أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

المسارات المتوقعة للقوى العظمى حتى عام 2030

19 يونيو، 2024


 مصطلح "القوة العظمى" في قاموس العلاقات الدولية، يشير عادةً إلى الولايات المتحدة وروسيا (الاتحاد السوفيتي سابقاً)، ولكن مع بداية العقد الأول للقرن الحادي والعشرين، بدأت الصين تزاحم روسيا على الترتيب الثاني في هذا التصنيف، ويبدو للمتابع للأمور أن روسيا في الوقت الحاضر (بل وفي المستقبل القريب أيضاً) تتراجع أكثر فأكثر وخاصةً من الناحية الاقتصادية، رغم أنها لا تزال تتفوق على الصين في قدرتها على فرض إرادتها السياسية على الآخرين، وخاصةً على الصعيد العسكري.

والدول الثلاث كقوى عظمى ستؤدي دوراً بالغ الأهمية في السنوات المتبقية من هذا العقد؛ وتتفاعل وتتنافس لتحقيق مصالحها الوطنية.

تحولات القوى العظمى: 

كان الأمريكي ويليام تي آر فوكس، أستاذ السياسة الخارجية والعلاقات الدولية بجامعة كولومبيا، هو أول من صاغ مصطلح "القوة العظمى" في منتصف القرن الماضي، على أن هذا المصطلح يشير إلى "دولة شديدة القوة، قادرة على إبراز إرادتها وفرضها على الدول الأخرى"، ومن المتعارف عليه أيضاً أن السبب وراء تمتع القوة العظمى بنفوذ وتأثير عظيمين هو التفوق العسكري والتكنولوجي والاقتصادي والثقافي، بالإضافة إلى قوة السياسات الحكومية لدى هذا الكيان.

تاريخياً، كانت الإمبراطورية الفارسية هي القوة العظمى الأولى في العالم. وعلى مر السنين، استطاعت هذه الإمبراطورية أن تُكون ثروة هائلة وتحكم أكثر من 44% من سكان العالم. وكذلك كانت روما ومصر وتركيا أيضاً، بفضل ثرواتهما وثقافاتهما، قوتين عظميين مبكرتين. أما في وقت أقرب إلى الزمن الحاضر، فتُعد الإمبراطورية البريطانية هي أول قوة عظمى حديثة؛ إذ كان يعيش 25% من سكان العالم في وقت ما تحت حكمها. 

وفي وقتنا المعاصر، فيمكن للمرء أن يتوقع بثقة أن دولاً وكيانات أخرى سوف تنضم إلى هذا التصنيف.

استقراء المستقبل القريب:

بينما نحاول استقراء النظام العالمي القادم، ينخرط الباحثون والمحللون بلا شك في دراسة متعمقة للاتجاهات السياسية والاجتماعية والاقتصادية وأسبابها في كلٍ من هذه الدول العظمى الثلاث. وانما سوف يركز هذا المقال على عرض تغير الاتجاهات وتوازن القوى في السنوات الست المتبقية من العقد الحالي، في كلٍ من الولايات المتحدة وروسيا والصين. 

في الواقع هناك شيء واحد مشترك بين هذه القوى العظمى الثلاث، ألا وهو أن التغيير يلوح في الأفق.

حالة الصين: 

كان المؤتمر العشرون للحزب الشيوعي الصيني، الذي عقد عام 2022، مؤشراً لتراجعاً وتغييراً، فمع انتهاء فترة الولاية الرئاسية، وزيادة التركيز على المخاوف الأمنية وخاصة في المرحلة الآسيوية، وتقليص مناورات القطاع الخاص، تم التأكيد على صلابة نظام الحكم المركزي الأكثر عمقاً.

