أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

عسكرة شرق آسيا:

المضامين الدفاعية الجديدة للأمن القومي لليابان

27 ديسمبر، 2022


يؤمن رئيس الوزراء الياباني، فوميو كيشيدا، بالمثل الياباني الذي يقول "لن تستطيع إمساك النمر الصغير إذا لم تدخل عرينه"، وهو ترجمة للحملة المحفوفة بالمخاطر السياسية التي قادها كيشيدا بهدف توجيه الرأي العام الداخلي نحو قبول استراتيجية الأمن القومي الجديدة والسياسات الدفاعية ذات الصلة بها، والتي أعلنت عنها اليابان في 16 ديسمبر 2022، الأمر الذي ينطوي على "تحول استراتيجي" غير مسبوق في الرؤية الدفاعية لطوكيو التي ظلت تعتمد على الحماية العسكرية الأمريكية منذ عام 1945. 

تحولات استراتيجية:

 تقوم استراتيجية الأمن القومي الجديدة لليابان على مجموعة من المسارات والتحولات الرئيسية، ومن أهمها ما يلي: 


1- الصين تحدٍ استراتيجي غير مسبوق: على الرغم من العداء التاريخي بين اليابان والصين، تجنبت طوكيو طوال العقود السبعة الأخيرة الحديث عن بكين كخطر أو تحدٍ، لكن وثيقة الأمن القومي الجديدة تصف الصين لأول مرة "بالتحدي الاستراتيجي غير المسبوق". ويوضح تحليل مضمون هذه الوثيقة أنها تتفق مع توجهات حلفاء اليابان الغربيين، فالولايات المتحدة وصفت الصين في استراتيجية الأمن القومي التي أعلنها البيت الأبيض في 12 أكتوبر الماضي "بالمنافس الوحيد الساعي لإعادة تشكيل النظام العالمي". كما أن قادة دول حلف شمال الأطلسي "الناتو" في قمة مدريد التي عُقدت في نهاية يونيو الماضي، اعتبروا طموحات بكين "تحدياً لمصالح الحلف وأمنه وقيمه"، وذلك وفق نص الوثيقة الصادرة عن الناتو.

2- تواجد اليابان في بيئة أمنية خطيرة: تُعد "البيئة الأمنية الخطيرة" التي تحيط باليابان أكثر الهواجس التي دفعتها لتغيير مفهومها للأمن القومي. وتتمثل أهم مظاهر هذه الخطورة في رد الفعل الصيني على زيارة نانسي بيلوسي، رئيسة مجلس النواب الأمريكي، لتايوان، وسقوط 5 صواريخ صينية بالقرب من المياه الإقليمية اليابانية، في أغسطس الماضي. علاوة على الخلاف الصيني - الياباني على جزر "سينكاكو" التي تسيطر عليها اليابان وتطالب بها الصين، فضلاً عن التهديد الذي تمثله كوريا الشمالية، حيث تعتبر طوكيو الأعمال العسكرية لبيونج يانج، التي استأنفت إطلاق الصواريخ فوق بحر اليابان الشرقي، "تهديداً خطيراً ووشيكاً لليابان اليوم أكثر من أي وقت مضى". ويُضاف إلى ذلك، الخلافات مع كوريا الجنوبية حول قضايا عالقة منذ الاحتلال الياباني لهذا البلد خلال الفترة من 1910 حتى 1945. 

كما وصفت الاستراتيجية روسيا "بمصدر قلق للأمن القومي الياباني"، في ظل الخلاف بين الدولتين حول جزر الكوريل الأربع، خصوصاً مع رفض كيشيدا توقيع اتفاقية سلام مع موسكو قبل استرجاع هذه الجزر بالكامل، وتمسكه باتفاقية عام 1875 بين اليابان وروسيا القيصرية حول ترسيم الحدود. 

3- الارتباط بأمن تايوان: ربطت الوثيقة الجديدة الأمن القومي لليابان بنظيره في تايوان، وعبرت بلغة واضحة عن دعم استقرار تايوان، وأبدت قلقاً كبيراً بشأن تحوّل الميزان العسكري لصالح الصين. كما أكدت الوثيقة أن المساس بأمن تايوان، التي لا تبعد أكثر من 100 ميل بحري من أقرب جزيرة يابانية، سوف يؤثر سلباً على الأمن القومي الياباني. 

