أخبار المركز
  • د. إبراهيم فوزي يكتب: (المعضلة الروسية: المسارات المُحتملة لأزمات الانتخابات في جورجيا ورومانيا)
  • إسلام المنسي يكتب: (جدل الوساطة: هل تخلت سويسرا عن حيادها في قضايا الشرق الأوسط؟)
  • صدور العدد 38 من دورية "اتجاهات الأحداث"
  • د. إيهاب خليفة يكتب: (الروبوتات البشرية.. عندما تتجاوز الآلة حدود البرمجة)
  • د. فاطمة الزهراء عبدالفتاح تكتب: (اختراق الهزلية: كيف يحدّ المحتوى الإبداعي من "تعفن الدماغ" في "السوشيال ميديا"؟)

خيارات غير مكتملة:

كيف دفعت الليرة التركية ثمن سياسات أردوغان؟

20 أغسطس، 2018


واجه سوق العملات الصعبة في تركيا بالآونة الأخيرة اضطرابًا واسعًا، حيث هبطت الليرة التركية أمام الدولار إلى أكثر من 20% من قيمتها منذ بداية أغسطس الجاري وحتى الآن، وذلك على خلفية تصاعد التوتر الأمريكي التركي مع اتجاه الإدارة الأمريكية لتشديد العقوبات على تركيا بسبب رفض الأخيرة تسليم قس أمريكي محتجز لديها. وبخلاف العامل السابق، تعكس أزمة العملة التركية في حقيقة الأمر مشكلات عميقة تتعلق بسوء الإدارة السياسية والاقتصادية في البلاد منذ الانقلاب العسكري الفاشل في يوليو 2016.

 ومن المتوقع أن يترتب على الأزمة الراهنة تباطؤ أداء الاقتصاد التركي حتى نهاية العام الجاري على أقل تقدير، في الوقت الذي حذرت فيه العديد من المؤسسات الدولية من مغبة ارتفاع أعباء ديون البنوك والشركات التركية. ورغم هذه المشكلات، لا يزال أمام تركيا مساحة للمناورة للخروج من مأزقها الحالي، سواء من خلال تخفيف حدة التوتر مع الولايات المتحدة، أو اللجوء لشركاء جدد مثل الصين لدعم اقتصادها، بيد أن تحقيق الاستقرار النقدي في المدى الطويل يتطلب جهدًا إضافيًّا من تركيا عبر تدشين نموذج اقتصادي جديد يقوم على دعم حرية المؤسسات الاقتصادية، وتوسيع نطاق المشاركة في صنع القرار الاقتصادي.

هبوط حاد:

تدهورت الليرة التركية بشدة في الأيام الماضية على خلفية إعلان الإدارة الأمريكية مؤخرًا اعتزامها مضاعفة الرسوم الجمركية المفروضة على الواردات الأمريكية من الصلب والألومنيوم القادمة من تركيا، وهي خطوة لا تبدو مفاجئة للأوساط السياسية نظرًا لتصاعد توتر العلاقات الأمريكية في الآونة الأخيرة بسبب رفضها الإفراج عن القس الأمريكي "آندرو برونسون"، الذي تضعه أنقرة قيد الإقامة الجبرية حاليًّا.

ونتيجة لذلك، تراجعت الليرة التركية لتسجل أدنى مستوى لها في التاريخ على الإطلاق في 13 من أغسطس الجاري عند مستوى يقارب 7 ليرات مقابل الدولار الواحد، وهذا ما يتماشى مع الهبوط الذي شهدته العملة التركية على مدار الأشهر الماضية، حيث خسرت العملة التركية أكثر من نصف قيمتها منذ بداية العام الجاري حينما سجلت 3.78 ليرات للدولار الواحد في يناير الماضي.

وفيما يبدو أن انحدار قيمة الليرة التركية قائم منذ فترة زمنية أطول، حيث سجلت قميتها نحو 1.95 ليرة مقابل الدولار في أغسطس عام 2013 لتفقد بذلك أكثر من 210% من قيمتها على مدار السنوات الخمس الماضية، وبما يجعلها ضمن قائمة أسوأ العملات العالمية أداء في هذه الفترة ضمن عملات أخرى مثل البيزو المكيسكي والراند الجنوب إفريقي والبيزو الأرجنتيني.

