أعلنت صحيفة الصباح التركية، القريبة من الحكومة التركية وحزب العدالة والتنمية، في 21 أكتوبر الجاري، عن قيام المخابرات التركية، في مطلع أكتوبر الجاري، بإلقاء القبض على شبكة جاسوسية تابعة للموساد الإسرائيلي مكونة من 15 عنصراً، كانت تعمل ضد معارضي إسرائيل في تركيا، فيما كشفت الصحيفة في اليوم التالي، أن أحد أعضاء تلك الشبكة كان يجمع معلومات بشأن الفلسطينيين المقيمين في تركيا والتصنيع العسكري التركي، بينما لم تعلن أنقرة رسمياً عن تلك الواقعة. وفي المقابل أكدت إسرائيل عدم صحة هذه الاتهامات.
وجاءت تلك التصريحات عقب أسابيع فقط من إعلان وكالة شهاب للأنباء الموالية لحماس عن اعتقال 7 فلسطينيين في تركيا لاتهامهم بالتجسس على بعض الشخصيات الفلسطينية المقيمة في تركيا، وذلك لصالح أجهزة مخابرات السلطة الفلسطينية والموساد.
علاقات متوترة
تمر العلاقات بين أنقرة وتل أبيب بحالة من التذبذب وعدم استقرار، وهو ما يمكن تفصيله على النحو التالي:
1- اتهامات متبادلة بالإرهاب: ثمة اتهامات متبادلة بين تركيا وإسرائيل بالإرهاب. فقد اعتبر أردوغان في مايو 2021، أن إسرائيل دولة إرهاب، وذلك عقب إطلاق الشرطة الإسرائيلية الرصاص المطاطي وقنابل الصوت على الشباب الفلسطينيين في المسجد الأقصى، فيما تتهم إسرائيل أنقرة بدعم ومساعدة حركة حماس التي تصنفها إسرائيل كمنظمة إرهابية.
كما وجهت تركيا في 23 أكتوبر الجاري اتهامات حادة لإسرائيل بشأن قيام المجلس الأعلى للتخطيط الإسرائيلي ببناء وحدات استيطانية جديدة في الضفة الغربية، كما هاجمت إدراج تل أبيب 6 منظمات حقوقية فلسطينية في قائمة التنظيمات الإرهابية، معتبرة ذلك تقويض أنشطة حقوق الإنسان في فلسطين، وبما يتعارض مع القانون الدولي.
2- محاولات فاشلة لتهدئة التوتر: أجرى الرئيس التركي أردوغان، في 12 يوليو الماضي، اتصالاً بالرئيس الإسرائيلي الجديد، إسحاق هيرتسوغ، لتهنئته على تولي المنصب، فيما أعلن المتحدث باسم الرئيس الإسرائيلي أن الرئيسان ناقشا خلال هذه المحادثة تعميق العلاقات بين البلدين، من خلال تعزيز التعاون بينهما في العديد من المجالات مثل الطاقة والسياحة والتكنولوجيا، كما أجرى رئيس المخابرات التركية العام الماضي محادثات سرية مع مسؤولين إسرائيليين في محاولة لتجاوز التوتر القائم في العلاقات الثنائية.
3- استبعاد تركيا من شرق المتوسط: تعاونت إسرائيل مع مصر في إطار منتدى غاز شرق المتوسط، والذي استبعد تركيا من عضويته. كما تضمنت الخطط المستقبلية تصدير الغاز الإسرائيلي إلى مصر لإسالته في مصانع إسالة الغاز الطبيعي المصرية لإعادة تصديره، وذلك عوضاً عن تصديره عبر تركيا، وهو الأمر الذي أغضبها، والتي ترغب في أن تهيمن على خطوط تصدير الطاقة من منطقة الشرق الأوسط ووسط آسيا إلى الاتحاد الأوروبي لامتلاك نفوذ عليها. ولا شك أن محاولة إيجاد قناة لتصدير الغاز الطبيعي عبر مصر سوف يمثل انتكاسة لهذه الجهود.
4- استمرار العلاقات الاقتصادية: لم يتأثر التبادل التجاري بين أنقرة وتل أبيب، حتى في فترات التوتر السياسي بينهما، حيث اعتمد البلدان مبدأ فصل الاقتصاد عن السياسية. فقد احتلت إسرائيل في عام 2020 المرتبة التاسعة بين الدول التي تصدر لها تركيا بإجمالي صادرات بلغت 4.7 مليار دولار، فيما بلغت صادرات تركيا لإسرائيل 1.9 مليار دولار خلال الأشهر الأربعة الأولى من عام 2021، بنسبة ارتفاع بلغت 35% مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، مستحوذة على المرتبة الثامنة لصادرات تركيا في هذه الفترة، كما أشار الرئيسان التركي والإسرائيلي في اتصالهم إلى أهمية توسع وتطور التجارة والعلاقات الاقتصادية بينهما، حتى في ظل انتشار كورونا.
