أجرى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون اتصالاً هاتفياً بالرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، في 6 سبتمبر الجاري، في ثاني اتصال من نوعه بنظيره الإيراني منذ تولي الأخير الرئاسة، لمناقشة استئناف المفاوضات الرامية لإحياء الاتفاق النووي لعام 2015، في فيينا بعد عقد ست جولات سابقة. وجدد رئيسي، خلال الاتصال، التأكيد على أن طهران تدعم استئناف "المفاوضات المثمرة" بشرط رفع كلي للعقوبات المفروضة على إيران، وهو ما يمثل مماطلة إيرانية للعودة لطاولة المفاوضات.
استمرار التصعيد الإيراني:
تبدي إيران موقفاً متعنتاً إزاء استئناف التفاوض مع الولايات المتحدة، وتتبنى نهجاً يقوم على التسويف والمماطلة في العودة للمفاوضات مع تصعيد أنشطتها النووية، وهو ما يمكن تفصيله على النحو التالي:
1- المماطلة والتسويف: أوقفت إيران التفاوض في فيينا، والتي عُقدت آخر جولاتها في أواخر يونيو الماضي، بحجة فوز إبراهيم رئيسي بالانتخابات في أغسطس الماضي، والانتظار لحين تشكيله حكومة جديدة.
وبعد تشكيل الحكومة في 25 أغسطس الماضي، لم يتم الإعلان عن موعد لاستئناف المفاوضات، بل صرح وزير الخارجية الإيراني الجديد، أمير عبداللهيان، مطلع سبتمبر الجاري، أن العودة للتفاوض "تستغرق شهرين أو ثلاثة حتى تصبح الحكومة الجديدة راسخة وتخطط لأي نوع من القرارات بشأن هذا الموضوع"، أي أنه لن يتم استئناف المحادثات حتى ديسمبر القادم.
2- رفع العقوبات أولاً: يؤكد الرئيس الإيراني ووزير خارجيته، ضرورة أن يتم رفع جميع العقوبات المفروضة، حتى يتسنى لطهران المضي قدماً في التفاوض مع واشنطن، فضلاً إصرار إيران على عدم التطرق إلى أي موضوع خارج نطاق الاتفاق النووي، وهما شرطان تدرك طهران أن واشنطن ترفضهما بشكل مبدئي.
كما أن الشرط الأول غير منطقي، إذ إن رفع العقوبات لن يجعل هناك أمام إيران أي حافز لتقديم تنازلات في الملفات الخلافية. ولذا أكد وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، مراراً، أن "واشنطن ستظل متمسكة بالعقوبات المفروضة على إيران طالما ترفض الأخيرة الالتزام الكامل بمضامين الاتفاق النووي".
3- تعنت خامنئي: يدخل ملف المفاوضات النووية ضمن الاختصاصات التي تقع في يد المرشد علي خامنئي في إيران، بينما يكون دور الرئيس وحكومته فيه محدوداً، وتقتصر على تنفيذ التعليمات التي يصدرها المرشد، أي أن المماطلة والتسويف الإيراني هما بتوجيه من المرشد، والذي بات على قناعة بأن واشنطن تراهن على الحلول الدبلوماسية وحدها، ولا تمتلك أي خيارات أخرى في التعامل معها.
4- التصعيد في الملف النووي: سرعت إيران وتيرة تخصيبها اليورانيوم، والذي وصل إلى حوالي 10 كيلوجرامات عند مستوى تخصيب 60%، وفقاً لما أشارت إليه الوكالة الدولية للطاقة الذرية في 7 سبتمبر، فضلاً عن إنتاجها معدن اليورانيوم، والذي يُستخدم في صناعة الأسلحة النووية، بمقدار 200 جم بنسبة تخصيب 20%، وفق تقرير آخر للوكالة صادر في 17 أغسطس الماضي، وهو ما يمثل انتهاكاً صارخاً للاتفاق النووي.
وتمكنت إيران من القيام بذلك عبر توظيف أجهزة طرد مركزي متقدمة، خاصة من الجيل السادس، في محطتي نطنز وفوردو، وباستخدام مجموعتين من أجهزة الطرد المركزي بدلاً من مجموعة واحدة.
وتواصل إيران انتهاكها لالتزاماتها النووية، عبر تبنيها قانون "الإجراءات الاستراتيجية من أجل رفع الحظر" الذي وافق عليه مجلس الشورى الإيراني مطلع ديسمبر الماضي، وصادق عليه البرلمان الإيراني، الأربعاء 7 سبتمبر.
5- طرد المفتشين النوويين: أوقفت إيران اتفاق مراقبة الأنشطة النووية مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، في 24 يونيو الماضي، ما يعني عدم السماح لمفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية بدخول البلاد لمراقبة والتحقق من التزامات إيران المتعلقة بالمجال النووي بموجب خطة العمل الشاملة المشتركة.
6- زيادة الاستفزازات الإقليمية: تواصل إيران تهديد الأمن الإقليمي، حيث تستهدف، عبر وكلائها في المنطقة، الوجود الأمريكي في العراق وسوريا، فضلاً عن مهاجمة السفن والناقلات في المنطقة، وذلك بالتزامن مع تولي الرئيس المحافظ إبراهيم رئيسي مقاليد السلطة في إيران، وهي كلها رسائل إيرانية بأن طهران سوف تستخدم وكلاءها لتهديد الأمن الإقليمي في حال تعرضها لأي اعتداء بسبب برنامجها النووي.