4- زيادة الإنفاق العسكري لليابان: يعد ذلك أحد أهم مظاهر التحول في السياسة اليابانية الجديدة بعد أن أقرت طوكيو خطة إنفاق قياسية تبلغ نحو 320 مليار دولار للخمس سنوات القادمة، ورفع الإنفاق العسكري للبلاد من 1% إلى 2% من الناتج القومي، وهي نسبة تعادل النسبة التي ظلت الولايات المتحدة تطالب شركاءها في حلف شمال الأطلسي بالوصول إليها منذ قمة "الناتو" في ويلز عام 2014. ويجعل هذا الإنفاق الكبير اليابان في المرتبة الثالثة عالمياً في الإنفاق العسكري بعد الولايات المتحدة التي سوف تنفق في ميزانية عام 2023 نحو 850 مليار دولار، والصين التي تحتل المرتبة الثانية بإنفاق نحو 290 مليار دولار سنوياً. كما أن اليابان سوف تسبق روسيا التي كانت تحتل حتى عام 2021 المرتبة الثالثة في الإنفاق العسكري، وفق إحصائيات معهد السلام الدولي في ستوكهولم.

5- شراء أسلحة جديدة: تتضمن السياسة الدفاعية الجديدة لليابان خطوات لشراء صواريخ بعيدة المدى يمكنها استهداف المواقع العسكرية للعدو، وذلك بالسعي لشراء 500 صاروخ كروز أمريكي الصنع من طراز "توماهوك"، بهدف إجبار الدول المهاجمة على التفكير كثيراً قبل توجيه الاعتداء على دولة ذات سيادة، وذلك وفق نص الوثيقة التي أوضحت أيضاً أن اليابان سوف تعمل على شراء سفن بحرية وطائرات مقاتلة حديثة للهدف نفسه.

6- تعزيز الشراكات العسكرية: تأتي الصناعات العسكرية في مقدمة هذه الشراكات، ليس فقط مع الولايات المتحدة، بل من خلال التوسع مع شركاء جدد مثل بريطانيا وإيطاليا، حيث أعلن قادة اليابان وبريطانيا وإيطاليا، يوم 9 ديسمبر 2022، العمل معاً لتطوير طائرة مقاتلة من الجيل الجديد لتدخل الخدمة بحلول عام 2035، وهو أول مشروع صناعي عسكري لليابان مع دول بعيدة عن الولايات المتحدة. ففي السابق كانت واشنطن وطوكيو تتعاونان معاً في إنتاج طائرة "إف 15" بين شركتي "لوكهيد مارتن" الأمريكية و"ميتسوبيشي" اليابانية. ومنذ عهد رئيس الوزراء الأسبق، شينزو آبي، تعمل اليابان على ضمان قاعدة تصنيع عسكري قوية، لكن استراتيجية الأمن القومي الجديدة وضعت سقفاً زمنياً لهذا الهدف من خلال العمل على ضمان قاعدة تصنيع دفاعية قوية بحلول عام 2027، وتطوير وتصنيع صاروخ تفوق سرعته سرعة الصوت.


7- توجيه الضربات المضادة: تنص الوثائق المصاحبة للاستراتيجية الجديدة على حق اليابان في توجيه ضربة ضد الأهداف العسكرية للدول التي تستهدف اليابان، وهذا أمر جديد على التفكير الاستراتيجي الياباني الذي كان يحرم على البلاد أي نوع من الانخراط في العمليات العسكرية بعد أن تخلت طوكيو عن حق خوض الحروب للدفاع عن نفسها، وكانت تترك للولايات المتحدة القيام بهذه المهمة والتي نجحت فيها عبر تمركز نحو 37 ألف جندي أمريكي بشكل دائم في 86 قاعدة وتجمع عسكري على الأراضي اليابانية منذ هزيمة الجيش الإمبراطوري الياباني في معركة أوكيناوا عام 1945.

ولتوضيح هدف الضربات المضادة، وعدم استفزاز الصين وروسيا وكوريا الشمالية، تضمنت الاستراتيجية الجديدة مجموعة من المبادئ والخطوات، أهمها تأكيد الطابع الدفاعي للاستراتيجية. وتبرر طوكيو المتغيرات الجديدة ليس فقط بالبيئة الأمنية المحفوفة حولها بالمخاطر، بل تقول إن القدرات الحالية لليابان لإسقاط صواريخ محتملة قبل سقوطها على أراضي البلاد ليست فعّالة بدرجة كافية. 

