أخبار المركز
  • د. أيمن سمير يكتب: (خمسة سيناريوهات للتصعيد العسكري بين إسرائيل وإيران)
  • مهاب عادل يكتب: (رسائل الإصلاح: كيف انعكست أزمات الشرق الأوسط في الدورة الـ79 للأمم المتحدة؟)
  • د. هايدي عصمت كارس تكتب: (بين العزلة والانقسام: دوافع تفضيل أوروبا هاريس على العودة المحتملة لترامب)
  • مركز "المستقبل" يُشارك في معرض الرياض الدولي للكتاب 2024
  • د. إيهاب خليفة يكتب: (قوة صاعدة: فرص الإمارات في سباق الذكاء الاصطناعي)

تنويع لا انعزال:

أزمة "إنستغرام" في تركيا.. هل يتجه العالم إلى بدائل وطنية؟

20 أغسطس، 2024


لم يتوقف حظر تطبيق "إنستغرام" في تركيا عند حجبه المؤقت لأكثر من أسبوع قبل الإعلان عن عودته مرة أخرى يوم 10 أغسطس 2024، وإنما كذلك تم الإعلان عن بحث البرلمان التركي تشريعاً لحظر هذا التطبيق الأمريكي، وكذلك "تيك توك" بسبب المحتوى الذي "يحض على العنف والإرهاب"؛ وهو ما يُعد جزءاً من علاقة متوترة وقرارات متعاقبة بالحجب أو التعطيل ضد وسائل التواصل الاجتماعي في تركيا منذ سنوات. 

بيد أن القرار التركي هذه المرة يحمل خصوصية تتصل بالتوترات الإقليمية من ناحية، وباعتباره يأتي بالتزامن وتحت نفس اللافتات التي تحظر الولايات المتحدة من أجلها تطبيق "تيك توك" الصيني، والذي تحجبه الهند بالفعل منذ سنوات عقب اشتباكات عسكرية على حدودها مع الصين؛ وهو ما يجعل شبح الحظر يطارد الشبكات الاجتماعية ليس فقط من قِبل "أعداء الإنترنت التقليديين"، وإنما من دول كبرى على المستويات العالمية والإقليمية، وبما يُلقي الضوء مجدداً على الأهمية الاستراتيجية لبناء البدائل الوطنية، ومخاطر الاعتماد الكامل على منصات أجنبية دون توفير بديل محلي وحيد قادر على المنافسة.

الحالة التركية:

أعلنت هيئة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات التركية، في 2 أغسطس الجاري، حظر تطبيق "إنستغرام" التابع لشركة "ميتا" العالمية، والذي يستخدمه أكثر من 57 مليون مستخدم داخل البلاد، وذلك دون تحديد أسباب أو تحديد مدة الحجب. وعلى الرغم من تفسير هذا القرار لاحقاً في ضوء تصريحات لرئيس دائرة الاتصال بالرئاسة التركية، فخر الدين ألتون، قبل قرار الحجب بيومين، انتقد فيها المنصة الأمريكية بسبب منع منشورات التعازي في مقتل إسماعيل هنية؛ فإن ذلك لم يكن على الأقل السبب الوحيد؛ إذ ربطت الهيئة التركية القرار بنظام يسمح بـ"حظر محتوى إجرامي" دون توضيح، كما أنه يأتي عقب شهر واحد من تقييد الوصول إلى منصات "إكس" و"إنستغرام" و"فيسبوك" و"تيك توك" بولاية قيصري على خلفية أعمال العنف والتخريب المناهضة للمهاجرين واللاجئين، وفقاً لمنظمة "نت بلوكس" لرصد انقطاعات الإنترنت حول العالم؛ وهذا ما يجعل القرار جزءاً من سياسة تركية للضغط على تلك الشبكات لتقييد "المحتوى الإجرامي"، وفق وصفها.