عوامل متشابكة:

يعكس الهبوط الحاد لليرة التركية أمام الدولار الأمريكي مؤخرًا مشكلات سياسية واقتصادية عميقة، وليس مجرد ضغوط أمريكية راهنة على تركيا للإفراج عن القس الأمريكي "آندرو"، والتي عَجّلت فيما يبدو فقط من تفاقم أزمة سوق الصرف التركي. وأما بالنسبة للشق الاقتصادي للأزمة، فقد حرص حزب العدالة والتنمية منذ وصوله للحكم في عام 2002 على تحقيق النمو الاقتصادي السريع، والذي يأتي في العادة على حساب الاستقرار المالي والنقدي من خلال تنفيذ مشروعات كبيرة الحجم في البنية التحتية والعقارات.

وقد تم تمويل معظم هذه المشروعات عبر الاقتراض من الأسواق الخارجية، ما تسبب في تراكم التزامات من الديون الخارجية بلغت نحو 466.6 مليار دولار بنهاية مارس 2018 منها 122.2 مليار دولار ديون قصيرة الأجل، في الوقت الذي لا تغطي فيه احتياطيات البلاد من النقد الأجنبي البالغة 124.2 مليار دولار أكثر من ثلث هذه الديون. ومع ذلك، كان من الممكن ألا تجد تركيا، رغم أعباء الديون الكبيرة السابقة التي تمثل حوالي 52% من الناتج المحلي لتركيا، صعوبات في استمرار اقتراضها من الأسواق الدولية وبتكلفة مناسبة.

لكن في ضوء مجريات الأحداث السلبية في أعقاب الانقلاب العسكري الفاشل بتركيا يوليو 2016، اهتزت الثقة الدولية في الاقتصاد التركي بشدة، حيث اتجه الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" لتعزيز سلطته السياسية والاقتصادية في البلاد، لا سيما مع التحول نحو النظام الرئاسي بعد الموافقة عليه بموجب استفتاء شعبي أُجري في إبريل 2017، وبما مكنه من السيطرة على المؤسسات الاقتصادية في البلاد بما فيه البنك المركزي التركي، وهذا ما تبين بوضوح من ضغوطه الشديدة على الأخير للإبقاء على سعر الفائدة دون رفعها.

كما أنه إبان فوز الرئيس التركي وحزبه بالانتخابات الرئاسية والبرلمانية المبكرة التي أجريت يونيو الماضي، عمل "أردوغان" على تضييق دائرة صنع القرارات الاقتصادية في البلاد، خاصة مع تعيينه صهره "بيرات البيرق" في منصب وزير المالية والخزانة. كما بموجب مرسوم رئاسي، أعطى نفسه سلطة اختيار محافظ البنك المركزي ونوابه، وكذلك أعضاء لجنة السياسات النقدية، وهذا ما زعزع مجددًا من الثقة الدولية في سلامة السياسات الاقتصادية بالبلاد، وقلص بشدة من معنويات المستثمرين في سوق المال والصرف التركيين. 

وبالتوازي مع الأحداث السابقة، هددت الإدارة الأمريكية مؤخرًا بعزمها تشديد العقوبات على تركيا مع رفضها الاستجابة لتسليم القس الأمريكي، ويأتي ذلك بعد أن فرضت عقوبات في الأول من أغسطس الجاري على كل من وزير العدل التركي "عبدالحميد غول" ووزير الداخلية "سليمان سويلو" متهمة إياهما بالمساعدة في اعتقال القس. كما يبدو أن بنك "خلق" التركي معرض هو الآخر للعقوبات الأمريكية، حيث تتهمه السلطات الأمريكية بمساعدة إيران في خرق العقوبات الأمريكية عام 2012. 

وتتشابك أزمة القس الأمريكي مع خلافات سياسية أخرى لا تزال عالقة بين البلدين في الفترة الماضية يتمثل أبرزها في استمرار الدعم الأمريكي للفصائل العسكرية الكردية في سوريا، وهو الأمر الذي ترفضه تركيا نهائيًّا لما تعتبره تهديدًا لأمنها الداخلي، في الوقت الذي تصر فيه الحكومة التركية حتى الآن على مواصلة استيراد النفط والغاز من إيران على الرغم من بداية تطبيق العقوبات الأمريكية على إيران منذ أغسطس الجاري.

