رصدت العديد من التقارير الغربية تحركات أمريكية مكثفة خلال الأشهر الأخيرة لمحاصرة النفوذ الروسي المتنامي في القارة الإفريقية، ولاسيما فيما يتعلق بشركة فاغنر الروسية شبه العسكرية، التي تتمدد بشكل مطرد في إفريقيا. وعكس الصراع الراهن في السودان أحد ملامح تحركات واشنطن الحالية.
استهداف فاغنر في السودان
حضرت فاغنر الروسية في السودان بدءاً من عام 2017، حيث قدمت الدعم آنذاك للرئيس السابق، عمر البشير، مقابل تأمينها للموارد المعدنية، ولاسيما مناجم الذهب. واستمرت الشركة بعد سقوط نظام البشير عام 2019، حيث نسجت علاقات وثيقة بالجيش السوداني وقوات الدعم السريع. ومع اندلاع القتال في الخرطوم، منتصف إبريل 2023، بدأت الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها الغربيون في محاصرة النفوذ الروسي في السودان، وهو ما يمكن عرضه على النحو التالي:
1- الترويج لتورط فاغنر في الحرب السودانية: مع بداية الاشتباكات في السودان بين قوات الجيش وقوات الدعم السريع ذهبت العديد من التقارير الغربية، خاصة الأمريكية، للترويج لتورط عناصر فاغنر الروسية في دعم قوات الدعم في مواجهة الجيش السوداني، عبر إمداد هذه القوات بصواريخ أرض جو. وأشارت غالبية هذه التقارير إلى أن هذا الطرح يبقى مجرد فرضية، بيد أنها عمدت إلى التسويق لها باعتبارها حقيقة مؤكدة. وعلى الرغم من عدم إمكانية استبعاد صحة هذه الفرضية، فإنها لا تزال تفتقر إلى أي أدلة مؤكدة تدعمها، ولاسيما في ظل الحرب المعلوماتية المشتعلة حالياً بشأن الصراع الجاري في الخرطوم.
ومن الملاحظ أن بعض هذه التقارير جاءت متناقضة، إذ أكدت وجود علاقات وثيقة تربط بين موسكو وقادة المؤسسة العسكرية، خاصة قائد الجيش، عبدالفتاح البرهان، حيث تحرص موسكو على تأمين علاقتها بطرفي الصراع الراهن في السودان، والحيلولة دون إظهار الدعم لأي منهما، للحفاظ على مصالحها في الخرطوم، ولاسيما في ظل مساعيها للحصول على قاعدة عسكرية في ميناء بورتسودان شرق السودان.
2- منع روسيا من قاعدة بورتسودان: نجحت واشنطن في تعطيل الاتفاقية التي كانت موسكو قد توصلت إليها مع الخرطوم بنهاية عام 2020 للحصول على قاعدة عسكرية بحرية في بورتسودان، بيد أن وزير الخارجية الروسي، سيرجي لافروف، أكد خلال زيارته إلى الخرطوم، في فبراير 2023، موضوع القاعدة، وهو ما أثار انزعاجاً أمريكياً حاداً.
وفي إطار مساعي واشنطن لتقويض فرص حصول روسيا على هذه القاعدة، أشارت بعض التقارير إلى أن الولايات المتحدة ربما تعمل على توظيف الصراع الراهن في السودان لتعزيز وجودها في بورتسودان، تحت ذريعة إجلاء وتأمين رعاياها الموجودين في السودان، لقطع الطريق أمام التطلعات الروسية.