أذكر شخصياً زيارتي للصين عام 1976 عندما كنت عضواً شاباً في وفد حكومي رسمي في خضم الثورة الثقافية الشهيرة. ظاهرياً، بدت الدولة وكأنها عملاق عديم الكفاءة، ويعكس حينذاك مجتمع يملك قدرات محدودة لتوفير الاحتياجات الاستهلاكية العتيقة، وكان التلقين الثقافي -الذي كان يُرمز إليه عبر انتشار الملابس الرمادية النظامية والدراجات- منتشراً. ولكن حتى في ذلك الوقت، كان بإمكاننا أن نشعر بوجود رغبة مكبوتة لإجراء تغييرات وللتعبير بإبداع على الرغم من صعوبة التحديات.

وبحلول عام 1978، وبعد البدء في عملية الإصلاح، وصل متوسط معدل نمو                                                                                      إجمالي الناتج المحلي إلى حوالي 9%، وتم انتشال أكثر من 800 مليون شخص من الفقر. لقد زاد حجم الاقتصاد الصيني إلى ما يقرب من أربعين ضعفاً بمشاركة كبيرة من أطراف غير حكومية.

ويبدو أن الصين عازمة بشكل واضح على أن تصبح قوة عالمية في مجال صناعات التكنولوجيا الفائقة مع حلول عام 2025؛ فهي تعمل على الحد من الاعتماد على التكنولوجيات الأجنبية لتمكين الشركات الصينية من المنافسة على المستوى المحلي والعالمي، وهي في الوقت ذاته تتعامل مع الشيخوخة السكانية، وارتفاع الديون، واضطراب القطاع العقاري بشكل مستمر. وتتمتع بإمكانات كبيرة كرائدة في مجال الابتكار، وكقوة في مجال الطاقة المتجددة، مع قدرتها على تنمية أسواق رأس المال الخاصة بها. فضلا عن أنها الآن صاحبة أكبر عدد من براءات الاختراع، وقد استثمرت بشكل كبير في مجال تحويل الطاقة (خاصة في تقنيات السيارات الكهربائية)، وتُعد سوق الأسهم والسندات الداخلية في الصين الآن ثاني أكبر سوق في العالم، وكانت هي أكبر سوق لجمع رأس المال عام 2022.

على الجانب الآخر، يوجه الغرب اهتمامه نحو الصين لعام 2027؛ باعتباره مؤشراً رئيسياً قصير المدى على توجهات الصين نحو تايوان؛ إذ تنتشر تكهنات بأن الرئيس الصيني، شي جين بينغ، قد أعطى أوامر للجيش بالاستعداد لغزو تايوان بحلول ذلك العام. غير أن الرئيس الصيني نفسه نفى هذه المزاعم، وإمكانية حدوث ذلك سواء في 2027 أو 2035، ولكن يظل من اللافت للنظر أن الميزانية العسكرية للصين قد ارتفعت بنسبة 7.2% عام 2024؛ مما أثار بعض المخاوف إقليمياً وعالمياً، وبررت الصين ذلك بزيادة أغراض الدفاع والتعاون المشترك. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الميزانية العسكرية للولايات المتحدة تُعد هي الأعلى في العالم؛ إذ إنها أكثر من الدول التسع التالية لها مجتمعة.

حالة روسيا:

عند اندلاع الحرب في أوكرانيا، ظنت روسيا في بادئ الأمر أن "عملياتها العسكرية الخاصة" سوف تنتهي بشكل حاسم وبسرعة، ومن ناحية أخرى، اعتقدت أوكرانيا ومعها الغرب أن باستطاعتهم هزيمة روسيا في وقت سريع، و وأن اقتصاد الأخيرة لن يستطيع الصمود وتمويل العمليات العسكرية الخاصة بهذه الحرب، ولكن ثبت خطأ كل هذه التوقعات مع وصول العمليات العسكرية إلى طريق مسدود (وإن كانت لصالح روسيا بنسبة بسيطة)، وتوقع صندوق النقد الدولي ارتفاع معدل إجمالي الناتج المحلي لروسيا بنسبة 3.2% هذا العام، ونحو 2.8% في العامين التاليين.

