على الرغم من الحديث عن حروب الجيل السادس التي أبرزتها الخبرة الروسية في سوريا من خلال تطوير الردع "غير النووي" أو "ما قبل النووي"، واستخدام تكتيكات عدم الاحتكاك من خلال ضربات موجهة عالية الدقة، فإن هناك حروباً أخرى يواجهها الإنسان مع أنواء الطبيعة وتقلباتها. في سبتمبر 2022، استخدم الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو جوتيريش، مصطلحاً جديداً لوصف التغير المناخي وأثره على جهود التنمية المستدامة. فقد قال أثناء قيامه بجولة في أجزاء من باكستان تعرضت للفيضانات المدمرة إنه "لم يشهد قط مذبحة مناخية بهذا الحجم". فقد أدت هذه الكارثة المناخية إلى وفاة ما يقرب من 1400 شخص نتيجة فيضانات غطت مساحة كبيرة بحجم المملكة المتحدة وأهلكت الحرث والنسل، كما دمرت المنازل، والشركات، والطرق والجسور. وفي السياق نفسه غالباً ما تُوصف أفريقيا بأنها القارة الأكثر تعرضاً للآثار السلبية لتغير المناخ، سواء بسبب التغيير المتوقع نفسه أو بسبب الافتقار الملحوظ لقدرات الأفارقة وحكوماتهم على التكيف. فما هي أهم قضايا مذبحة المناخ “climate Carnage” وأبعادها وتأثيرها على المستقبل الأفريقي؟
خلل هيكلي:
تعلمنا منذ مراحل الدراسة المبكرة أن مناخ الأرض يتغير دائماً، ولكن بسبب أنشطة البشر في عصر التكنولوجيا، فإنه يتغير الآن بشكل أسرع مما كان عليه منذ آلاف السنين. وهو ما يشير إليه الجميع بما في ذلك العلماء والساسة عندما يتحدثون عن تغير المناخ اليوم. ومن الواضح أن هذا التغير المناخي الذي تحول إلى ما يشبه "المذبحة" من حيث آثاره المدمرة سيبقى معنا ولفترة طويلة، وسيؤثر على مجالات الحياة كافة تقريباً، من الصحة والغذاء إلى قطاع السوق والاقتصادات الوطنية.
ويهدد تغير المناخ بتقويض الكثير من التقدم الذي أحرزته البلدان الأفريقية في مسألة التنمية المستدامة. فهو يهدد الأمن الغذائي والمائي والاستقرار السياسي والاقتصادي وسبل العيش وحتى المناظر الطبيعية. وفي المقابل يوفر هذا التقلب المناخي الحاد، الذي يهدد جميع سكان المعمورة، الفرصة للسياسيين وأهل الاقتصاد للعمل لصالح الجميع. فيمكن أن يدفع هذا التحدي الوجودي لإنشاء نماذج وحلول اقتصادية مبتكرة، ومناهج جديدة للتنمية المستدامة وطرق جديدة لاستخدام المعرفة بشكل مبتكر على المستوى الوطني والدولي، على غرار ما بدأته دولة الإمارات العربية المتحدة من خلال استحداث وزارة جديدة باسم التغير المناخي والبيئة.
في المقابل، تواجه أفريقيا حالياً تحديات لا قبل لها بها نتيجة عدم المساواة التي تهيمن على سجل تغير المناخ العالمي، حيث يعكس تغير المناخ في الأساس عدم العدالة البنيوية في النظام الدولي الحالي. فالبلدان والأشخاص الأكثر عرضة للخطر من آثاره المدمرة، والأقل قدرة على التكيف معه، هم الأقل مساهمة في ظهور المشكلة. وإذا كانت البلدان الأشد فقراً تريد تحقيق النمو الاقتصادي بالوسائل نفسها التي استفادت منها البلدان الصناعية - عن طريق حرق الفحم وإزالة الغابات، على سبيل المثال - فإنها لن تؤدي إلا إلى تفاقم مشكلة تغير المناخ.
فعلى الرغم من جدال أغنى البلدان بأن على الجميع - بما في ذلك الدول الفقيرة - السعي لاحتواء تغير المناخ؛ ولكن عندما تطلب البلدان الفقيرة من الدول الغنية مساعدتها، فإنها لا تحصل على التمويل ولا التقنيات التي تحتاجها. وبحلول عام 2030، تشير التقديرات إلى أن ما يصل إلى 118 مليون شخص يعانون فقراً مدقعاً سيتعرضون للجفاف والفيضانات والحرارة الشديدة في أفريقيا، إذا لم يتم اتخاذ تدابير استجابة مناسبة، وفقاً لمفوضية الاقتصاد الريفي والزراعة التابعة للاتحاد الأفريقي. وعلى الرغم من أن هذه الظاهرة ليست قاصرة على أفريقيا وحدها، فإن الافتقار إلى شبكات الأمان وخدمات الدعم لصغار المزارعين على وجه الخصوص يثير المخاوف من أن المزارع المتأثرة بتغير المناخ قد لا تكون قادرة على البقاء في أفريقيا.
