أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية
  • مُتاح عدد جديد من سلسلة "ملفات المستقبل" بعنوان: (هاريس أم ترامب؟ الانتخابات الأمريكية 2024.. القضايا والمسارات المُحتملة)
  • د. أحمد سيد حسين يكتب: (ما بعد "قازان": ما الذي يحتاجه "بريكس" ليصبح قوة عالمية مؤثرة؟)
  • أ.د. ماجد عثمان يكتب: (العلاقة بين العمل الإحصائي والعمل السياسي)
  • أ. د. علي الدين هلال يكتب: (بين هاريس وترامب: القضايا الآسيوية الكبرى في انتخابات الرئاسة الأمريكية 2024)

الخطوة التالية:

التداعيات الداخلية والدولية لرفع سعر الفائدة الأمريكية

01 يوليو، 2017


أقر مجلس الاحتياطي الفيدرالي "البنك المركزي الأمريكي"، في الرابع عشر من شهر يونيو 2017، رفع سعر الفائدة على الدولار بنسبة 0.25%، في ثاني عملية رفع للفائدة خلال هذا العام. وبمقتضى هذا القرار، ارتفع سعر الفائدة على الدولار من 1% إلى 1.25%. ويعد هذا التوجه مؤشراً على ثقة مجلس الاحتياطي الفيدرالي في قدرة الاقتصاد الأمريكي على النمو من دون سياسات التحفيز، ما يقتضي التوقف عن تقديم المزيد من الدعم له، ومن ثم سحب أدوات التحفيز التي تم استخدامها منذ بداية الأزمة.

وكان استمرار نمو الاقتصاد الأمريكي وقوة سوق العمل من أهم أسباب اتخاذ مجلس الاحتياطي الفيدرالي قراراً برفع أسعار الفائدة، وأوضحت جانيت يلين، رئيسة المجلس، أن هذا القرار يعكس حجم التقدم الذي أحرزه الاقتصاد الأمريكي، والمتوقع أن يحققه أيضاً. ومن المقرر أن يبدأ المجلس في خفض ملكيته للسندات والأوراق المالية الأخرى هذا العام، وهو ما يشير إلى أن المجلس سيتخلى عن استخدام أداة تحفيزية أخرى ظل يستعملها طوال سنوات، في إطار النهج الذي اتبعه لتحفيز اقتصاده.

وتجدر الإشارة إلى أن مجلس الاحتياطي الفيدرالي أقدم على رفع أسعار الفائدة على الدولار عدة مرات في سنوات ما بعد الأزمة المالية العالمية، وكانت المرة الأولى في ديسمبر 2015، والمرة الثانية في ديسمبر 2016، ثم جاءت المرة الثالثة في مارس 2017، وصولاً إلى المرة الرابعة في يونيو 2017، وفي كل مرة قام المجلس برفع الفائدة بمقدار 25 نقطة أساس. وبعد عمليات الرفع الأربع، أصبح سعر الفائدة على الدولار عند أعلى مستوياته منذ بداية الأزمة المالية العالمية.

نهج أمريكي مختلف

اختلف النهج الأمريكي لتحفيز الاقتصاد في بداية الأزمة المالية العالمية عن ذلك النهج الذي اتبعته الحكومات الأوروبية، فبينما اعتمدت الإدارة الأمريكية على نهج "التيسير الكمي"، عبر خفض الفائدة على الدولار والتوسع في شراء السندات، فإن حكومات منطقة اليورو رأت في سياسات "التقشف المالي" الحل الناجع لتحفيز الاقتصاد والخروج من أزمته؛ فاتجهت، ضمن سياسة موحدة في إطار منطقة اليورو، إلى تقليص نفقاتها، عبر إلغاء بنود الإنفاق غير الضرورية في الموازنات العامة، وتأجيل البعض منها، وإلغاء بعض الإعفاءات الضريبية، بجانب تشديد الرقابة على المؤسسات المالية والمصرفية العاملة في المنطقة.

وقد بدا النهج الأمريكي أكثر نجاعة من النهج الأوروبي، وهذا ما اتضح من خلال عودة الاقتصاد الأمريكي إلى النمو، وتمكنه من تقليص معدل البطالة إلى مستويات تنخفض عن 5%؛ لكن في منطقة اليورو ظلت معدلات النمو الاقتصادي ضعيفة، وظلت معدلات البطالة قريبة من 10%، ومازالت بعض اقتصادات منطقة اليورو تعاني ضوائق ماليةً كبيرةً. وإن كان من الضروري التأكيد أن مهمة إنقاذ اقتصاد واحد، وهو الاقتصاد الأمريكي، أسهل من مهمة إنقاذ عدد من الاقتصادات المختلفة هيكلياً وغير المتكافئة من حيث الأداء، مثل اقتصادات منطقة اليورو، والتي تخضع كذلك لإِشراف العديد من المؤسسات ذات الأدوار المتضاربة في بعض الأحيان. ولا شك أن هذا الأمر كان له دور في تمكين الاقتصاد الأمريكي من التعافي السريع، وفي بقاء اقتصادات اليورو في معاناتها.

