أخبار المركز
  • د. أمل عبدالله الهدابي تكتب: (اليوم الوطني الـ53 للإمارات.. الانطلاق للمستقبل بقوة الاتحاد)
  • معالي نبيل فهمي يكتب: (التحرك العربي ضد الفوضى في المنطقة.. ما العمل؟)
  • هالة الحفناوي تكتب: (ما مستقبل البشر في عالم ما بعد الإنسانية؟)
  • مركز المستقبل يصدر ثلاث دراسات حول مستقبل الإعلام في عصر الذكاء الاصطناعي
  • حلقة نقاشية لمركز المستقبل عن (اقتصاد العملات الإلكترونية)

ملاذات المتعصبين:

دور شبكات "الانترنت المظلم" في الهجوم الإرهابي بنيوزيلندا

24 مارس، 2019


عرض: باسم راشد - باحث في العلوم السياسية

كشف حادث إطلاق نار إرهابي استهدف مسجدين في مدينة كرايستشيرش جنوب نيوزيلندا، يوم الجمعة الموافق الخامس عشر من الشهر الجاري، والذي أسفر عن مقتل ٤٩ شخصًا، عن نمطٍ جديدٍ من العنف والتطرف داخل المجتمعات الغربية، يعتمد بشكل كبير على شبكات الإنترنت المظلم "Dark Web"، سواء من حيث التنظيم والإعلان والدعم أو التأييد اللاحق لها.

وفي أعقاب الحادث الإرهابي الأخير، اهتمت عديد من التحليلات الغربية بمحاولة فهم طبيعة الشبكات المظلمة، وما يتم خلالها، ودورها في نشر التطرف بين الأوروبيين، وكيف مكَّنت قاتل كرايستشيرش من تنفيذ عمليته الإرهابية الأخيرة؟

آليات جديدة

لم يعد الإرهابيون، في الوقت الحالي، بحاجة إلى خدمات وسائل الإعلام التقليدية لتوثيق وبث جرائمهم التي تغذيها الكراهية، بل إنهم بمساعدة الإنترنت وأدوات بث الفيديو المباشر، يمكنهم بأنفسهم القيام بذلك. وهذا ما فعله منفذ هجوم كرايستشيرش من خلال استخدام شبكات الإنترنت المظلم.

وما يُميز تلك الشبكات أنها تسمح بتدشين المواقع الإلكترونية ونشر المعلومات بدون الكشف عن هُوية الناشر أو موقعه. ويمكن الوصول إلى الإنترنت المظلم من خلال خدمات تقدمها برامج إلكترونية مثل (Tor)، كطريقة لتوفير حرية التعبير عن الرأي، والوصول إلى المعلومات وحق الخصوصية، والحيلولة دون تحليل البيانات المتنقلة.

وفي هذا السياق، نشرت كلٌّ من "جوليا إبنر" و"سيسيل جويرن" مقالًا في "هآرتس" بعنوان: "من الميمات(*) الساخرة إلى ذبح المسلمين: كيف تُحوِّل الشبكةُ المظلمة المتعصبين البيض إلى إرهابيين"(١)، أشارتا خلاله إلى أن "برينتون تارانت"، منفذ هجوم كرايستشيرش، البالغ من العمر 28 عامًا، كان عضوًا نشطًا في مجتمع اليمين المتطرف على الإنترنت في منصة تسمى 8chan، وهي عبارة عن منتدى غير مراقب ينشر صورًا تحث على الكراهية والعنصرية "الساخرة" التي أصبحت شائعة بين القوميين البيض، والنازيين الجدد، والمتعاطفين مع اليمين المتطرف، مع التأكد من عدم كشف هُوية مستخدميه.

كما أشار المقال إلى أن تلك المنصات الاجتماعية غير الخاضعة للتنظيم، مثل 8chan وVoat وGab وMinds، تقدم نفسها على أنها بدائل "حرية التعبير" للمنصات الرئيسية، وتمثل ملاذات آمنة عبر الإنترنت لا يمكن تتبعها. ومع عدم وجود اعتدال في المحتوى المنشور، تعج منصات التواصل المظلمة "Dark Social" بالمحتوى البغيض والصور العنيفة لتيار اليمين المتطرف.

