
في هذا الصدد من المرجح أن تؤجج هذه الحادثة - للأسف - من المشاعر المعادية للمسلمين في فرنسا وأوروبا، والمناهضة لهجرتهم، لاسيما أنها تأتي في وقت تشن فيه أحزاب اليمين المتطرف في بعض دول أوروبا مثل ألمانيا هجوماً واحتجاجات واسعة ضد المسلمين. ومن المتوقع كذلك، أن يعزز هذا العمل الإرهابي من الإدراك الخاطئ لدى الكثيرين في الغرب بأن المسلمين ليس لديهم القدرة أبداً على استيعاب القيم الغربية، ومن ثم وصفهم بأنهم يعانون من التطرف وعدم التسامح.
لذا، ثمة مخاوف من الآثار المترتبة على العلاقات المجتمعية في أوروبا، والتي شهدت خلال فترة الركود الاقتصادي ارتفاعاً كبيراً في شعبية الأحزاب السياسية المتطرفة التي تعارض الهجرة والتعددية الثقافية.
وفي مثل هذه الظروف، لن يكون هناك توجه أو رغبة واضحة للتمييز بين الإسلام والإسلاموية Islamism (وهي أيديولوجية تعتقد أن الإسلام ليس ديناً فقط، لكنه أيضاً نظام سياسي)، حيث ظهرت جماعات في أوروبا تحذر مما أسمته "أسلمة أوروبا"، وقد كانت هناك بالفعل تظاهرات في مدن ألمانية بناءً على دعوة جماعة (الوطنيين الأوروبيين ضد أسلمة أوروبا) وتعرف اختصاراً باسم (بيغيدا)، وإن كان المسؤولون يعارضون مثل هذه الدعوات والتظاهرات، حتى أن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل اعتبرت أن منظمي هذه التظاهرات قلوبهم ملئية بالحقد.
وبناءً عليه، فإنه من المتوقع تنامي ظاهرة "الإسلاموفوبيا" بسبب سلوك المتطرفين من الجانبين، سواء الذين يدَّعون الإسلام ويرتكبون أعمالاً وحشية الإسلام منها براء، وكذلك المتطرفون في الأحزاب اليمينية في الغرب - من أمثال زعيم حزب من أجل الحرية الهولندي "غيرت فيلدرز"، وزعيمة حزب الجبهة الوطنية الفرنسية "ماري لوبان"، واللذين سوف يستخدمان بالتأكيد مثل هذه الأحداث الإرهابية كفزاعة لكسب مزيد من الأصوات في الانتخابات القادمة في كل من هولندا وفرنسا.
وثمة عدة شواهد تعزز هذه السيناريوهات القاتمة بالنسبة لوضع المسلمين في فرنسا بصفة خاصة وأوروبا عامة، ومنها كشف المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية في باريس، أنه رصد وقوع أكثر من 50 اعتداءً ضد المسلمين في فرنسا، تنوعت ما بين إطلاق نار أو إلقاء قنابل أو التهديد أو توجيه شتائم خلال الأيام اللاحقة على وقوع حادث "شارلي إيبدو". وتعد هذه الأرقام صادمة وغير مسبوقة في فرنسا، مما دفع المجلس إلى دعوة السلطات الفرنسية إلى تعزيز الرقابة على المساجد.
كما دشن عدد من المغردين الأجانب هاشتاج #KillAllMuslims على موقع التواصل الاجتماعي "تويتر" يتوعد بقتل المسلمين، وعبَّر هؤلاء عن كرههم للإسلام ووصفوا جميع المسلمين بـ"الإرهابيين".
العلاقات مع دول الشرق الأوسط
بعد الهجمات الإرهابية في فرنسا، ظهر اتجاه في مؤسسات الفكر الغربية يشدد على ضرورة تجنب الحكومات الغربية رؤية العلاقات مع دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من منظور عدسة "مكافحة الإرهاب" فقط. لكن مثل هذه الدعوات تواجه تحديات جمة خاصةً بعد إعلان تنظيم "القاعدة" في اليمن تبنيه حادثة "شارلي إيبدو"، لأن هذا الاعتراف سيزيد مخاوف صناع السياسة الأوروبيين من امتداد العنف الناتج من الصراعات في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فمن شأن هذه المخاطر تكثيف النزعة الحالية لرؤية الحكومات الغربية لهذه المنطقة من خلال عدسة "مكافحة الإرهاب"، وترسيخ فكرة أن الشرق الأوسط هو معمل لتفريغ الإرهاب.