تحركات أمريكية موسعة في إفريقيا
كشف تقرير صادر أخيراً عن "واشنطن بوست" عن مضمون بعض وثائق الاستخبارات الأمريكية المسربة، والتي أشارت إلى وجود تحركات راهنة تقوم بها مجموعة فاغنر الروسية لدعم خطوة إنشاء "اتحاد كونفدرالي" بين مجموعة الدول المعادية للغرب والولايات المتحدة في إفريقيا، كما لفت التقرير إلى أن التوسع السريع للنفوذ الروسي في إفريقيا شكل مصدر قلق متزايد لمسؤولي الجيش والاستخبارات الأمريكية، ما دفع واشنطن لتكثيف جهودها خلال الفترة الأخيرة لمحاولة تطويق شبكة فاغنر الروسية، وهو ما يمكن عرضه على النحو التالي:
1- الضغط على إفريقيا الوسطى: عمدت فاغنر إلى توسيع نشاطها الاقتصادي في إفريقيا الوسطى، ولاسيما فيما يتعلق بمناجم الذهب وتجارة الخشب، كما وفرت الشركة الدعم للحكومة في بانغي لطرد المجموعات المتمردة التي استهدفت العاصمة عام 2020، ناهيك عن تولي فاغنر مسؤولية توفير الأمن للرئيس، فوستين تواديرا. وتشير التقديرات إلى وجود حوالي 1890 من فاغنر في إفريقيا الوسطى.
وكشفت صحيفة "لوموند" الفرنسية، في فبراير 2023، عن صفقة عرضتها الإدارة الأمريكية على رئيس جمهورية إفريقيا الوسطى لفك الارتباط بمجموعة فاغنر الروسية، مقابل الحصول على مساعدات إنسانية ضخمة من الولايات المتحدة، بالإضافة إلى تدريبات عسكرية أمريكية للقوات الحكومية، وهو الطرح الذي عززه التقرير الصادر عن موقع "أفريكا أنتلجنس" الفرنسي، الذي أشار إلى أن واشنطن من المقرر أن تقوم بتمويل برنامج لبناء معسكرات متنقلة لجيش إفريقيا الوسطى بقيمة 10 ملايين دولار.
كما مارست الولايات المتحدة ودول أوروبية ضغوطاً متزايدة على رئيس جمهورية إفريقيا الوسطى، فوستين تواديرا، لقطع العلاقات مع فاغنر، حيث قطعت فرنسا دعمها المالي لبانغي، وضغطت باريس وواشنطن على البنك الدولي والاتحاد الأوروبي لفرض رقابة صارمة على كافة الأموال المخصصة لجمهورية إفريقيا الوسطى، لزيادة الضغط على الأخيرة، ومنعها من توفير التمويل اللازم لعقدها مع فاغنر، خاصة وأن ميزانية إفريقيا الوسطى تعتمد بأكثر من 45% على المخصصات والدعم الأجنبي، وفشلت بانغي، حتى الآن، في إقناع المؤسسات الدولية بصرف الأموال اللازمة لتمويل المشروعات المتفق عليها.
ونقلت تقارير غربية مواقف متضاربة عن الرئيس تواديرا، إذ أشار بعضها إلى أنه طلب من رئيس المجلس العسكري الحاكم في تشاد، محمد إدريس ديبي، إبلاغ باريس وواشنطن عن استعداده لقطع علاقاته بفاغنر، فيما شككت بعض التقديرات في جدية هذا الأمر.
2- مواصلة الدعم لبوركينا فاسو: تعمل الإدارة الأمريكية الحالية على تقديم الدعم للمجلس العسكري الحاكم في واغادوغو لمواجهة التهديدات الإرهابية المتزايدة، وإقناع السلطات البوركينابية بعدم الاستعانة بشركة فاغنر، وذلك بعد وقف التدريبات العسكرية التي تشرف عليها القوات الخاصة الأمريكية الموجودة في واغادوغو لقوات الجيش البوركينابي في 2022، فضلاً عن استبعادها القادة العسكريين لبوركينا فاسو من المشاركة في تجمع دولي لقادة الدفاع خلال العام الماضي.
وتعمل الولايات المتحدة حالياً على إقناع المجلس العسكري الحاكم لإرسال قوات بوركينابية للتدريب في النيجر، أحد أبرز حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، في محاولة لتعزيز التقارب مع بوركينا فاسو، إذ يعتقد المسؤولون الأمريكيون أن الأخيرة لم توقع بعد على أي اتفاق مع فاغنر، لذا تسعى واشنطن للحيلولة دون إنجاز هذا الاتفاق من خلال الضغط على الحكومة البوركينابية وتقديم الدعم العسكري لها في مواجهة المجموعات الإرهابية.
