أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

بين المستودعات والضرائب:

استراتيجيات وحلول لمواجهة انعدام الأمن الغذائي العالمي

11 نوفمبر، 2024


عرض هبة محيي

تجتاح العالم موجات متتابعة من انعدام الأمن الغذائي، خاصة في الدول النامية التي لا تملك ما يكفي من الموارد الغذائية لإشباع احتياجات شعوبها، وتفاقمت تلك الظاهرة أكثر في السنوات الأخيرة في ظل حالة الاضطرابات السياسية العالمية، والكوارث الطبيعية والجوائح الصحية مثل جائحة كورونا.

بيد أن هذه الأزمة لا تقتصر آثارها السلبية على الدول النامية؛ بل امتدت للدول المتقدمة في ظل تداعيات العولمة؛ لذلك أصبح موضوع انعدام الأمن الغذائي العالمي محور اهتمام المراكز البحثية الأوروبية، ومنها مؤسسة هاينرش بول الألمانية، التي قامت بإصدار ورقة بحثية في يونيو 2024 بعنوان "انعدام الأمن الغذائي العالمي: الأسباب وديناميكية الحل". وناقشت الورقة أهم المسببات الحالية للأزمة وسبل الخروج منها على المديين القصير والطويل.

حقائق ومسببات: 

وفقاً لمنظمة الأغذية والزراعة "الفاو"، فالأمن الغذائي هو الوضع الذي يتحقق عند حصول جميع الناس بصورة مستمرة على أغذية سليمة تلبي احتياجاتهم وتفضيلاتهم الغذائية للتمتع بحياة نشطة صحية. وعلى الرغم من التقدم العالمي الراهن في جميع المجالات، فقد تفاقمت مشكلة انعدام الأمن الغذائي، ففي العام 2022، أظهرت الإحصاءات أن 800 مليون شخص حول العالم يعانون من الجوع المزمن؛ وهو ما يمثل زيادة قدرها 122 مليون شخص مقارنة بعام 2019.

وترجع بدايات أزمة انعدام الأمن الغذائي في الوقت الراهن إلى جائحة كورونا؛ إذ أدت الإجراءات المتخذة للحد من التفشي إلى إغلاق الحدود وتراجع التجارة الخارجية، مما أثر سلباً في الإمدادات الغذائية للدول النامية التي تعتمد على الاستيراد؛ ونظراً لصعوبة الحصول على المواد الغذائية وقت الجائحة، فقد ارتفعت معدلات التضخم، والتي أدت بدورها إلى ارتفاع في نفقات استيراد المواد الغذائية المتاحة وقتها عالمياً بمقدار 268 مليار دولار، وقد تحملت الدول النامية ثلثي الزيادة في تلك التكاليف. وتضافر مع أزمة كورونا مسببات أخرى سياسية واجتماعية واقتصادية فاقمت أزمة انعدام الأمن الغذائي، من أبرزها:

- الحرب الروسية الأوكرانية: تُعد روسيا وأوكرانيا قوتان تصديريتان هائلتان للذرة والبذور الزيتية والقمح، وعليه فمع اندلاع الحرب في فبراير 2022، شهدت الأسواق العالمية للحبوب زيادة هائلة في الأسعار زاد من حدتها تكثيف أنشطة المضاربة في السوق العالمية للحبوب. وألقى هذا الأمر بظلاله بشكل خاص على إفريقيا والشرق الأوسط كدول رئيسية مستوردة لتلك السلع من الدولتين المتحاربتين. وفي ظل الحاجة للبحث عن مصادر بديلة للتصدير مع الأجواء السائدة من ارتفاع التضخم وسعر الفائدة، بلغت الديون الخارجية العامة للدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط في عام 2023 أكثر من ثلاثة تريليونات دولار أمريكي؛ أي ضعف ما كانت عليه في عام 2010.

- ارتباط أسعار الطاقة والغذاء: يحتاج إنتاج المواد الغذائية بمراحله المختلفة إلى ما يقارب 15% من إنتاج الطاقة الأحفورية عالمياً، والتي تستخدم في تصنيع الأسمدة الاصطناعية والمبيدات الحشرية، مروراً بالحاجة إلى الوقود لتشغيل الآلات والمعدات الزراعية، وصولاً إلى الآلات المستخدمة في الفرز والتعبئة للمواد الغذائية. وارتفعت أسعار الأسمدة في إبريل 2022 بنسبة 200% مقارنة بالعام السابق له، ويمكن تفسير ذلك جزئياً بأنه نتيجة للعقوبات المفروضة على صادرات الغاز من روسيا وبيلاروسيا نتيجة للحرب في أوكرانيا.