سياسات أمريكية مقابلة:
اتخذت الإدارة الأمريكية، خلال الفترة الأخيرة، لهجة تصعيدية تجاه إيران وأعلنت عن عدد من التدابير، والتي يمكن توضيحها على النحو التالي:
1- الانسحاب من المفاوضات: هددت واشنطن بالانسحاب من المفاوضات، إذ أكدت أنها لا يمكن أن تستمر إلى ما لا نهاية، فضلاً عن التحذير باتخاذ "مسارات أخرى"، إذا فشل التفاوض مع إيران، وهي بذلك تسعى للتأكيد أمام المجتمع الدولي أن طهران هي التي تتعنت للتفاوض، وتهيئ المجتمع الدولي للقبول بخيارات أخرى.
2- فرض عقوبات إضافية: أشارت تصريحات المبعوث الأمريكي الخاص إلى إيران، روبرت مالي، في 4 سبتمبر، إلى أن واشنطن أعدت بعض الخطط الطارئة، والتي منها فرض مجموعة من العقوبات الجديدة بالتنسيق مع الحلفاء الأوروبيين، من دون توضيح ماهيتها. كما بدأت إدارة بايدن في تبني سياسات لتقييد قدرة طهران على استيراد المكونات التي تدخل في تطوير الصواريخ والطائرات من دون طيار، بما يحجم من التهديدات الإيرانية في النهاية.
3- توقيع اتفاق جزئي أو منفصل: يتمثل الخيار الأول في تقديم واشنطن امتيازات اقتصادية محدودة لطهران مقابل توقف إيران، أو ربما تراجعها عن انتهاكاتها للاتفاق، في إشارة لما يمكن اعتباره أسلوب "الأقل مقابل الأقل"، بما يمهد في النهاية لعودة تدريجية للاتفاق.
أما الخيار الثاني، فيتمثل في توقيع اتفاق جديد منفصل عن الاتفاق النووي لعام 2015. ولا شك أن الخيارين يتوقفان على مدى تجاوب إيران معهما، وهو أمر مشكوك فيه بالنظر إلى تعنت المرشد في العودة لأي مفاوضات.
4- تنفيذ عمليات تخريبية: صرّح الرئيس الأمريكي، جو بايدن، عقب مباحثاته مع رئيس الوزراء الإسرائلي، نفتالي بينيت، في 27 أغسطس الماضي، أن واشنطن مستعدة "للتحول إلى خيارات أخرى"، في إشارة إلى امتلاك واشنطن بدائل للتعامل مع إيران، غير الخيار الدبلوماسي.
وكشفت مصادر إسرائيلية مطلعة على نتائج اللقاء بين بايدن وبينيت أن هناك اتفاقاً مع الإدارة الأمريكية على عدم السماح لطهران بالوصول إلى السلاح النووي، وأنه تم الاتفاق على تنفيذ عدد كبير من العمليات التخريبية ضد البرنامج النووي الإيراني، عبر استراتيجية "الموت بألف طعنة"، والتي تستهدف تدمير البرنامج النووي الإيراني، مع تجنب خيار الذهاب لمواجهة عسكرية شاملة ضد إيران.
5- تحجيم التهديدات الإيرانية: أطلقت واشنطن قوة عمل جديدة تضم طائرات من دون طيار محمولة جواً وبحراً ضمن المهام القتالية للأسطول الخامس الموجود في المنطقة، في إطار سعي الولايات المتحدة لتأمين حركة التجارة والملاحة، وتحجيم قدرة إيران على استهداف السفن والناقلات النفطية والتهديد بإغلاق المضائق الحيوية في المنطقة.
ويلاحظ أن هذه الخطوة قد تكون مؤشراً على نية واشنطن تحجيم طهران عسكرياً، في حال قررت النظر في خيارات أخرى غير المسار الدبلوماسي، سواء تمثل ذلك في العقوبات الاقتصادية، أو العمليات التخريبية.
وفي الختام، يمكن القول إن توصل إيران لحيازة سلاح نووي هو خط أحمر بالنسبة لواشنطن، غير أنها لم تتبن بعد أي سياسات، تتمتع بالمصداقية، يمكن أن تعيد إيران للتفاوض حول برنامجها النووي، كما أنه ليس من الواضح متى ستقرر واشنطن أنه لم يعد بالإمكان الرهان على الخيار الدبلوماسي، خاصة أن غياب الرقابة الدولية عن أنشطة إيران النووية يجعلها غير قادرة على تحديد حجم التقدم الذي تحرزه إيران في مستويات تخصيب اليورانيوم.
وفي المقابل، تصر طهران على المماطلة وكسب الوقت عبر فرض شروط جديدة لتجنب الجلوس على طاولة المفاوضات، والتي لم تتخل إيران خلالها عن المماطلة والتسويف، وذلك لكسب مزيد من الوقت لامتلاك الخبرة النووية التي تجعلها أقرب لكي تكون دولة نووية، وهي كلها مؤشرات تكشف عن أن خيار العمليات التخريبية بات خياراً مطروحاً أمام واشنطن، وبالتنسيق مع إسرائيل، لتحجيم التهديدات الإيرانية، هذا جنباً إلى جنب مع استخدام أداة العقوبات الاقتصادية.