قام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مؤخراً، بعد إعادة انتخابه في مارس 2024، بتبديل كبار مستشاريه. فعلى سبيل المثال، قام بوتين بتعيين الخبير الاقتصادي أندريه بيلوسوف وزيراً للدفاع، ربما لمعالجة الشكاوى المتعلقة بالتدفق غير المنتظم للإمدادات العسكرية، وقام بوتين كذلك بنقل سيرغي شويغو، وزير دفاعه السابق وأحد المقربين منه، إلى دور جديد كأمين لمجلس الأمن الروسي، ليحل محل نيكولاي باتروشيف. ونقل الأخير، الذي كان مستشاراً للأمن القومي منذ فترة طويلة، إلى منصب آخر غير محدد. يمكن أن تكون كل هذه التغييرات بمثابة محاولة من قبل الرئيس الروسي (من دون إحداث هزة عنيفة) لإبراز شعوره بالمسؤولية عن هذه الحرب التي ما تزال ممتدة، ونتائجها غير حاسمة، ولتأكيد سلطته أيضاً، وبخاصة بعد حادثة فاغنر، التي تم فيها تحدي وزير الدفاع علانية.

إن كيفية تعامل روسيا مع أوروبا في المستقبل، ستكون على رأس جدول الأعمال، ولكن ما ستركز عليه روسيا في المستقبل القريب -لأنه أكثر أهمية بالنسبة لها- هو فهم سياسة الولايات المتحدة في ظل إعادة انتخاب بايدن أو صعود ترامب وتوليه مرة أخرى. وكرد فعلٍ على التعديات الغربية واستعداداً للسنوات القليلة المقبلة، شهدنا وجوداً روسياً متزايداً في مناطق مختلفة من العالم. ففي سياق الدعوة إلى عالم متعدد الأقطاب ووقف انتشار الفساد وجشع الشركات والحكومات الغربية الكبرى، توسع الوجود الروسي بإفريقيا وأصبح ممتداً في: ليبيا، والسودان، وجمهورية إفريقيا الوسطى، ومدغشقر، ومالي، ومنطقة جنوب الصحراء الكبرى، وعادت شعارات الحرب الباردة إلى الظهور من جديد تحت ستار منع الهيمنة الغربية إلى جانب الاهتمام المتجدد بالتعامل مع الصين، ومجموعة البريكس، وغيرهما.

حالة الولايات المتحدة الأمريكية:

تتجه كل الأنظار حالياً نحو الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة، بين مرشحين سبق لكلٍ منهما حمل لقب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية؛ ومن ثم لا يمكن لأي منهما أن يخدم -في أحسن الأحوال- إلا لفترة أربع سنوات أخرى فقط. وقد تجاوز عمر كل منهما 70 عاماً، ولديهما تصورات متباينة حول دور أمريكا وسياساتها ومسؤولياتها. ورغم أن كلاً من المرشحين لا يمثل الخيار المفضل لحزبه، فإن بايدن وترامب يُنظر إليهما على أنهما المرشحان الوحيدان القادران على هزيمة منافسيه.

ومن المرجح أن يتم تحديد نتيجة الانتخابات على أساس رؤية كل مرشح لقضايا الاقتصاد، وحقوق الإجهاض، والهجرة، والعمر. وبغض النظر عن السياسات الاقتصادية، فإن العوامل الأخرى المذكورة لا تكون عادةً حاسمة في الانتخابات. إن كلا المرشحين والقضايا التي ستقرر مصيره السياسي انعكاس واضح لعملية "البحث عن الذات" -إذا جاز التعبير- التي يعيشها الأمريكيون الآن، فهم يحاولون تحديد هويتهم في الداخل، والدور الذي يجب أن تؤديه بلادهم على الساحة الدولية. ولن تضع السياسة الخارجية في حسبانها الكثير في الوقت الحالي، وخاصةً فيما يتصل بروسيا والصين. أما فيما يتعلق بغزة، فقد يكون الوضع مكلفاً انتخابياً بالنسبة لبايدن؛ بسبب استياء الديمقراطيين واللوبي المؤيد لإسرائيل؛ إذ لا يشعر أي منهما بأي ميل تجاه الرئيس الحالي.