- ازدهار المضاربة على الغذاء: شهدت المضاربة في مجال المواد الغذائية رواجاً كبيراً منذ أوائل التسعينيات، ولاسيما مع إلغاء القيود المفروضة على تدفق رؤوس الأموال وتقليص الرقابة على الأسواق المالية آنذاك، بالتزامن مع تخفيف القواعد والقيود التي تم وضعها على البنوك. ويعمد المضاربون إلى التربح من تقلب أسعار المواد الغذائية، من خلال المراهنة على ارتفاع وانخفاض الأسعار؛ ومن ثم تحقيق ربح سريع. فخلال الأسبوع الأول من مارس 2022 (بعد نشوب الحرب الروسية الأوكرانية) تدفقت 4.5 مليار دولار إلى الصناديق التي ضاربت بالمواد الخام الزراعية في جميع أنحاء العالم؛ أي ما يعادل التدفقات الاستثمارية لشهر كامل في الظروف العادية؛ مما أدى لحدوث تغيرات عنيفة في أسعار المواد الغذائية أضرت بالعديد من بلدان العالم.

- احتكار الشركات الغذائية: تتحكم خمس شركات كبرى -هي: (Archer Daniels) وهي شركة أمريكية متخصصة في معالجة الحبوب والبذور الزيتية وتعمل في إنتاج الغذاء والوقود الحيوي، وشركة (Bunge) التي هي شركة عالمية تركز على معالجة البذور الزيتية وتجارة الحبوب، وشركة (COFCO) التي تعتبر أكبر شركة حكومية صينية تعمل في معالجة وتجارة الأغذية، وشركة (Cargill) الأمريكية الخاصة التي  تُعد من أكبر الفاعلين في الزراعة والأغذية، وشركة (Louis Dreyfuss) وهي شركة دولية متخصصة في تجارة السلع الزراعية مثل: الحبوب والسكر- في 70% إلى 90% من الإنتاج العالمي للحبوب، حيث تُعد تلك الشركات كتلاً اقتصادية ضخمة تضم مئات من الشركات التابعة التي تباشر عمليات الإنتاج، بدءاً بتزويد المزارعين بالحبوب والسماد حتى معالجة ونقل وتوزيع الحبوب. وتمتلك تلك الكيانات الضخمة معلومات عن كل عمليات الإنتاج بالإضافة إلى مخازن عملاقة تمكنها من تخزين كميات كبيرة من الحبوب؛ ومن ثم التحكم في المعروض والأسعار وتقلباتها خاصة في أوقات الأزمات، وقد تضاعفت أرباح تلك الشركات ثلاثة أضعاف بين عامي 2016 و2020، بصافي أرباح يزيد على 17 مليار دولار.

- العلاقة الطردية بين الواردات والأمن الغذائي: توصل خبراء صندوق النقد الدولي إلى نتيجة مفادها أن حدوث زيادة 1% في أسعار المواد الغذائية الدولية يؤدي إلى ارتفاع الأسعار المحلية بنحو 0.3%؛ وذلك من خلال تحليل بيانات شهرية لنحو 100 دولة خلال الفترة من 1991 إلى 2020. وأورد الخبراء أن نسبة الزيادة في الأسعار المحلية تزيد بزيادة اعتماد الدول على الواردات؛ وعليه فإن هذه النسبة تتفاقم إلى حد كبير في البلدان النامية؛ إذ أسهم ارتفاع أسعار المواد الغذائية في مصر وكينيا ونيجيريا وأوغندا بأكثر من نصف إجمالي التضخم في الأسعار في عام 2023، بينما كان ارتفاع أسعار المواد الغذائية في ألمانيا مسؤولاً عن ربع إجمالي التضخم في نفس الفترة الزمنية.

المستودعات كورقة رابحة:

ركزت الورقة البحثية على العديد من الاستراتيجيات والحلول التي قد تؤتي ثمارها في الأجلين القصير والطويل لمواجهة انعدام الأمن الغذائي، ومن أبرزها إنشاء المستودعات الاستراتيجية للمواد الغذائية، والتي اعتبرتها ورقة رابحة وحلاً عملياً قصير الأجل لحل مشكلة عدم توافر المواد الغذائية وارتفاع أسعارها الناتج عن قصور العرض عن تغطية الطلب في وقت ما. 

تقوم فكرة المستودعات على تخزين الفائض من الإنتاج في أوقات الحصاد للسلع الاستراتيجية؛ ومن ثم العمل على ضخها في الأسواق عند الحاجة لذلك كنقص السلعة أو ارتفاع سعرها. وعادة ما تقوم الدول أو الحكومات منفردة بإدارة تلك المستودعات، لكن قد تلجأ إلى الاستعانة بدول أخرى ومنظمات إقليمية ودولية كالأمم المتحدة للمساهمة في تنفيذ تلك المستودعات وتحقيق الكفاءة المطلوبة، مع ضمان توافر الشفافية وتقليل حالات الفساد ومحاولة التربح من تلك المخازن. وثمة مجموعة توصيات تخص تلك المستودعات الغذائية، من أبرزها:

- توفير الدعم المعلوماتي والمادي من المؤسسات الدولية (كمنظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة) للدول الأكثر عرضة لانعدام الأمن الغذائي لإقامة المستودعات الاستراتيجية الخاصة بها، وفي هذا الصدد تم تنفيذ مبادرات ناجحة في كينيا والإكوادور حديثاً. 