وعلى المنوال ذاته، يحافظ الاتحاد الأوروبي على الروابط مع المجلس العسكري الحاكم في واغادوغو، برئاسة الكابتن إبراهيم تراوري، حيث استؤنفت أخيراً محادثات بين الجانبين بشأن دعم أمني محتمل من قبل بروكسل لواغادوغو.
3- الضغط لإخراج فاغنر من ليبيا: تشير تقديرات إلى وجود نحو 1200 عنصر من مجموعة فاغنر الروسية في ليبيا، يتمركزون في عدد من القواعد العسكرية بمطار الخادم وسرت والجفرة، وتمتلك الشركة الروسية العديد من المقاتلات وأنظمة الدفاع الجوي والمدرعات في هذه القواعد.
وجاءت زيارة مدير وكالة الاستخبارات الأمريكية، ويليام بيرنز، إلى ليبيا، في يناير 2023، لمحاولة إقناع قائد الجيش الوطني الليبي، خليفة حفتر، بإخراج عناصر فاغنر من ليبيا، فضلاً عن الضغوط الأمريكية الجارية للدفع نحو إنجاز الانتخابات الليبية خلال العام الجاري، وتوحيد المؤسسة العسكرية تمهيداً لتشكيل حكومة منتخبة قادرة على دعم قرار إنهاء وجود الشركة الروسية.
4- توجيه مساعدات لغرب إفريقيا: أشارت تقارير غربية إلى تعهد الولايات المتحدة بتقديم مساعدات طويلة الأجل لعدد من دول غرب إفريقيا، خاصة كوت ديفوار وبنين وتوغو، في محاولة لمنع تقدم مجموعة فاغنر الروسية نحو دول جديدة في هذه المنطقة، وهو ما ألمح إليه مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون غرب إفريقيا، مايكل هيث، والذي أشار إلى أن مجموعة فاغنر غير موجودة حالياً في دول غرب إفريقيا الساحلية، لكنها تبحث عن فرصة للتمدد نحو هذه المنطقة، وبالتالي يجب تكثيف الدعم لدول غرب إفريقيا للحيلولة دون اتجاهها للاستعانة بموسكو وفاغنر.
5- تكثيف الدعم لنظام ديبي في تشاد: ثمة قلق أوروبي وأمريكي متزايد بشأن التحركات الروسية الراهنة في تشاد، حيث كشفت الوثائق الأمريكية المسربة أخيراً عن محاولات فاغنر الروسية لدعم حركات المعارضة المسلحة وإنشاء موقع تدريب لها في جمهورية إفريقيا الوسطى للإطاحة برئيس المجلس العسكري الانتقالي التشادي، محمد إدريس ديبي.
ورأت صحيفة "واشنطن بوست" أن هذه المخاوف الأمنية ربما تفسر تغاضي الغرب عن الانتهاكات والعنف الذي تمارسه القوات الحكومية ضد قوى المعارضة السياسية، مشيرة إلى أن الإدارة الأمريكية تعمل على تكثيف دعمها لنظام ديبي الابن في تشاد وتجنب الإطاحة به للحيلولة دون تمدد النفوذ الروسي ومجموعة فاغنر في نجامينا. وشاركت الولايات المتحدة، في فبراير 2023، معلومات استخباراتية مع المجلس العسكري الحاكم في تشاد بشأن وجود مساعٍ تقوم بها فاغنر الروسية لدعم حركات المعارضة المسلحة للتخلص من نظام ديبي الحاكم.
6- رسائل ضمنية لمالي: عمد المجلس العسكري الانتقالي في باماكو، برئاسة العقيد عاصمي غويتا، للاستعانة بمجموعة فاغنر لتدريب القوات المالية وتوفير الخدمات الأمنية في مواجهة التهديدات الإرهابية المتزايدة. وعلى الرغم من إشارة مساعدة وزير الخارجية الأمريكي للشؤون السياسية، فيكتوريا نولاند، إلى أن اتجاه الجيش المالي للتعاون مع الشركة الروسية يجعل من الصعب على الإدارة الأمريكية تقديم الدعم العسكري لباماكو، بيد أنها ألمحت إلى أن واشنطن ما زالت تواصل تقديم المساعدات الإنسانية لمالي، وهو ما عدته بعض التقديرات بمثابة تلويح أمريكي بإمكانية تقديم الدعم العسكري لباماكو حال تخليها عن الاستعانة بمجموعة فاغنر.