ويُشير التحليل إلى أن المتطرفين اليمينيين يعتمدون أيضًا على منصات التواصل الاجتماعي الرئيسية لنشر قصصهم، ويتنقلون بمهارةٍ بين تلك المنصات والأخرى المظلمة باستخدام ما تتيحه كل منها، وهو ما استطاع "تارانت" فعله من خلال بثه المباشر لجريمته العنصرية، فضلًا عن نشره بيانًا يتضمن 74 صفحة على جميع المنصات المختلفة قبل الجريمة بيوم واحد، وتنويهه عن سلاحه قبل العملية بأيام قليلة على جميع شبكات التواصل الاجتماعي.

وأكد المقال أن هجوم كرايستشيرش أظهر مدى قدرة المتطرفين اليمينيين على الاستفادة من الإنترنت للتعبير عن أيديولوجيتهم العنيفة، وحشد الدعم من المجتمع الافتراضي عبر كافة منصاته. وأوضح الهجوم أيضًا أن الحكومات والأجهزة الأمنية وشركات التكنولوجيا غير مستعدة لمواجهة تحديات اليمين المتطرف في استخدام شبكات الإنترنت المظلم في التعبئة.

الديمقراطيات الغربية والتطرف

في مقاله على موقع دورية "فورين بوليسي" المعنون "الشبكات المظلمة مكَّنت قاتل كرايستشيرش"(٢)، تساءل "جيكوب آسلاند رافندال" عن احتمالية وجود شبكة فعلية سرية للمتطرفين عبر الإنترنت لتنفيذ هجمات مستقبلية. وأشار إلى أنه على مدى العقود الثلاثة الماضية، نُفِّذت الهجمات الإرهابية الواسعة النطاق بدافع من المعتقدات اليمينية المتطرفة تقريبًا من قِبل أفراد منفردين وخلايا صغيرة مستقلة، وذلك لاستحالة الحفاظ على جماعة يمينية متطرفة ذات طموحات إرهابية في الديمقراطيات الغربية، نظرًا لمراقبة الدولة الشديدة، ونقص الدعم الخارجي، وعدم وجود ملاذات آمنة.

ومن الأمثلة على ذلك، المنظمة اليمينية البريطانية "Action National" التي يقضي قادتها ونشطاؤها حاليًّا عقوبات بالسجن لمدد طويلة. ومن ثم لا يوجد أمام المتطرفين سوى خيارين؛ أولهما القيام بعمليات بشكل منفرد، وثانيهما العمل بشكل سري من خلال الشبكات المظلمة على الإنترنت التي أصبحت أرضًا خصبة تضم المتطرفين الجدد من جميع التيارات، بمن فيهم منفذ هجوم كرايستشيرش.

ويُشير "رافندال" إلى أن هناك دلائل تشير إلى وجود بعض الشبكات ذات التوجهات اليمينية المتطرفة العابرة للحدود الوطنية التي يعمل ناشطوها عبر تطبيقات مشفرة على الإنترنت لإعداد هجمات إرهابية مستقبلية. فعلى المستوى الوطني، يبدو أن العديد من البلدان تستضيف عن غير قصد شبكات سرية متطرفة تقوم بتسهيل الحملات الإرهابية ضد الأقليات والأعداء السياسيين أو الحكومة. والعديد من هذه الشبكات لها أيضًا روابط دولية. وأبرز مثال على ذلك الخلية الإرهابية القومية الاشتراكية الألمانية (NSU)، التي قتلت بين عامي 2000 و2006 تسعة مهاجرين وشرطيًّا، ونفذت ثلاث هجمات منفصلة على الأقل بحسب التحليل.

ولم يقتصر انتشار تلك الخلايا المتطرفة على ألمانيا فحسب، بل شمل دولًا أخرى مثل إيطاليا وفرنسا والولايات المتحدة وروسيا. فبعد عام 1990، كان عدد الهجمات العنيفة لليمين المتطرف في روسيا أعلى عدة مرات من أي دولة أخرى.