- مساعدة الدول النامية على التحرر من سياسات (التكيف الهيكلي) لصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية لمساعدة الدول على خفض العجز في ميزان مدفوعاتها والحصول على القروض عن طريق زراعة المحاصيل النقدية كالقهوة والكاكاو والسكر؛ ومن ثم العمل على بناء القدرات المحلية لتحقيق السيادة الغذائية في السلع الاستراتيجية الغذائية.

- توفير مسارات تمويلية نقدية وسلعية للمستودعات الاستراتيجية بواسطة منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة، مثل إبرام الاتفاقيات مع الكيانات العملاقة المنتجة للحبوب للمساهمة في الأجندة التمويلية دون الإجحاف بحقوقها أيضاً. 

- السعي لإنشاء مستودعات استراتيجية إقليمية قد يمثل عنصراً داعماً ومكملاً للمستودعات المحلية في ظل مبادرة المؤسسات الدولية لوضع أسس منظمة لتلك المستودعات لضمان درء الاختلافات أو النزاعات الإقليمية. جدير بالذكر أنه قد تم تنفيذ تلك الفكرة في غرب إفريقيا وجنوب شرق آسيا، وتتم مناقشة تنفيذ المبادرة حالياً في شرق إفريقيا.

حلول متكاملة:

بجانب فكرة المستودعات الاستراتيجية طرحت الورقة البحثية حلولاً أخرى تتكامل معها لمواجهة انعدام الأمن الغذائي في دول العالم، وهي:

- إنشاء لجان لمراقبة أسعار المواد الغذائية؛ بحيث يكون لديها السلطة لاستصدار العديد من القرارات، كتحديد هامش الربح في قطاعات المواد الغذائية، أو تنفيذ حظر قانوني على عمليات البيع للسلع الغذائية بأسعار تقل عن تكاليف الإنتاج. ويصبح دور هذه اللجان مفيداً لطرفي العملية الشرائية، فتحمي البائع من التقلبات السعرية، وتوفر للصانع والمزارع أسعاراً أفضل لسلعهم.

- تقليص عمليات المضاربة أو الاستثمار في الأدوات المالية المتعلقة بالسلع والمواد الغذائية والمواد الخام الأساسية، مثل وضع القيود المنظمة لعمليات الاستثمار في المشتقات المالية على المنتجات الزراعية.

- فرض ضرائب تصاعدية على صافي أرباح الشركات العاملة بمجال المواد الغذائية على غرار الضريبة التصاعدية المفروضة على الشركات العاملة في مجال الطاقة، فوفقاً للدراسات فإن تطبيق ذلك النوع من الضرائب على الشركات الخمس العملاقة في قطاع الحبوب المذكورة آنفاً، كان سيجلب إيرادات بنحو 2 مليار دولار لعام 2022. 

- دعم تطبيق أسس المنافسة في أسواق المواد الغذائية عن طريق إتاحة شفافية المعلومات في المجال وتقديم الدعم الحكومي للمزارع الصغيرة والأسواق المحلية، ومساعدتها على التحول نحو تطبيق مبادئ (الزراعة البيئية)، والتي تُعنى بتنفيذ استراتيجيات زراعية مستدامة تأخذ في اعتبارها التوافق بين الأبعاد الاقتصادية والبيئية والاجتماعية.

ختاماً، تسعى الدول على اختلاف إمكاناتها الاقتصادية والجيوسياسية لتوفير الأمن الغذائي لشعوبها؛ لأنه ينعكس على صحة وكفاءة العنصر البشري؛ لذلك، اهتمت الورقة البحثية بذكر العديد من المبادرات الدولية في الدول النامية والمتقدمة في هذا الصدد ومنها، إصدار إسبانيا قانون في عام 2021، لتجريم بيع المنتجات بأسعار تقل عن تكاليف الشراء؛ لضمان استقرار الأسعار، كما نصت سياسات الاتحاد الأوروبي صراحة على أهمية إنشاء مستودعات للسلع الغذائية المُعرضة للتقلبات السعرية؛ وعليه تم إنشاء العديد من المستودعات للعديد من السلع مثل: الزبد، والحبوب مثل: الشعير والذرة والأرز والقمح.

وهنالك أيضاً مبادرة الشركة الوطنية للتوريدات (CONAB) التابعة لوزارة الزراعة البرازيلية التي تشتري نسباً معينة من الأرز والذرة والقمح لضمان استقرار الأسعار، وتنص السياسات البرازيلية على توفير وجبات غذائية يومية للأطفال الذين يرتادون المدارس الحكومية، أما الصين والهند اللتان تملكان أكبر عدد من سكان العالم فقد أسستا منذ سنوات مستودعات لأهم السلع الغذائية الاستراتيجية لمواجهة انعدام الأمن الغذائي.

المصدر:

Isabella Weber & Merle Schulken, Öffentliche Nahrungsmittelspeicher zur Preisstabilisierung und ihr Beitrag zur Transformation der Ernährungssysteme, Heinrich-Böll-Stiftung, May, 2024.