وتزامنت هذه الأخبار مع تقارير غير مؤكدة تشير إلى استمرار المساعي الأمريكية والأوروبية لإقناع المجلس العسكري الحاكم في مالي بإنهاء تعاونه مع فاغنر مقابل رفع العقوبات المفروضة على باماكو، والحصول على مزيد من الدعم الاقتصادي والعسكري.
وعلى الرغم من صعوبة تغير موقف السلطات الحاكمة في مالي، على الأقل، في المدى المنظور، بيد أن هذا السيناريو يبقى غير مستبعد، خاصة في ظل التهديدات الأمنية المتفاقمة التي تعاني منها مالي حالياً، فضلاً عن الأوضاع الاقتصادية المتدهورة، والتي ربما تزيد الضغط على المجلس العسكري الحاكم، أو تدفع نحو تكرار المحاولات الانقلابية وتشكيل مجلس عسكري جديد بتوجهات مغايرة.
انعكاسات محتملة
في إطار التحركات الأمريكية الراهنة لتطويق النفوذ الروسي وشركة فاغنر شبه العسكرية في الداخل الإفريقي، هناك جملة من الانعكاسات المحتملة، يمكن عرضها على النحو التالي:
1- استمرار التمدد الروسي في إفريقيا: عكست وثائق الاستخبارات الأمريكية المسربة عن محدودية التأثير والفاعلية لتحركات واشنطن لمحاصرة نفوذ مجموعة فاغنر، إذ لم تتمخض هذه التحركات سوى عن انتكاسات محدودة لفاغنر في القارة الإفريقية.
وتشير الوثائق الأمريكية إلى أن الشركة الروسية باتت منتشرة في ثماني دول إفريقية على الأقل من بين الدول الثلاثة عشر التي ركزت فاغنر على تعزيز نفوذها بها، معتبرة أن الأخيرة باتت تشكل "قوة غير مقيدة" في إفريقيا، وأن لديها تطلعات لتوسيع وجودها في مزيد من الدول الإفريقية، حتى في ظل انخراطها المكثف في الحرب الأوكرانية، لذا يتوقع أن تشهد الفترة المقبلة استمرار التمدد الروسي في إفريقيا.
2- موجة جديدة من التنافس الدولي: حذرت تقارير أمريكية من استمرار تنامي نفوذ فاغنر الروسية في القارة الإفريقية، وأن ذلك ينذر بتدشين موجة جديدة من التنافس الدولي الأكثر حدة في الساحة الإفريقية، فقد كشفت إحدى الوثائق المسربة عن الاستخبارات الأمريكية، على سبيل المثال، أن فرنسا أعربت عن استعدادها للقيام بضربات عسكرية ضد مجموعة فاغنر الروسية حال عمدت الأخيرة إلى مساندة أي انقلاب عسكري أو هجمات لحركات المعارضة المسلحة التشادية ضد السلطة الحالية في نجامينا، برئاسة محمد إدريس ديبي، في مؤشر خطر يهدد بأخذ التنافس الدولي في إفريقيا منحى أكثر عنفاً.
وفي الختام، رغم تزايد القلق الأمريكي من النفوذ المتنامي لمجموعة فاغنر الروسية في إفريقيا، بيد أن التحركات الأمريكية تبدو، حتى الآن، غير قادرة على تطويق هذا التمدد، ولاسيما في ظل الحديث عن وجود انقسام داخل الإدارة الأمريكية، بين وزارتي الخارجية والدفاع، بشأن آليات التعامل مع هذا الملف، بين اتجاه يفضل الحفاظ على الأنظمة القائمة وإقناعها بفك الارتباط بفاغنر، مقابل اتجاه آخر يدعم استخدام الأدوات الأكثر حدة للتخلص من وجود المجموعة الروسية في الدول الإفريقية.