ويتعزز هذا الارتباط بالنظر إلى التفسير الذي أورده وزير النقل والبنية التحتية التركي، أورال أوغلو، عند رفع الحظر عن التطبيق يوم 10 أغسطس الجاري؛ إذ قال إنه جاء عقب موافقة شركة "ميتا" المالكة للتطبيق على الامتثال للقانون التركي وضمان إزالة المنشورات والمحتوى بكفاءة؛ إذا كانت تحمل عناصر من جرائم معينة أو دعاية إرهابية، وكذلك الوعد بالتعاون بشأن مطالب الحكومة التركية فيما يتعلق بلائحة الجرائم، والتي تتضمن جرائم مثل: القتل والاعتداء الجنسي والاتجار بالمخدرات والإساءة والتعذيب، وكذلك الرقابة المفروضة على المستخدمين في إشارة إلى حذف منشورات التعازي في هنية.

ولم يكن حجب "إنستغرام" هو الوحيد هذا العام بسبب "المحتوى الإجرامي"؛ إذ قامت السلطات التركية خلال الشهر الجاري بحجب الوصول لمنصة ألعاب "روبلوكس" في البلاد؛ استناداً إلى قرار المحكمة الجنائية السادسة في ولاية أضنة بعد اتهامها بنشر محتوى يحرض على استغلال الأطفال وإساءة معاملتهم. كما سبق أن قيدت في فبراير الماضي الوصول إلى منصة البث المباشر (Twitch) بسبب محتوى المقامرة غير القانوني.

وعلى الرغم من ارتباط تلك الإجراءات بمحاذير أخلاقية؛ فإن حالة "إنستغرام" لم تكن للأمر ذاته، وإنما ارتبطت بالأزمات والاضطرابات الأمنية التي كانت سبباً في قرارات تقييد سابقة على غرار حجب "إكس" (تويتر سابقاً) عقب الزلزال الذي ضرب تركيا في فبراير 2023. كما تحدث رئيس لجنة الإعلام الرقمي في البرلمان التركي، حسين يايمان، عن إمكانية حظر الوصول لتطبيق "تيك توك"، الذي وصفه بـ"محامي الشيطان"، وأن إغلاقه بات مطلباً شعبياً وقضية أمن قومي؛ وهو ما يجد له مرجعاً قانونياً بالنظر إلى إقرار تركيا قانوناً عام 2020 يلزم مواقع التواصل الاجتماعي، التي يستخدمها أكثر من مليون شخص، بأن يكون لها مسؤولون محليون في تركيا، وأن تلتزم بمطالب الحكومة إن رغبت في شطب محتوى ما؛ ما يجعل تلك القرارات جزءاً من سياسة عامة، وليست مجرد ردود وقتية لحدث هنا أو هناك.

حظر متبادل:

يبدو من قبيل المفارقة أن يكون حظر "إنستغرام" متصلاً بحظر هذه المنصة للمحتوى المناصر للقضية الفلسطينية؛ بحيث لا يمكن الفصل بين الحالة التركية، وما تشهده الممارسات المتصلة بوسائل التواصل الاجتماعي حول العالم، خصوصاً في السنوات الخمس الماضية؛ إذ بات الحظر سمتاً عاماً لممارسة تلك الشركات والممارسات المضادة لها أيضاً.

فبين عامي 2015 و2022، قامت 71 دولة على الأقل في جميع أنحاء العالم بحظر أو تقييد الوصول إلى الشبكات الاجتماعية، منها أربع دول تفرض عليها حظراً مستمراً، وهي: الصين وكوريا الشمالية وتركمانستان وإيران؛ وفق دراسة أجرتها شركة "سيرف شارك" للخصوصية والأمان عبر الإنترنت. كما أن الولايات المتحدة نفسها، التي طالما أصدرت قوائم لما يُسمى "أعداء الحريات"، وقّع رئيسها جو بايدن في إبريل 2024، تشريعاً يقضي بحظر تطبيق "تيك توك"؛ إذ لم تقم الشركة الأم بالصين ببيعه خلال تسعة أشهر، قابلة للتمديد حتى عام واحد؛ إذا كانت جدية في التخارج وأحدثت تقدماً نحو تنفيذه. وهو ما ردت عليه الشركة الصينية بأنه "قانون غير دستوري"، وأنها ستطعن عليه أمام المحكمة، في مفارقة مثيرة للاهتمام بدفاع الصين عن حقوق المواطن الأمريكي الدستورية، والمعارضة المحدودة للقانون من قِبل نواب أمريكيين أصدروا تصريحات على استحياء شديد تدافع عن حرية التعبير، ولاسيما أن هذا القانون تم إقراره في مجلس النواب بأغلبية 360 صوتاً مقابل معارضة 58.