كما تؤكد الوثيقة الالتزام بالدستور الياباني الذي يرفض شن أي "ضربة استباقية" على "دولة معادية". ولهذا وضعت الاستراتيجية الجديدة ثلاثة شروط قاسية للضربة المضادة، وهي أن يكون هناك تهديد حتمي لليابان أو لدولة صديقة يؤدي بدروه إلى تهديد حتمي للأمن القومي الياباني، وعدم وجود وسيلة أخرى لتفادي الضربات المعادية، وأن يكون رد الفعل العسكري الياباني في الحد الأدنى الممكن. وتوضح هذه الشروط الثلاثة أن اليابان تسير على "حبل مشدود"، ففي الوقت الذي تريد أن تظهر فيه "كقوة عسكرية" كبيرة تتوازن مع القوة الصينية والروسية، إلا أنها لا تريد في الوقت ذاته استعداء بكين أو موسكو. كما أن طوكيو من خلال هذه الشروط لا تسعى لترويع جيرانها الآسيويين الذين يحملون ذكريات أليمة منذ سيطرة الجيش الياباني على عدد من الدول الآسيوية قبل عام 1945.

من الاعتماد إلى الشراكة:

في ظروف أخرى، كان يمكن أن يُنظر لتلك الخطوة اليابانية على أنها محاولة "للخروج من العباءة الأمريكية"، أو تمرد على الاعتماد لنحو 7 عقود على الجيش الأمريكي، لكن التحديات التي فرضتها الحرب الروسية - الأوكرانية، ووجود نحو 100 ألف جندي أمريكي في أوروبا، أبرزت حاجة الولايات المتحدة إلى شركاء أقوياء، ومن ثمّ اعتبرت أن الخطوة اليابانية تقوي التحالف مع واشنطن وتحدثه، وفق تصريح جيك سوليفان، مستشار الأمن القومي الأمريكي. ومن شأن هذه الخطوة اليابانية الجديدة أن تغير موقع طوكيو من "محمية أمريكية" إلى شريك جيوسياسي كامل يتعاون مع واشنطن لتحقيق أهدافها في منطقة الإندو – باسيفيك.

وكل هذا يؤكد أننا أمام مشهد أمني جديد في شرق آسيا، في ظل انضمام اليابان لتحالف "كواد" الرباعي الذي يضم أيضاً كلاً من الولايات المتحدة وأستراليا والهند، وهو ما يجعل اليابان تلعب أدواراً جديدة بجوار حلفائها في بحر الصين الجنوبي وبحر الصين الشرقي، الأمر الذي يعني أن وثيقة الأمن القومي الجديدة سوف تبني على القرار الذي تبناه مجلس الوزراء في عام 2014، وسمح لأول مرة منذ عام 1945 بالقتال من أجل الحلفاء عبر المساهمة في عمليات حفظ السلام، ومنع القرصنة، وضمان حرية الملاحة.

معادلة أمنية جديدة:

على الرغم من المآسي التي تركتها الحرب الروسية - الأوكرانية، وتداعيات الصراع بين تايوان والصين، فقد استطاعت الحكومة اليابانية أن تحول هذه التحديات إلى فرص عبر الاستثمار في البيئة الداخلية التي ترفض هذه الحرب ويُقلقها النشاط الصيني بالقرب من الأراضي اليابانية، ونجحت في تمرير استراتيجية الأمن القومي الجديدة، وتدبير موارد مالية ضخمة لتمويل هذه الاستراتيجية، وهو ما يوضح أن طوكيو لن تتراجع أمام الاتهامات الروسية والصينية بأن اليابان تتجه نحو "العسكرة الجامحة". إذ علقت وزارة الخارجية الروسية على تلك الاستراتيجية بالقول إن اليابان باتت الآن على طريق حشد غير مسبوق للقوة العسكرية، محذرة من أن عودتها إلى "العسكرة الجامحة" ستثير حتماً تحديات أمنية جديدة في منطقة آسيا والمحيط الهادي.

والمؤكد أن استراتيجية الأمن القومي الجديدة لليابان تفتح الباب أمام "معادلة أمنية جديدة" في شرق آسيا، لكن يبقى السؤال هل منطقة الإندو - باسيفك يمكن أن تشهد تنافساً وصراعاً جديداً؟ وذلك في ظل حديث بعض اليابانيين عن ضرورة امتلاك بلادهم سلاحاً نووياً، خصوصاً في ظل امتلاك القوى الثلاث المناوئة لطوكيو، وهي روسيا والصين وكوريا الشمالية، هذه الأسلحة.