ختاماً، أتوقع أن تظل الولايات المتحدة والصين وروسيا، بهذا الترتيب، "قوى عظمى" حتى عام 2030. ما لم يحدث صراع عسكري؛ إذ إنه في هذه الحالة ستتقدم روسيا على الصين.

إن القوى الثلاث جميعها في حالة من التغيير وإعادة التنظيم؛ ومن ثم ستكون تكتيكية للغاية، وستحسب كل خطوة بعناية وعلى الأمد القصير طوال القرن الحالي، مع متابعة اية مؤشرات تحدد بشكل أفضل مستقبل القوتين الأخريين بعد تغيير قيادتهما الحالية خلال هذا العقد أو الذي يليه. وما يقلقني حقاً هو أن الأخطاء التي ترتكب نتيجة للحكم السيئ أو سوء التقدير قد تظل نتائجها الضارة مستمرة ومؤثرة في العالم أجمع.

ربما تنطوي إعادة انتخاب بايدن على استمرار الموقف العدائي تجاه روسيا، خاصة مع إعادة انتخاب بوتين. ولكن تظل الصين هي التحدي الأعظم الذي يواجه أمريكا من وجهة النظر الأمنية للإدارة الحالية؛ ومن ثم فإن الأوضاع في الصين ستحظى بمتابعة وثيقة من قبل هذه الإدارة، وخاصةً القضايا الاقتصادية وقضايا نقل التكنولوجيا. وكذلك إذا ما توحدت تايوان مع الصين، فمن المتوقع أن يؤدي ذلك إلى رد فعل أقوى من جانب بايدن. أما في حالة انتخاب ترامب، فهو يُعد أقل ميلاً نحو التعامل العدواني مع القوى العظمى الأخرى أو غيرها؛ ومن ثم فإن المواجهات الاستراتيجية العدوانية ستكون أقل حدة وتوتراً في ظل فترة ولايته، خاصةً إذا ما اقترنت بمكاسب اقتصادية لكلا الجانبين.

وفيما يتعلق بالعلاقات في الشرق الأوسط؛ فإن الصين ستستمر في النمو اقتصادياً وسياسياً كذلك، وإن كان ببطء. أما روسيا فهي تقف على منحنى رد الفعل؛ إذ تنتقي نقاط الضعف الغربية لتكسب ببطء بعض الأصول الاستراتيجية، خاصةً فيما يتعلق بالمرافق اللوجستية. وفيما يتعلق بإسرائيل وإيران، فإن القوى الثلاث لن تستخدم القوة أو تكون عدوانية، سواء فيما يتعلق بعملية السلام في إسرائيل، أم الحد من إمكانات إيران النووية. ومن المتوقع أن تكون اليمن وليبيا والسودان بمثابة ساحات لإعادة التموضع والاتزان بالنسبة للولايات المتحدة وروسيا، ولكن تظل أهميتهم أقل بالنسبة للصين.

إن الاستنتاج الأهم الذي يمكن استخلاصه هو أن الأدوار التي ستؤديها الولايات المتحدة وروسيا لن تتماشى مع الماضي، وأن الصين أمامها طريق طويل لتقطعه قبل أن تتمكن من ادعاء الزعامة؛ إذا ما قررت حقاً أداء هذا الدور. ومن هذا المنطلق، فإن المزيد من الانفتاح على كافة الجبهات والتنويع في العلاقات هو الخيار الأفضل للدول العربية، مع زيادة الاعتماد على القدرات الوطنية والعلاقات الإقليمية.