وفي المقابل، شهدت الأعوام الأخيرة تسييساً واضحاً لسياسات النشر بالشبكات الاجتماعية، ولاسيما شركة "ميتا"؛ إذ نجد في ممارساتها أثناء الحرب في غزة مثالاً بارزاً على ذلك. ولم يكن الأمر مقتصراً على حجب المحتوى وحذفه، وإنما امتد للتلاعب في فرص الظهور أو نطاق الرؤية؛ أي فرص المحتوى المنشور في أن يكون مرئياً؛ وهو ما يتصل في العادة بشعبية الناشر ومعدلات التفاعل مع المحتوى إلى جانب عوامل أخرى، إلا أن تلك المعايير لم تكن كافية لحماية المحتوى المؤازر للفلسطينيين.

ويبدو حظر "تيك توك" في الولايات المتحدة بعيداً عن حظر "إنستغرام" في تركيا، وغيره من التطبيقات في دول أخرى، إلا أن السمة العامة لمختلف تلك القرارات أنها تمهد الطريق أمام فكرة الحظر ذاتها، وتضع لها سوابق واستشهادات لا تقتصر كما السابق على الدول "غير الديمقراطية" وفق التعريف الغربي، وإنما تأتي من أكبر دولة تقدم نفسها باعتبارها "حامية للديمقراطية" حول العالم؛ وهو ما سيمهد حتماً لمزيد من الحظر والحظر المضاد، وبما يجدد الحديث عن البدائل الوطنية وتداعيات ذلك عالمياً، بل وتعريف ما هو عالمي أصلاً، وأثر كل ذلك في تعزيز القومية، وصراعات النظم القيمية، وأثر فجوة مقدرات القوة الاقتصادية والتكنولوجية والأمنية في ذلك كله.

بدائل وطنية:

تزامن مع الحظر المؤقت لتطبيق "إنستغرام"، تصريحات لمسؤولين أتراك بشأن إنتاج منصات اجتماعية محلية، كما سبق أن كان لأنقرة محاولة لإنتاج بديل لتطبيق "واتس آب" منذ سنوات. وعلى الرغم من ارتباط البديل الوطني بتجارب سلبية ترتبط في العادة بالصين وروسيا؛ فإن تشجيع إنتاج منصات محلية ليس بـ"المعادلة الصفرية" ولا من قبيل الإحلال، وإنما يصب في جانب كبير منه بتنويع البدائل وإتاحة المزيد من الخيارات وتشجيع الصناعة التكنولوجية المحلية، فضلاً عن حماية الأنشطة الاقتصادية ذات الصلة بتلك المنصات، والتي تحمل النصيب الأكبر من فواتير الأزمات المرتبطة بالشبكات الاجتماعية، سواء عند تغيير الأخيرة سياساتها لتحقيق قدر أكبر من المكاسب، كما فعلت "ميتا" مع الناشرين الإخباريين، أم عند الانتقال من المنصات المحظورة لبدائلها من المنصات العالمية الأخرى، ولاسيما مع تضخم حجم التجارة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، والذي من المتوقع أن يصل إلى 1.2 تريليون دولار بحلول عام 2025؛ ليمثل 20% من إجمالي حجم التجارة الإلكترونية عالمياً.