وعلى الرغم أن الانتفاضات العربية عام 2011 أتاحت الفرصة لإعادة توجيه اهتمام السياسات الغربية لدول المنطقة بعيداً عن "الحرب على الإرهاب"، خاصةً أن الجهات المتورطة في العنف في هذه الدول تمثل أقلية ضئيلة من مجموع شعوبها، فإن انتشار التطرف وتدويل الصراع السوري قد أعادا تركيز الحكومات الغربية نحو الحد من المخاطر الأمنية "الجهادية" في بلدانهم.
وإذا كان الانشغال بمكافحة الإرهاب أمراً مقبولاً في إطار سعي المسؤولين دائماً إلى وضع أولوية أمن وطنهم في مقدمة أجندة سياساتهم الدولية، إلا أنه من الأهمية بمكان بالنسبة لأوروبا والولايات المتحدة تجنب تكرار أخطائهما في "الحرب على الإرهاب"، حيث يتعين أولاً على الدول الغربية أن تتذكر في سياساتها وخطاباتها الضحايا غير الغربيين من ممارسات تنظيم "القاعدة" و"داعش"، بما في ذلك مقتل 38 يمنياً على يد "القاعدة" في شبه الجزيرة العربية في يوم حادث "تشارلي إيبدو" نفسه. فالحقيقة أن الولايات المتحدة وحلفاءها لم يقرروا شن هجوم على "داعش" إلا بعد مقتل التنظيم لرعايها في العراق، وهو ما يعني أن المجتمع الغربي ينحاز فقط إلى مواطنيه، وهذا بالطبع يغذي الشعور بالظلم لدى شعوب المنطقة.
وثانياً، على الولايات المتحدة والدول الأوروبية العمل بشكل وثيق مع الحكومات في الدول الإسلامية وكذلك منظمات المجتمع المدني الإسلامية، لمنع مثل هذه الهجمات الإرهابية.
ختاماً، يمكن القول إن عملية باريس التي استهدفت مجلة فرنسية ساخرة، وخلفت نحو 12 قتيلاً وعدداً من الجرحى، كرست مبدأ "الحرب على الإرهاب" الذي من المرجح أن يكون السمة المميزة للقرن الحادي والعشرين مثلما كانت الحرب الباردة هي العلامة المميزة للقرن الماضي.
ومن جانب آخر سيكون لهذا الحادث تداعيات سلبية على الصورة النمطية للإسلام والمسلمين في الغرب، مما يتطلب من الدول والمؤسسات الإسلامية المعتدلة التحرك السريع لمعالجة هذه الصورة الخاطئة، والتي أعادت لأذهان الغرب أحداث 11 سبتمبر، وما ترتب عليها من عداءات للإسلام والمسلمين ليس في الولايات المتحدة وحدها، بل في العالم الغربي كله، ودفع ثمنها العالم العربي والإسلامي.
في المقابل، فإن الغرب مُطالب أيضاً بأن يُراجع سياسته إزاء القضايا التي تمس المسلمين، وكذلك إزاء التغيرات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط بشكل خاص، كما سيتعين على الدول الغربية - وعلى وجه الخصوص تلك التي تشارك في الحملة الحالية ضد "داعش" - التفكير ملياً في كيفية التعامل مع ردة الفعل المعادية للإسلام في بلاد تشعر أقليتها المسلمة بالفعل من التهميش والاستبعاد.
وسعياً نحو تفادي مثل هذه الهجمات الإرهابية، فإن الحكومة الفرنسية قد تلجأ إلى اتخاذ التدابير التالية:
1- تعزيز أجهزة الاستخبارات الفرنسية بعد فشلها في الحد من الهجمات الإرهابية، بالإضافة إلى تنفيذ استراتيجية مختلفة تماماً أو اعتماد قانون جديد لمكافحة الإرهاب. وفي هذا الصدد، ثمة دعوات للحكومة الفرنسية بوجود برامج للوقاية من التطرف، خاصةً أن مثل البرامج توجد في بلدان أخرى (المملكة المتحدة واستراليا وغيرها) وتشمل الأبعاد الاجتماعية والنفسية والدينية، مع السماح للأئمة "المعتدلين" بالتدخل الوقائي في المناطق المحرومة والمهمشة، أو التحدث مباشرة مع المعتقلين لإقناعهم بالتخلي عن رؤيتهم المتطرفة.
2- إيجاد آلية للتعامل مع المئات من المواطنين الفرنسيين الذين غادروا إلى الحرب في سوريا والعراق، تحسباً لعودة بعضهم إلى الوطن وارتكاب أعمال إرهابية.
3- تطوير نظام "شنجن" للسماح بإجراء فحوصات أمنية، وتحسين تبادل المعلومات ذات الصلة بين دول أوروبا لحماية حدودها، والتنسيق بشأن عمليات الهجرة وتدفق اللاجئين.
4- مواجهة دعوات التطرف وانتشار مبادئ "الجهادية" عبر شبكة الإنترنت.