على الرغم من أن حرب أوكرانيا قد وضعت دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، شأنها شأن دول أخرى كثيرة، في اختبار صعب؛ فإنها قد حرصت على استمرار موقفها الراسخ إزاء التمسك بالمبادئ الأساسية للأمم المتحدة والقانون الدولي، وفي مقدمتها تغليب لغة الحوار والدبلوماسية في حل الأزمات، انطلاقاً من قناعة راسخة بأن الاصطفاف والانحياز لأي طرف لن يقود سوى إلى مزيد من العنف وسفك الدماء. وحظي هذا الموقف الخليجي باهتمام إقليمي ودولي واسع النطاق، وفي هذا المقال نسلط الضوء على الأبعاد والمنطلقات والثوابت التي تفسر رؤية دول مجلس التعاون الخليجي للحرب الروسية في أوكرانيا، وسُبل التعاطي معها.
سياقات حاكمة:
وسط انقسام حاد واختلاف دولي واضح في مواقف الدول حيال التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، كان بلورة موقف سياسي ودبلوماسي خليجي يصب في مصلحة دول مجلس التعاون مسألة حساسة ودقيقة للغاية؛ لأسباب واعتبارات عديدة، ومنها الآتي:
1- علاقات الشراكة القوية والمتنامية التي تربط دول مجلس التعاون الخليجي مع طرفي الأزمة؛ روسيا من جهة، وأوكرانيا والغرب بقيادة الولايات المتحدة من جهة ثانية. فهناك روابط ومصالح خليجية ضخمة في مختلف القطاعات والمجالات مع الطرفين، وثمة حرص على بناء علاقات متوازنة مع جميع القوى الدولية، ما يجعل التضحية بأي من هذه الروابط والمصالح مسألة خارج حساب صُنع القرار السياسي الخليجي.
2- إن بناء موقف خليجي واضح إزاء الحرب الأوكرانية يمثل اختباراً صعباً لمُجمل قناعات وموروث السياسة الخارجية لدول مجلس التعاون من المبادئ والقيم التي تتمسك بها هذه الدول منذ تأسيسها.
3- إن دول مجلس التعاون الخليجي تعد من أكبر الدول المُنتجة للنفط في العالم، فالسعودية والإمارات والكويت أعضاء رئيسيون في تحالف "أوبك+"، وكان لزاماً عليهم التصرف بحكمة وهدوء في هذه الظروف المُعقدة دولياً؛ بالنظر إلى حساسية أسواق الطاقة الدولية لأي خلافات قد تقوض هذا التحالف النفطي الضامن لاستقرار أسواق الطاقة وعدم حدوث أي اضطرابات في الإمدادات، وهي مسألة تهم المنتجين والمستهلكين على حد سواء، أي روسيا والغرب معاً.
توازن خليجي:
في ضوء ما سبق، حرصت دول مجلس التعاون الخليجي على تبني موقف قائم على المبادئ والتمسك بالقانون الدولي في التعاطي مع الحرب الأوكرانية، باعتبار أن ذلك الخيار يمثل التموضع الاستراتيجي الأمثل والوحيد الذي يضمن لهذه الدول الحفاظ على مصداقيتها الدولية ويتيح لها هامش مناورة سياسي مناسب للتحرك بحثاً بين الخصوم عن مخرج مما آلت إليه الأوضاع. لذا فقد أوضحت مصادر خليجية عقب تصويت مجلس الأمن الدولي في فبراير الماضي على مشروع قرار أمريكي – ألباني ضد الحرب الروسية في أوكرانيا، أن تأييد طرف في هذه الحرب لا يؤدي إلا إلى المزيد من العنف، لذا فقد كان الامتناع عن التصويت في مجلس الأمن تجسيداً لموقف إماراتي - خليجي رصين ينأى بهم عن الاصطفاف والاستقطاب الدولي الذي كان ولا يزال في ذروة قوته.
وتحرص دول مجلس التعاون الخليجي في علاقاتها مع القوى الدولية على تحقيق التوازن، بما يضمن تحقيق مصالحها الاستراتيجية مع الجميع. لذا فإن تعميق التعاون الخليجي - الروسي، وكذلك الخليجي - الصيني، لا يأتي على حساب العلاقات الاستراتيجية القوية التي تربط دول الخليج بالولايات المتحدة الأمريكية، وهذا الأمر يجسد شفافية الدبلوماسية الخليجية وقدرتها على التحرك في مناطق التعاون المشتركة مع الجميع.
