قالت ورقة صادرة عن مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة إن أي حرب دفاعية أو رد فعل لن يفلحا في وضع حد للإرهاب، إن لم يكن بالقضاء عليه قضاء مبرم، فعلى الأقل تقليل خطره إلى أدنى حد وتعويق وجوده إلى أقصى مدة ممكنة، وهي مسألة تبدو ملحة لأي دولة وأي مجتمع يواجه أفعال الإرهابيين من قتل وتخريب وتدمير.
والحرب الناجعة في مواجهة الإرهابيين يجب أن تعتمد على “المبادأة” أو “المبادرة” التي تُمكن الدول من مداهمة الإرهاب في طريقة تفكيره، ووسائل تدبيره، على حد سواء، بما يشتت جهد الإرهابيين، ويحبط أعمالهم، ويسهل عملية الوصول إليهم والقبض عليهم، وفق الورقة البحثية التي وقعها الباحث عمار علي حسن.
أدوات تفكير جديدة:
رصدت الورقة وعوداً كثيرة من كبار الساسة في العالم عن استئصال الإرهاب، لكنها لم تُجد نفعاً، فمازالت ترن في الآذان كلمة الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش وهو يقول عقب أحداث 11 سبتمبر 2001: “سنخرجهم من جحورهم وسنسحقهم”، لكن بعد وعيده هذا، اتسعت رقعة الإرهاب إلى درجة أن استطاع، لأول مرة في التاريخ المعاصر، من اقتطاع أرض من دولتين وإقامة “دولة” مزعومة عليها.
ووفق الورقة يدل استفحال الإرهاب على أن الطريقة التقليدية لمواجهته لم تعد كافية، وتفرض ضرورة استعمال بعض الخيال في خطط مكافحته، وهو ما يعني أمرين أساسيين؛ هما أن نعرف كيف يفكر الإرهابيون، ونضع تصورات (قبلية) لمواجهة تفكيرهم، والأمر الآخر أن نعرف كيف يدبرون ونضع الخطط المسبقة التي تمنعهم من تنفيذ عملياتهم الوحشية.
هذان الأمران مرتبطان، حسب المصدر البحثي، إلى حد بعيد بتوفير معلومات وافية عن التنظيمات الإرهابية، من حيث تاريخ نشأتها وأفكارها التي تتباين في بعض التفاصيل من تنظيم إلى آخر، وإن تطابقت في الرؤية العامة، وأماكن توزعها وتمركزها ونشاطها، وكذلك الشخصيات البارزة في هذه التنظيمات، وخلفياتها التعليمية وشبكة علاقاتها البينية، وما إذا كانت هناك ارتباطات مع أجهزة استخبارات أجنبية من عدمه، وكل العمليات الإرهابية السابقة التي شارك أعضاء التنظيم فيها، ومدى تقييم التنظيم لنتائج هذه العمليات.
الخيال وتوقع الإرهابيين:
اعتبرت الورقة أن هذه المعلومات ستجعل بوسعنا أن نضع عشرين سيناريو، في الحد الأدنى، للعمليات الإرهابية المتوقع حدوثها في المستقبل، وهذا يخلق كفاءة عالية في التصدي للإرهابيين؛ ويمكن تعزيزها بجمع مزيد من المعلومات عن تحركات الإرهابيين المستقبلية. لكن يجب الأخذ في الاعتبار أنه مهما كانت المعلومات قوية وذات مصداقية وغزيرة فإنها لا تغني عن التخيل.
ويمكن هنا ضرب مثال بعملية استجواب الإرهابيين، فإذا كانت مصادر الحصول على المعلومات الخاصة بالتنظيمات والقيادات الإرهابية تتعدد وتتفاوت في مصداقيتها وثباتها وغزارتها ودرجة الاعتماد عليها، فإن أهمها هو استجواب من يتم القبض عليهم من الإرهابيين الذين يخضعون للتحقيق لدى الشرطة والقضاء. وتلك وسيلة مهمة من دون شك، لأنها تجلب المعلومة من مصادرها الأصلية، لكنها، مع هذا، تبدو قاصرة عن مساعدتنا على تخيل السيناريوهات المستقبلية للإرهابيين، أو الطريقة التي سينفذون بها عملياتهم القادمة، وذلك لثلاثة أسباب تعددها الورقة:
1- قد ينكر الإرهابي بعض الوقائع، ويخفي معلومات عن مستجوبيه، إما من منطلق ولائه للتنظيم الإرهابي وأفكاره، خاصة إن كان مُدرباً على التمويه والخداع، أو بغية تبرئة النفس، لأن معلومات حقيقية إن قِيلت ستؤدي إلى إدانة الإرهابي المقبوض عليه، وتمهد لسجنه أو إعدامه.
2- حتى لو اعترف الإرهابي بكل شيء عن التنظيم، من حيث قياداته وأفراده ومصادر تمويله وما يحوزه من إمكانيات في التسليح والتدريب، فإن هذه معلومات هي عن الماضي، أو الأيام الفائتة التي كان فيها الإرهابي شاهداً على هذه المعلومات أو مشاركاً في صناعتها، وليست عن اللحظة الراهنة، أو المستقبل. ومن ثم لا يجب التعامل مع ما يدلي به الإرهابي من اعترافات باعتبارها وسيلة سهلة لتحديد الآتي في التعامل مع الإرهابيين دون بذل أدنى جهد، سواء بتحليل المعلومات المتوفرة من تلك الاعترافات وتوظيفها في تخيل سيناريوهات المستقبل، أو بتعزيز عملية التخيل تلك بمعلومات من مصادر أخرى.