تأثيرات داخلية

يعد سعر الفائدة الأمريكية من أهم المتغيرات الاقتصادية، ليس على المستوى الأمريكي فقط، ولكن على المستوى العالمي أيضاً، فأسواق المال وأسعار السلع والعملات وأسعار السلع الاستراتيجية والمعادن الثمينة، ترتبط ارتباطاً وثيقاً بسعر الفائدة الأمريكي، إذ إن سعر الفائدة محدد رئيسي لسعر صرف الدولار؛ الذي هو العملة المرجعية الرئيسية في العالم.

ووفق النظرية الاقتصادية، فإن سعر الفائدة هو أداة رئيسية بيد البنوك المركزية لضبط السياسة النقدية، حيث تحدد البنوك المركزية سعر الفائدة الأساسية، وهو تكلفة الاقتراض بين البنوك، ومن ثم تقوم البنوك بتحديد سعر فائدة على القروض والودائع، استناداً إلى سعر الفائدة الأساسية. وعادة ما يقوم البنك المركزي برفع الفائدة عندما يرتفع معدل التضخم إلى مستويات مُضِرَة بالاقتصاد، فرفع الفائدة يزيد من تكلفة الاقتراض، سواءً للأشخاص أو مؤسسات الأعمال، فيقلص الأفراد من إنفاقهم الاستهلاكي وتخفض مؤسسات الأعمال استثماراتها، فيؤدي ذلك إلى تراجع الطلب الكلي بالاقتصاد، ومن ثم ينخفض التضخم إلى المستويات المستهدفة. ويفعل البنك المركزي العكس في حالة الركود الاقتصادي، فيخفض الفائدة، فتتراجع تكلفة الاقتراض، وبالتالي يزداد الطلب الكلي، فينتعش الاقتصاد من ركوده. وبالطبع، هناك عوامل أخرى تأخذها السلطات النقدية بعين الاعتبار عند تحديد سعر الفائدة، وليس فقط معدل التضخم أو الركود.

وبتطبيق هذه القواعد، فإن رفع سعر الفائدة على الدولار سيجعل تكلفة الاقتراض أعلى في الولايات المتحدة، الأمر الذي يؤدي إلى ارتفاع تكلفة التمويل البنكي بالنسبة لمشتريات الأفراد، سواء من سيارات أو منازل أو غيرها من الأغراض، فيصبح الأمريكيون أقل قدرة على الشراء، وبالتالي ينخفض طلبهم الاستهلاكي الكلي. وبالطريقة نفسها تزداد تكلفة حصول مؤسسات الأعمال على القروض البنكية، ويصبح تمويل المشروعات أعلى تكلفة، وهو ما يخفض الطلب الاستثماري في الاقتصاد. وبالتالي، فإن محصلة رفع الفائدة على الدولار الأمريكي مؤخراً، هي تراجع الطلب الاستهلاكي وتراجع الطلب الاستثماري، ما يحد من مخاوف ارتفاع معدلات التضخم في المستقبل.

وأيضاً، يرتبط رفع سعر الفائدة على الدولار الأمريكي بسعر السندات الحكومية، وكذلك السندات التي تصدرها مؤسسات الأعمال، فرفع الفائدة يتسبب في انخفاض أسعار هذه السندات، فيزداد الطلب عليها في أسواق المال، وبالتالي تقوم الحكومة ببيع كل ممتلكاتها من السندات أو جزء منها، وهذا ما يفكر فيه مجلس الاحتياطي خلال الفترة المقبلة، كوسيلة لتقليص حجم السيولة في الاقتصاد. لكن هذا الأمر يعتمد على مدى قدرة الاقتصاد الأمريكي على إثبات أنه تعافى بالفعل من مظاهر الضعف التي مازالت تعتريه. 

تداعيات دولية

ثمة دلالات لقرار رفع الفائدة على الدولار خارج الاقتصاد الأمريكي، حيث إن الدولار هو العملة المرجعية الرئيسية في الاقتصاد العالمي، على اعتبار أن كثيراً من السلع الاستراتيجية مقومة به، كما أنه يمثل الأداة الرئيسية لتسوية التعاملات التجارية والمالية عبر الحدود الدولية، ما يجعل قرار مجلس الاحتياطي الفيدرالي بشأن الفائدة متغيراً مهماً، والقرار الأخير برفع الفائدة يضغط على أسعار السلع والأصول المقومة بالدولار عالمياً، كما أنه يؤثر كثيراً على التعاملات في الأسواق المالية وأسواق العملات العالمية، إذ إن له آثاراً توزيعيةً على خريطة الاستثمارات في هذه الأسواق، فرفع الفائدة يؤدي إلى زيادة سعر صرف الدولار، وبالتالي يدفع المستثمرين بعيداً عن أسواق الأسهم والسلع، ويوجههم إلى أسواق العملات.