ولا شك أن الشراكة الاستراتيجية المتنامية بين دول مجلس التعاون وروسيا لا تأتي خصماً من رصيد علاقاتها الاستراتيجية مع قوى دولية أخرى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية. فما يربط دول الخليج وواشنطن تحالف عميق وراسخ يمضي في مسارات موازية لأي شراكات استراتيجية مستحدثة. ومن ثم، فإن الشراكة الاستراتيجية للخليج مع روسيا تعكس مبدأ تنويع البدائل والخيارات الاستراتيجية وتفتح آفاقاً جديدة للتحرك والمناورة أمام الدبلوماسية الخليجية من دون افتئات على التزاماتها حيال شركائها الاستراتيجيين الآخرين. والأهم من ذلك أن قيادات دول الخليج تمتلك رؤية استراتيجية واضحة في بناء علاقاتها الدولية وتطويرها، حيث تؤكد دائماً على أن دولها حريصة على التعاون مع العالم بأسره من دون استثناء لضمان مستقبل مزدهر لمنطقة الشرق الأوسط والخليج العربية.
دبلوماسية مرنة:
يشير تحليل العلاقات الخليجية – الأمريكية، أو الخليجية - الروسية في السنوات الأخيرة، إلى أن دول مجلس التعاون باتت تمتلك من المرونة ما يجعلها قادرة على استيعاب وتوفير هوامش حركة مناسبة لكل شريك في التعامل مع ملفات تتماس مع الطرف الآخر. فالولايات المتحدة تدرك أهمية دور دول الخليج في الحفاظ على الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط والعالم، ودول الخليج بدورها لا تريد الاصطدام بالشريك الأمريكي، ولكنها تسعى في الوقت ذاته لتحقيق أهداف استراتيجية تتعلق بمصالحها الاستراتيجية في ملفات مثل أسعار النفط، والإبقاء على الشراكة مع روسيا والصين. وفي جميع الأحوال يحرص البيت الأبيض، في المقابل، على تفادي الصدام مع دول الخليج التي لا ترغب في أن تكون طرفاً في أي صراعات دولية يمكن أن تهدد مسيرتها التنموية أو تؤثر سلباً في طموحاتها الاقتصادية الكبرى. والأمر اللافت في التحركات الدبلوماسية الخليجية أنها تمضي وفق قاعدة "رابح - رابح"؛ بمعنى ضمان فوائد وعوائد استراتيجية مناسبة لطرفي العلاقة، ما يعزز فرص نجاح الدبلوماسية الخليجية في بناء شراكات مع الجميع.
وبالرغم من أن بعض الأدبيات السياسية تدّعي حدوث تغيرات جذرية في نهج السياسة الخارجية لدول الخليج وتتحدث عن تخليها عن نهج الدبلوماسية الهادئة الذي كانت تتسم به خلال مرحلة السابقة، واعتماد استراتيجية مغايرة تعتمد على نهج أكثر تفاعلية مع الأحداث والأزمات الإقليمية؛ فإن تحليل الشواهد بتأن يشير إلى أن دول مجلس التعاون بشكل عام هي دول فتية تسري فيها الحيوية والديناميكية التي تتيح لها سرعة الاستجابة وردة الفعل والتفاعل مع ما يحيط بها من أحداث وأزمات بشكل أكثر وضوحاً، لما لهذه الأزمات من تأثيرات وتبعات استراتيجية ملموسة على مصالحها وبقية الشعوب العربية، وهذا الأمر لا يعد تحولاً وتغيراً بقدر ما يعد استجابة واقعية للمتغيرات الإقليمية والدولية.
ثوابت خليجية:
إن الموقف الخليجي تجاه الحرب الأوكرانية لا ينفصل عما سبقه من تحركات ومواقف خليجية، إقليمياً ودولياً، ولا يمثل في حقيقة الأمر إعادة تموضع أو تغيير للأولويات الاستراتيجية أو تحول نحو الشرق والتخلي عن شراكات الغرب، لاسيما الولايات المتحدة؛ ولكنه يجسد تماماً قراءة جيدة وواعية للمشهد الدولي، وما يموج به من تغيرات في موازين القوى، فضلاً عن كونه استمراراً في الإمساك بزمام المبادرة والمبادأة استراتيجياً في التعاطي مع الأزمات والتوترات والتفكير خارج الصندوق في التعاطي معها. وكل ذلك هو في حقيقة الأمر نتاج دراسة متأنية للظروف ومعطيات البيئة الاستراتيجية الإقليمية والدولية، بما يحقق مصالح دول مجلس التعاون ويضمن لها خطوات استباقية في ملفات متحركة.
والفكرة من وراء هذا التوجه الخليجي هو الحيلولة دون تأثر قاطرة التنمية الخليجية المتسارعة بما يجري من حولها عالمياً من تنافس واستقطاب وصراعات وتوترات، وهنا يبدو الأمر مفهوماً إلى حد كبير، فدول مجلس التعاون لا تريد سوى توفير أجواء دولية آمنة ومستقرة تضمن لعملية التنمية التواصل والاستمرارية وتضمن لها كذلك مستويات متزايدة من التعاون والشراكات بينها وبين الدول والاقتصادات الأخرى، لاسيما تلك التي تتمتع بمزايا نسبية يمكن أن تسهم في تعزيز معدلات الأداء التنموي الخليجي في مختلف القطاعات.