سبعة تداعيات:
يمكن الحديث عن سبعة أبعاد لتغير المناخ على الصعيد الأفريقي على النحو التالي:
1. الفيضانات:
الفيضانات هي إحدى عواقب تغير المناخ في أفريقيا، وهي أكثر الكوارث الطبيعية تواتراً في معظم مناطق أفريقيا. فعلى سبيل المثال، أسفر فيضان 2001 المدمر في شمال الجزائر عن مقتل 800 شخص ونحو 400 مليون دولار من الخسائر الاقتصادية. كما تسببت فيضانات عام 2000 في موزمبيق (التي تفاقمت بسبب إعصارين) في مقتل 800 شخص وتشريد حوالي 2 مليون شخص، من بينهم حوالي مليون كانوا في حاجة إلى الغذاء، وألحقت أضراراً بمناطق الإنتاج الزراعي. ووفقاً للوكالة الوطنية لإدارة الطوارئ، تعرضت 33 ولاية من أصل 36 في نيجيريا لفيضانات في عام 2022. ويلاحظ أن العديد من الولايات المتضررة منتجة للغذاء. غير أن بعض هذه الولايات يتعرض لهجمات مزدوجة، من الفيضانات والجماعات الإرهابية المسلحة.
2. ارتفاع درجات الحرارة:
من المتوقع أن ترتفع درجات الحرارة العالمية بمقدار 3 درجات مئوية هذا القرن. ومن المرجح أن يؤثر تغير المناخ في أفريقيا على معدلات هطول الأمطار. وسيزداد عدد الأيام الحارة في غرب ووسط أفريقيا بشكل حاد بمقدار 1.5 - 2 درجة مئوية. ومن المتوقع أن ترتفع درجات الحرارة بشكل أسرع في جنوب أفريقيا بمقدار درجتين مئويتين، وفي أماكن من المنطقة الجنوبية الغربية، وكذلك أجزاء من ناميبيا وبوتسوانا، حيث من المتوقع أن ترتفع درجات الحرارة بشكل ملموس. وربما يُعزى ذلك بشكل رئيسي إلى إزالة الغابات.
3. الجفاف:
لقد أدى الجفاف والتصحر ونقص الموارد إلى تفاقم الخلافات بين المزارعين والرعاة، في حين أدى سوء الحوكمة إلى اضطرابات اجتماعية. فيتسبب انحسار بحيرة تشاد، بسبب تغير المناخ، في التهميش الاقتصادي وخلق أرض خصبة لتجنيد الإرهابيين مع تراجع القيم الاجتماعية والسلطة الأخلاقية. وفي جميع أنحاء القرن الأفريقي، يتأثر ما لا يقل عن 36.1 مليون شخص بالجفاف الشديد في أكتوبر 2022، بما في ذلك 24.1 مليون في إثيوبيا و7.8 مليون في الصومال و4.2 مليون في كينيا. ويمثل هذا زيادة كبيرة عن يوليو 2022 (عندما تأثر ما يقدر بـ 19.4 مليون شخص)، مما يعكس تأثير الجفاف في مناطق إضافية من إثيوبيا، فضلاً عن الاحتياجات المتزايدة في كل من الصومال وكينيا.
4. إمدادات المياه وجودتها:
يؤثر تغير المناخ على الموارد المائية في أفريقيا بطرق عديدة مثل الفيضانات والجفاف والتغيرات في أنماط هطول الأمطار وجفاف الأنهار وذوبان الأنهار الجليدية وانحسار المسطحات المائية. عندما تنخفض مستويات المياه في أنهار أفريقيا الضخمة، ينهار الاقتصاد بأكمله. غانا، على سبيل المثال، تعتمد بشكل كامل على سد أكوسومبو، ولتوليد الطاقة الكهرومائية على نهر فولتا. كما يعتمد الناس في الحصول على مأكلهم ومشربهم وترحالهم في مالي على نهر النيجر. ومع ذلك، تسبب التلوث في تدمير البيئة على جوانب أجزاء كبيرة من النهر. ومن الأمثلة الدالة هنا أن نصف السكان في نيجيريا لا يستطيعون الحصول على مياه الشرب النظيفة. كما يتسبب تغير المناخ في التراجع التدريجي -الكارثي- للأنهار الجليدية في جبل كليمنجارو. ويعطي الصراع حول سد النهضة بين كل من إثيوبيا والسودان ومصر مثالاً آخر على تأثير الجفاف وشح المياه وتحولها إلى تهديد أمني وجودي في دول حوض النيل.