وليس مفاجئًا بناء على الخلافات العديدة السابقة، أن تندلع بين البلدين حرب تجارية متبادلة بالآونة الأخيرة، حيث أقدمت الحكومة التركية في أغسطس الجاري على تطبيق رسوم جمركية تتراوح بين 50% و120% على عدد من المنتجات المستوردة من الولايات المتحدة بعد فرض رسوم جمركية أخرى بقيمة 267 مليون دولار أمريكي على قائمة من السلع الأمريكية في يونيو الماضي، وذلك ردًّا على فرض السلطات الأمريكية تعريفات جمركية بـ25% على واردات الصلب و10% على واردات الألومنيوم من دول العالم وبينها تركيا. كما تنوي الإدارة الأمريكية مراجعة الإعفاءات المقدمة لتركيا من الرسوم الجمركية على بعض السلع الأخرى بخلاف الألومنيوم والصلب. 

آثار سلبية:

أشارت التقييمات الدولية إلى إمكانية تكبد الاقتصاد التركي خسائر واسعة جراء أزمة العملة الراهنة، حيث من المحتمل أن يترتب عليها تباطؤ الأداء الاقتصادي حتى نهاية العام الجاري على أقل تقدير، بجانب ارتفاع معدل التضخم لمستويات قياسية، وهذا ما أكدته وكالة "ستاندرد آند بورز" مؤخرًا عبر توقعها ارتفاع معدل التضخم إلى 22% في العام الجاري في إطار تقييمها للاقتصاد التركي، والتي قامت على إثره بخفض التصنيف الائتماني للديون السيادية التركية من "BB-" إلى ""B+ على قدم المساواة مع دول مثل الأرجنتين واليونان.

كما حذرت المؤسسات الدولية من أن تدهور العمل سوف يؤثر سلبًا على معنويات المستثمرين الأجانب، حيث على الأرجح أن تدفعهم للتخارج من السوق التركية بما يهدد بمزيد من ضعف الليرة. كما من المرجح أن تتسبب أزمة الليرة في صعوبات عديدة لقطاع المصارف التركية في الفترة المقبلة، على غرار ارتفاع أعباء ديونها وانخفاض جودة أصولها وكذلك تآكل رؤوس أموالها.

وفي هذا السياق، حذر بنك الاستثمار "جولدمان ساكس" الأمريكي من أن مزيدُا من التراجع في الليرة التركية إلى 7.1 مقابل الدولار قد يمحو بدرجة كبيرة فائض رؤوس أموال بنوك البلاد. ومن ثم ليس من المستغرب أن تتفاوض بعض الشركات والبنوك التركية أيضًا مع حاملي سنداتهم لإعادة هيكلة التزاماتهم الضخمة من القروض الأجنبية في الفترة المقبلة.

الخيارات المحتملة: 

لا يزال أمام الحكومة التركية مساحة كبيرة من المناورة قد تمكنها من تجاوز أزمة الليرة ودعم اقتصادها، وذلك من خلال الاعتماد على محورين رئيسيين هما على النحو التالي:

1- تمويل الشركاء: يبدو مبررًا أن يستبعد وزير المالية التركي في الوقت الراهن إمكانية اللجوء لصندوق النقد الدولي للحصول على التمويل اللازم من النقد الأجنبي لمساندة ميزان مدفوعاتها وعملتها المتهاوية، وذلك نظرًا للشكوك التركية -التي تبدو في محلها- في تأييد الولايات المتحدة لها في المجلس التنفيذي للصندوق في الحصول على أي قروض من المؤسسة، فضلًا عن توجهات "أردوغان" الرافضة للانصياع لتوصيات الصندوق، سواء الخاصة بتدابير الانضباط المالي أو السياسة النقدية.