نفي إسرائيلي:
تمثلت أبرز المواقف الإسرائيلية غير الرسمية على الإعلان التركي في التالي:
1- نفي إسرائيلي غير رسمي: نفى النائب السابق لمدير الموساد، ورئيس لجنة الشؤون الخارجية والدفاع في الكنيست، رام بن باراك، انتماء أي من الأشخاص الخمسة عشر الذين اعتقلوا في تركيا إلى الموساد، مرجحاً أن يكون الإعلان التركي معبراً عن رغبة السلطات هناك في إظهار إنجازاتها الاستخباراتية، قائلاً إن هذه الرغبة تدفع أنقرة من حين إلى آخر إلى نشر "معلومات كاذبة". ويبدو أن ما يساعد إسرائيل على الإنكار أن المعتقلين الخمسة عشر ينتمون إلى جنسيات عربية غير إسرائيلية.
2- استمرار توتر العلاقات الثنائية: حذر تقرير موقع هيئة البث الإسرائيلية "كان"، من انتهاء مرحلة الاستقرار في العلاقات بين تركيا وإسرائيل، وذلك بعد ما كشفه الإعلام التركي بشأن تورط الموساد في شبكة التجسس، حيث فسرت الهيئة السلوك التركي في التعامل مع القضية، على أنه إشارة لتل أبيب لانتهاء ما وصفه التقرير بمرحلة وقف إطلاق النار بين الطرفين، والبدء بمرحلة جديدة من التوتر، وهو ما يؤشر إلى أن تركيا قد تكون قامت بالفعل بالقبض على شبكة تابعة للموساد في تركيا.
وتجدر الإشارة إلى أن المخابرات التركية قامت في أوائل 2012 بكشف أسماء خلية تجسس إسرائيلية كانت مكونة من 10 إيرانيين، كانت تلتقي على الأراضي التركية بجواسيس إسرائيليين، وكان ذلك جزء من المجهود الإسرائيلي الاستخباراتي والتخريبي ضد إيران.
وكانت إسرائيل تقوم بهذا النشاط بعلم السلطات التركية، حيث لم تكن تعتقد أن أنقرة سوف تتنكر لسنوات من التعاون الأمني المشترك، وتقوم بفضح هويتهم، غير أن السلطات التركية كشفت لنظيرتها الإيرانية أسماءهم، وهو ما أدى إلى توجيه ضربة للأنشطة الإسرائيلية ضد إيران. وأبدت واشنطن حينها قلقها من إقدام حقان فيدان، رئيس الاستخبارات التركية بتبادل معلومات حساسة مع إيران.
3- محاولة إسرائيلية لوقف الأنشطة المعادية: تنشط حركة حماس على الأراضي التركية، وتعتقد إسرائيل أنها تقوم بتنفيذ عدة عمليات عدائية ضدها انطلاقاً من هناك، إذ تشير مصادر إسرائيلية إلى قيام حركة حماس الفلسطينية بإدارة منشأة سرية في تركيا تقوم من خلالها بتنفيذ هجمات سيبرانية ضد إسرائيل، وأنشطة لمكافحة عمليات التجسس الإسرائيلية. كما قامت تركيا بإعطاء الجنسية لعشرات العناصر التابعة لحماس، والتي تورطت في تنفيذ عمليات إرهابية ضد إسرائيل.
دلالات كاشفة:
تكشف واقعة قبض تركيا على عدد من الجواسيس الإسرائيليين عن دلالتين مهمتين فيما يتعلق بالسلوك الإقليمي التركي خلال الفترة المقبلة، وهما:
1- استمرار التصعيد التركي: يكشف الإعلان التركي غير الرسمي عن واقعة القبض على خلايا تجسس إسرائيلية عن أن السياسة التركية الإقليمية تتجه مرة أخرى إلى تصعيد مع خصومها الإقليميين، إذ إن السياسة التركية الرامية إلى محاولة التهدئة مع الدول المناوئة لها، عبر إبداء تصريحات إيجابية، لا تستبعها أي خطوات فعلية قد ساهم في استمرار جمود العلاقات.
فقد سعت تركيا إلى استعادة علاقاتها بإسرائيل، وهو ما وافقت عليه، شرط توقف أنقرة عن دعم حماس، وهو ما رفضته الأخيرة، وفي مواجهة هذا الإخفاق، عاود أردوغان إلى التصعيد مجدداً ضد إسرائيل.
2- الجمود الأيديولوجي لأردوغان: يتبنى الرئيس التركي توجهات فكرية قريبة من تيار الإخوان المسلمين، ولذا، فإن تحالفه معها في أعقاب الربيع العربي لا يعد فقط تحالفاً مصلحياً يسعى من خلاله إلى تعزيز نفوذ تركيا الإقليمي، ولكنه تحالف أيديولوجي، وهو ما وضح في رفض أنقرة التخلي عن دعم الإخوان المسلمين، فلم تنجح تركيا في تهدئة العلاقات مع إسرائيل، بسبب رفض أنقرة قطع علاقاتها بحركة حماس، والتي تعد أحد أفرع جماعة الإخوان المسلمين.
وفي الختام، تكشف مجمل سياسة تركيا تجاه إسرائيل عن أن العلاقات بينهما مرشحة للتدهور خلال الفترة المقبلة، وهو ما يعني انتكاسة أي تعاون سياسي أو أمني بين الجانبين خلال الفترة المقبلة في ظل رفض تركيا تقديم أي تنازلات لتطبيع علاقاتها بإسرائيل.