3- لا يجب أن نتصور أن الإرهابيين أناس سذج ومن ثم سينفذون الخطط نفسها، من دون أي تعديل، بعد عملية القبض على عناصر منهم اطلعت على هذه الخطط أو شاركت في صناعتها. ففي الواقع لا يعطي التنظيم الإرهابي أسراره لكل أعضائه، بل يضعها في يد حلقة ضيقة، ولا يمنح العناصر العادية أو الهامشية إلا معلومات في حدود المهام الجزئية المكلفة بها. كما أن بعض التنظيمات تأخذ الشكل العنقودي، فتتوزع إلى مجموعات صغيرة، همزة الوصل بين كل منها والأخرى لا تتعدى شخصاً واحداً، وقد تتحرك همزات الوصل تلك بأسماء حركية مستعارة.
مؤشر علمي مقترح:
مع تصاعد الإرهاب في العالم إلى حد غير مسبوق، بات من الضروري أن نعمل الخيال العلمي في صياغة مؤشر علمي لقياسه، لنعرف درجاته واتجاهاته ومستوياته، بما يفتح الباب لتحديد رؤى نظرية وخطط عملية لمواجهته.
ويمكن أن يكون هذا المؤشر مكوناً من 10 نقاط، قابلة للزيادة، حسب الوثيقة:
1- المدى الزمني: أي المدة الفاصلة بين العملية الإرهابية وأختها، فكلما زادت هذه المدة نقول إن “الإرهاب يتراجع” والعكس صحيح.
2- الشدة: هذه النقطة تكمل السابقة، فيمكن أن يكون المدى الزمني بين العملية الإرهابية ولاحقتها كبيراً، لكنها عمليات شديدة في إزهاق الأرواح وتدمير المنشآت. وكلما كانت العمليات شديدة أو “نوعية” نكون أمام إرهاب متزايد بغض النظر عن التباعد الزمني؛ وعلى النقيض إن كانت عمليات خفيفة لا تخلف قتلى وجرحى كثيرين وتدميرا واسع النطاق نكون أمام تراجع لمستوى الإرهاب.
3- النمطية: أي معرفة ما إذا كانت العمليات الإرهابية تسير على وتيرة واحدة، حيث لا يتبع الإرهابيون أساليب جديدة ومبتكرة ومغايرة في جرائمهم، أم إنهم يجددون فيها، فلا تشبه عملية إرهابية أختها، وهذا دليل على مستوى التخطيط والذكاء الإجرامي من عدمه.
4- التوزيع الجغرافي: إذا كانت العمليات الإرهابية محصورة في بقعة جغرافية ضيقة نكون أمام عمليات محدودة يمكن السيطرة عليها، والعكس صحيح إن كان الإرهابيون يوزعون عملياتهم على نطاق جغرافي واسع، بما يؤدي إلى تشتت قوى الأمن، ويزيد من التأثير السياسي والاقتصادي لإرهابهم
5- مدى تحقيق الأهداف الإرهابية: يمكن أن تتكرر العمليات الإرهابية لكنها لا تحقق الأهداف السياسية والاقتصادية والأمنية التي يسعى إليها الإرهابيون، ويمكن أن يحدث العكس؛ فالإرهاب لا يرتكب لذاته إنما لأهداف يقصدها الإرهابيون، وتقييمنا لقوة الإرهاب من ضعفه يجب أن يضع في الاعتبار مدى تحقيق مثل هذه الأهداف التي حددها منفذو الإرهاب أو من يمولهم ويقف وراءهم، وأعلنوها أو تلك التي نستشفها من قراءة أفكارهم وبياناتهم وتصريحاتهم وطبيعة عملياتهم.
6- التجنيد والتكاثر: المقصود هنا أن تكون جماعات قد دخلت على خط الأحداث وتبنت عمليات إرهابية، أم إن جماعات بعينها ثابتة وتتكرر هي التي تتبناها. فلو وجدنا أن هناك جماعات أخرى تدخل إلى ساحة الإرهاب نقول إن “الإرهاب يتزايد” والعكس صحيح، شريطة أن ندقق في هذا الشأن، لأن بعض الجماعات الإرهابية الكبرى تنتحل أسماء جماعات ليس لها وجود وتعلن باسمها العمليات الإرهابية لتضليل الأمن، وخداع الرأي العام. كما يجب أن نأخذ في الاعتبار مدى قدرة الجماعات الموجودة بالفعل على تجنيد عناصر جديدة من عدمها.
7- الإجراءات الوقائية: هي التصورات والخطط التي تضعها الدولة في سبيل مكافحة الإرهاب، سواء على المديين القريب والمتوسط أو البعيد، وتبدأ بجمع المعلومات ثم الدخول في حرب (استباقية) ضد الإرهابيين. ويتزامن هذا مع إستراتيجية لتطويق الإرهاب وتبديده، لها جوانب فكرية واقتصادية واجتماعية وقانونية وأمنية.
8- موقف القاعدة الشعبية: فوقوف الشعب طرفاً في الحرب على الإرهاب مسألة مهمة، فليس بوسع الإرهاب أن يهزم سلطة ولا دولة يلتف شعبها حول تصورات وإجراءات لمكافحة الإرهابيين. ومن الخطر أن يقف الشعب على الحياد في المعركة ضد الإرهاب.
9- الحاضنة الاجتماعية: الإرهاب ليس بوسعه الاستمرار إذا كانت البيئة الاجتماعية تلفظه، والعكس صحيح؛ لذا علينا أن نقف بدقة على الفروق بين البيئات “المنتجة” و”المنسجمة” و”الموظفة” للإرهاب.
10- المواقف الدولية: أي مدى تعاطف الدول الخارجية مع الدولة التي تواجه الإرهاب، وتفهمها للإجراءات التي تتخذها في سبيل مكافحة الإرهاب وتأييدها لها.
المصدر: هسبريس.