وتعود الأهمية الدولية لقرار مجلس الاحتياطي الفيدرالي، إلى أن عملات الكثير من الدول مرتبطة بالدولار، وغالباً ما تتبع البنوك المركزية لهذه الدول خُطى المجلس برفع الفائدة أو خفضها بقدر مماثل. وتفاعلاً مع القرار الأخير برفع الفائدة الأمريكية، فقد قرر، مثلاً، مصرف الإمارات العربية المتحدة المركزي رفع سعر إعادة الشراء (الريبو)، الذي ينطبق على اقتراض سيولة قصيرة الأجل من المركزي، بضمان شهادات الإيداع بـ 25 نقطة أساس ليصل إلى 1.5%. وفي البحرين أيضاً، قرر مصرف البحرين المركزي رفع أسعار الفائدة الرئيسية بواقع 25 نقطة أساس. وفي الكويت، قرر البنك المركزي رفع سعر الخصم بمقدار ربع نقطة مئوية، إلى 2.75%. كذلك قامت مؤسسة النقد العربي السعودي "ساما" برفع معدل اتفاقيات إعادة الشراء المعاكس "الريبو العكسي"، الذي تودع البنوك التجارية بموجبه الأموال لدى البنك المركزي، بمقدار 25 نقطة أساس، إلى 1.25%.

ويعد قيام الدول صاحبة العملات المرتبطة بالدولار بمواكبة رفع الفائدة على الدولار الأمريكي أمراً ضرورياً، من أجل تجنب الضغط على عملاتها، ما يتسبب في هروب رؤوس الأموال من الاقتصادات الوطنية، مع الأخذ في الاعتبار أن هذه الدول أيضاً عادة ما تتبع بعض الخطوات الاحترازية من أجل تجنب حدوث تأثيرات سلبية لرفع الفائدة على معدلات النمو الاقتصادي الوطني، لاسيما في حال كون هذه المعدلات منخفضة بالفعل.

إجراءات مستقبلية

لا تزال أسعار الفائدة الأمريكية، بعد عمليات الرفع المتتالية السابقة، منخفضة بالمعايير التاريخية، ولذلك يتوقع مجلس الاحتياطي الفيدرالي رفع الفائدة ثلاث مرات أخرى على الأقل حتى نهاية هذا العام. لكن قدرة المجلس على تنفيذ ذلك تعتمد على عدة عوامل تترجم في محصلتها "قوة الاقتصاد"، وكذلك مستوى التضخم، وهي مجموعة من العوامل المعقدة، التي تجعل مهمة متخذي القرارات المالية الأمريكية صعبة. فإذا كانت مؤشرات النمو والبطالة تشجعان المجلس على المُضي قُدماً في رفع الفائدة، فإن مؤشرات التضخم الحالية تقلص قدرته على ذلك، فقد جاء التضخم أقل من توقعات المجلس، إذ بلغ 1.7% في نهاية مايو الماضي، بينما كانت توقعات المجلس ترجح بلوغه 2%، حيث انخفضت أسعار المستهلكين بشكل غير متوقع، كما سجلت مبيعات التجزئة أكبر انخفاض لها في 16 شهراً، وهذه التعقيدات تثير تساؤلات عديدة حول خيارات المجلس بشأن سعر الفائدة في المستقبل.

وبجانب ذلك، يمتلك مجلس الاحتياطي الفيدرالي محفظة من سندات الخزانة والأوراق المالية المدعومة بالرهن العقاري؛ تبلغ قيمتها 4.2 تريليون دولار، وقد تم شراء معظمها في أعقاب الأزمة المالية العالمية، كجزء من خطة التحفيز التي كان ينفذها، بالتوازي مع تخفيض أسعار الفائدة. وفي عام 2014، أوقف المجلس، كخطوة أولى، برنامج شراء السندات. والتساؤل المثار حالياً هو هل سيقوم المجلس بخفض ملكيته للسندات، عبر بيعها تدريجياً خلال الفترة المقبلة أم لا؟ والإجابة على هذا السؤال يكتنفها الكثير من التعقيد والغموض، في ظل الظروف المعقدة التي يعيشها الاقتصاد الكلي، الذي بدا، فيما سبق قوله، أنه يظهر بعض مظاهر الضعف، بجانب امتلاكه بعض مظاهر التعافي، وبالتالي فإن هذا الوضع سيدعو المجلس إلى التريث في قراراته المستقبلية من دون شك، سواء تعلق الأمر برفع الفائدة مجدداً أو تخفيض حيازته من السندات.

ختاماً، يستوجب التأكيد على أن تحقق آثار رفع الفائدة على الدولار الأمريكي، أو أي من العملات المرتبطة به، عادة ما يحتاج لفترة ليست بالقصيرة لكي يتم استشعاره في الاقتصاد، وفقاً للنظرية الاقتصادية. بمعنى آخر، فإن النتائج المرجوة من رفع الفائدة على العملات لا تتحقق بشكل فوري، بل تحتاج لفترات تندرج تحت تصنيف الآجال الطويلة في الاقتصاد، كما أنها تستلزم المراقبة عن كثب والتفاعل الآني مع أي تداعيات غير متوقعة، لتلافي حدوث ارتدادات عكسية غير محمودة.