ففي الهند تحمل مؤثرو "تيك توك" خسائر وصلت إلى 15 مليون دولار، وعلى الرغم من محاولات بناء منصات هندية بديلة؛ فإنها جاءت متأخرة كثيراً ولم تنجح في منافسة نظيرتها الأمريكية، التي سرعان ما استحوذت على غنائم حظر "تيك توك"، وتحملت السوق الوطنية وحدها سلبيات القرار سواء بتلاشي فرص التطوير التقني البديل، أم خسائر الأنشطة التجارية التي تعثرت في اللحاق بركب التغيير. 

وعلى جانب آخر، تسببت الخسائر الاقتصادية في رفع قيمة فاتورة القرار التركي بحجب "إنستغرام"؛ إذ وصلت تكلفته إلى 57 مليون دولار يومياً، بالنظر إلى أن 10% من التجارة الإلكترونية التركية تمر من خلال وسائل التواصل الاجتماعي؛ وهو ما جعل أيضاً الشركة الصينية المالكة لـ"تيك توك" تتحدث عن الخسائر المتوقعة عند تطبيق قانون حظرها في الولايات المتحدة؛ باعتبارها تسهم بنحو 24 مليار دولار سنوياً في الاقتصاد الأمريكي؛ ما يجعل قرار حظرها سبباً في خسائر اقتصادية تتحمل تكلفتها في العادة المشروعات الصغيرة والناشئة والمستثمرين الرقميين.

ولا يتوقف التداخل بين شبكات التواصل الاجتماعي ومختلف مناحي الحياة على الأمور الاقتصادية فحسب، وإنما أصبحت مصدراً لمتابعة الأخبار، والحصول على فرص التوظيف والتعلم، ولم تعد هناك جهة حكومية أو منظمة مدنية أو دولية، إلا وتمتلك حسابات نشطة على تلك الشبكات تدعم من خلالها رسائلها وأغراضها؛ وهذا ما يجعل الحياة أصعب دون تلك الوسائل التي باتت جزءاً من العائلة والعمل والجامعة، وغيرها من المجالات العامة التي يتشاركها الأفراد ويمارسون من خلالها أنشطتهم اليومية. كما أنه من الصعب أيضاً الاعتماد الكامل على منصات أجنبية دون توفير بديل محلي واحد، ولاسيما أن تلك الأنشطة في جانب آخر تُعد مورداً ضخماً لجمع البيانات عنها وعن مؤسساتها. فعلى سبيل المثال، تقوم منصة "فيسبوك"، التي يستخدمها أكثر من 3 مليارات شخص حول العالم، بتخزين 2.5 مليار قطعة من المحتوى وأكثر من 500 تيرابايت من البيانات يومياً؛ ما يمنحها قوة فائقة كانت هي الأخرى سبباً في المخاوف الأمريكية إزاء "تيك توك" الآخذ في الانتشار بين مواطنيها، ولاسيما الأصغر سناً.

وعلى الرغم من أن سيناريو البديل الوطني لا يُطرح عادةً سوى في الدول التي تعاني اضطرابات أو أزمات، تنظر إلى "السوشيال ميديا" العالمية كجزء منها، وارتباطه أحياناً بأفكار الانغلاق وانقطاع الاتصال بالعالم؛ فإن كبرى المنصات العالمية هي في حقيقتها أمريكية؛ أي محلية في بُعد منها وتروج لمنظومة قيمية بعينها؛ وهو ما اتضح جلياً في سياساتها إزاء قضايا المثليين وكذلك القضية الفلسطينية، بل إن جزءاً من إقدام واشنطن على حظر "تيك توك" بالرغم من التحذير من خسائره الاقتصادية؛ يأتي في جزء منه مدفوعاً بامتلاكها بدائل قوية قادرة على سد أي فراغ يتسبب فيه مثل هذا القرار؛ الأمر الذي يعزز فكرة البدائل الوطنية، ويجدر فتح حوار ليس بشأن بنائها من عدمه، ولكن بشأن ماهيتها وتنظيمها وقدرتها على المنافسة؛ بما يجعلها قناة جديدة للتواصل وليست جداراً عازلاً.