5. الآثار الاقتصادية:
يعد التأثير الاقتصادي لتغير المناخ في أفريقيا كبيراً بدرجة لا يمكن تحمل تبعاتها. يمكن أن يتقلص الناتج المحلي الإجمالي لأفريقيا جنوب الصحراء بنسبة 3٪ بحلول عام 2050. ولعل ذلك سوف يسهم بوضوح في زيادة نسبة الفقراء والمهمشين في أفريقيا. وتشير التقديرات إلى أن واحداً من كل ثلاثة أفارقة، أو أكثر من 400 مليون شخص، يعيش تحت خط الفقر العالمي الذي يقل عن 1.90 دولار في اليوم، بما تضمنه ذلك من معاناتهم من الجوع، ومحدودية إمكانية وصولهم لخدمات التعليم، والكهرباء، والخدمات الصحية.
6. الزراعة:
يمكن أن يؤدي تغير المناخ في أفريقيا إلى زعزعة استقرار الأسواق المحلية، وتفاقم انعدام الأمن الغذائي، وإبطاء النمو الاقتصادي، وتعريض المستثمرين الزراعيين للخطر. وتعد الزراعة في أفريقيا حساسة بشكل خاص لآثار تغير المناخ، لأنها تعتمد في المقام الأول على هطول الأمطار، الذي تأثر بشدة بتغير المناخ في جميع أنحاء القارة. فعلى سبيل المثال، تعتمد منطقة الساحل بشكل كبير على الزراعة البعلية وهي معرضة بالفعل للجفاف والفيضانات التي تُلحق الضرر بالمحاصيل وتقلل من الإنتاجية. في البلدان الأفريقية، ستكون فترات هطول الأمطار (التي تؤدي إلى الجفاف) أو هطول الأمطار الغزيرة (مما يؤدي إلى الفيضانات) أقصر حيث سترتفع درجات الحرارة بمعدل 1.5 مرة أسرع من بقية العالم بحلول نهاية القرن، مما يقلل من إنتاج الغذاء بسبب نقص البنية التحتية وأنظمة الدعم. ومن المتوقع بحلول عام 2030 أن تنخفض غلة المحاصيل بنسب متفاوتة عبر القارة، اعتماداً على الموقع. في جنوب أفريقيا، على سبيل المثال، من المتوقع أن ينخفض هطول الأمطار بنسبة 20٪.
7. الهجرة والنزوح:
يؤثر ارتفاع درجات الحرارة على القابلية للسكن في بعض المناطق. ومع ذلك، من المرجح أن تعبر ضغوط الهجرة المتعلقة بالمناخ عن تضاؤل الفرص الزراعية، مما يعني الانتقال الحتمي للناس من المناطق الريفية إلى المناطق الحضرية، وهو اتجاه قائم بالفعل، وبدرجة أقل، إلى الهجرة عبر الحدود الوطنية. لقد ارتبطت الهجرة في أفريقيا بالمناخ والنزاع المتصل به، فعلى سبيل المثال، في منطقة الساحل، تم الاستشهاد بدارفور كأول نزاع مناخي في العالم. ومن الواضح أن المناخ أسهم بدور ما في الصراع، ولا شك أنه سيستمر في ذلك في المستقبل المنظور.
نحو أمننة تغير المناخ:
إن تطور النظرة إلى التهديدات المناخية باعتبارها مشكلة أمنية قد انتهى بها إلى استخدام اصطلاح "المذبحة المناخية" من قبل الأمين العام للأمم المتحدة أثناء تفقده فيضانات باكستان كما أسلفنا القول. في أبريل 2007، عقد مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة أول مناقشة له على الإطلاق حول تغير المناخ كقضية أمنية عالمية. فإلى جانب حالة دارفور التي أشير لها سابقاً، تركز المناقشات الجوهرية الآن على دور تغير المناخ في زيادة الصراع في أفريقيا. ومع ذلك، تشير التحليلات الأكثر دقة إلى أن الروابط المباشرة بين المناخ / تغير المناخ والصراع أضعف بكثير مما يُفترض عادة، أو أنها تؤثر بشكل غير مباشر. وعليه فإن التكيف مع التغيرات المناخية يحتاج إلى نهج متعدد المسارات على أن يتأتى ذلك من خلال فهم أفضل للمناخ الأفريقي والقيام بمزيد من الأبحاث التي يقوم بها الأفارقة بأنفسهم عن منطقتهم. فهل تشهد أفريقيا جيلاً جديداً من حروب المستقبل في صراعها مع أنواء ومخاطر الطبيعة؟