ومن ثم لا بديل حاليًّا أمام "أردوغان" -حتى هدوء التوتر مع الولايات المتحدة- إلا باللجوء لشركاء آخرين مثل روسيا والصين بجانب فرنسا وألمانيا اللتين أظهرتا استعدادهما الحقيقي والمعنوي لدعم الاقتصاد التركي في هذه الفترة الحرجة، وهذا ما يبدو حلًّا مقبولًا لمساندة اقتصادها في المدى القصير، بيد أنه لن يعوض المكاسب الكبيرة لشراكتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة في المدى البعيد، وبالفعل، حصلت تركيا في يوليو الماضي على حزمة قروض من مؤسسات مالية صينية بقيمة 3.6 مليارات دولار، كما تعتزم إصدار سندات مقومة باليوان للمرة الأولى في تاريخها في الفترة المقبلة. فيما طرحت روسيا إمكانية استخدام العملة المحلية بدلًا من الدولار في تجارتها مع تركيا، لكنه لم يصدر تعهدات أكيدة بمساعدة أنقرة على الفور في تجاوز أزمة عملتها.

2- نموذج اقتصادي جديد: في ضوء الأزمة الراهنة، بادرت السلطات التركية باتخاذ إجراءات سريعة لإنقاذ عملتها، أبرزها إقرار هيئة التنظيم والإشراف المصرفي "بي.دي.دي.كيه" البنوك بعدم تجاوز معاملات مبادلة الليرة بالعملة الأجنبية مع أطراف خارجية مستوى 25% من رأس المال التنظيمي مقارنة بـ50% المحددة سابقُا، وبما يحد من إمكانية عمليات البيع على المكشوف، كما خفض البنك المركزي التركي الحد الأعلى للتسهيلات المتعلقة بتداول العملات الأجنبية ضمن آلية خيارات الاحتياطي بمقدار 5% ليصبح 40% بما سوف يوفر سيولة بقيمة 2.2 مليار دولار للقطاع المصرفي. في الوقت الذي وعدت الحكومة التركية فيه بالتدخل لمساندة القطاع المصرفي التركي في حال حدوث أي ظروف غير متوقعة.

كما تعهدت الحكومة أيضًا بتوفير المرونة الكافية في عمليات استحقاق ديون للشركات وتسعيرها وذلك لتعزيز التدفقات النقدية بالنسبة لها، فيما تم تأجيل سداد قروض الشركات الصغيرة والمتوسطة حتى 2019، ومن وجهة نظر وكالة فيتش للتصنيف الائتماني، تبدو الاستجابات السابقة للأزمة غير مكتملة، ولا يمكن أن تعالج عجز الحساب الجاري وعجز الموازنة العام وتسارع التضخم، بما لا يضمن استقرار الليرة في المدى الطويل، أي بمعنى أن تركيا بحاجة لاستراتيجية اقتصادية جديدة تستطيع معالجة التشوهات الاقتصادية السابقة.

وعلى هذا النحو، كان وزير المالية التركي أعلن في 10 أغسطس الجاري عزم تركيا تطبيق نموذج اقتصادي تقوم أبرز أهدافه على تحقيق نمو اقتصادي مستدام (3-4% سنويًّا)، فضلًا عن كبح معدل التضخم إلى خانة الآحاد، وخفض العجز التجاري كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي إلى 4%، والحد من العجز في الميزانية ليكون في حدود 1.5% من الناتج المحلي الإجمالي.

وربما ليس بإمكان تركيا بلوغ الأهداف السابقة دون استعادة مصداقية سياستها الاقتصادية دوليًّا، وذلك بجانب تطبيق آليات قصيرة وطويلة الأمد لتحقيقها، وهذا لن يتأتى إلا من خلال ضمان حرية المؤسسات الاقتصادية بما فيها البنك المركزي التركي، بالإضافة إلى توسيع نطاق المشاركة في صنع القرار الاقتصادي، وتعزيز قدرات القطاعات الإنتاجية الموجهة للتصدير والقطاع التكنولوجية أيضًا، والانفتاح على الشركاء الأجانب، فضلًا عن توافر نظام سياسي يدعم الحريات العامة وحقوق الإنسان، وبما يعزز في نهاية المطاف من رأب صدع علاقاتها مع شركائها الرئيسيين ومن ثم دعم استقرار الاقتصاد الكلي.