ويُضيف الكاتب أن السويد وألمانيا شهدتا أعلى معدل من هجمات اليمين المتطرف، وتأتي في المرتبة التالية كل من: الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وإسبانيا، واليونان. ومع ذلك، فإن معظم هذه الهجمات لم تُنفَّذ من قبل مجموعات منظمة أو حتى من قبل خلايا مستقلة، لكن من قبل مجموعات صغيرة وغير منظمة أو فاعلين منفردين، مثل إطلاق النار في الكنيس اليهودي بولاية بنسلفانيا في الثامن والعشرين من أكتوبر الماضي، وأخيرًا هجوم كرايستشيرش.

ويُشير "رافندال" إلى أن الديمقراطيات الغربية تواجه اليوم نوعين من التهديدات العنيفة من أقصى اليمين؛ يتمثل النوع الأول في الهجمات العفوية التي يتم تنفيذها من قبل جهات فاعلة غير منظمة لها دوافع اليمين المتطرف، وغالبًا ما يكون أفرادها تحت تأثير الكحول أو المخدرات. وتعد السكاكين والقبضات والعصي وقضبان الحديد الأسلحة المستخدمة الأكثر شيوعًا في تلك الهجمات. 

أما النوع الثاني، فينصرف إلى الهجمات واسعة النطاق التي تتسبب في خسائر متعددة، ويرتكبها فاعلون منفردون أو خلايا صغيرة مستقلة ذاتيًّا. وهذه الهجمات نادرة الحدوث، وعادةً ما تكون متعمدة، وتستخدم فيها الأسلحة النارية والمتفجرات. ويشير التحليل إلى أن المسلمين قد أصبحوا هدفًا رئيسيًّا مؤخرًا لتلك الهجمات، والتي كان آخرها هجوم كرايستشيرش. 

ومع ذلك، يؤكد الكاتب أن الجناة يستلهمون من بعضهم الأفكار المتطرفة وطرق تنفيذ العمليات العنيفة، وهو المقصود بفكرة الشبكة السرية عبر الإنترنت؛ إلا أنهم برغم أنهم يهاجمون أهدافًا مماثلة فإن الجناة يعملون بمعزل عن بعضهم دون اتصال مباشر أو تعاون "رسمي" فيما بينهم.

مصدر الإلهام

تتفق "كاثرين لمبي"، في مقالها المعنون "سمعة سيئة في مجتمعات الشبكة المظلمة تبشِّر بعهد جديد للإرهاب"(٣)، مع "رافندال" في أن إرهابي كرايستشيرش استلهم أفكاره من القاتل الجماعي النرويجي "أنديرس بريفيك"، وهو ما جاء صراحة في بيان "تارانت" الذي أكد فيه أن "بريفيك" هو ملهمه الوحيد.

ومن الجدير بالذكر أنه في 22 يوليو 2011، فجر "بريفيك" لأول مرة قنبلة مصنوعة من الأسمدة تزن 2100 رطلًا في حي الحكومة النرويجية في قلب أوسلو، مما أسفر عن مقتل ثمانية أشخاص، قبل قيامه بإطلاق النار وقتل 69 شخصًا في "أوتويا"، وهي جزيرة صغيرة تبعد 25 ميلًا عن العاصمة، وأصيب 158 شخصًا بجروح خطيرة في تلك الهجمات. 

وقد اختار "بريفيك" أهدافه من ممثلي الحكومة وأعضاء جناح الشباب في حزب العمل الحاكم، بتهمة ما أسماه "خيانة الماركسية الثقافية"، مما يسهل عمدًا "غزو المسلمين" للنرويج، وفقًا له.

وقد كان الهجوم الإرهابي لـ"بـريفيك" فريدًا من نواحٍ عدة، طبقًا للمقالين. فإلى جانب ارتفاع عدد القتلى، كان مرتكب الجريمة متطرفًا ذاتيًا تمامًا عبر الإنترنت، وهو أمر نادر حدوثه. كما أنه كان الهجوم الإرهابي اليميني المتطرف الوحيد في العقود الثلاثة الماضية، والذي يجمع بين المتفجرات والأسلحة النارية. لذا، يتقاسم مطلق النار في كرايستشيرش هذه الصفات مع "بريفيك"، حيث حمل "تارانت" منفذ الهجوم متفجرات في إحدى سياراته. ويبدو أنه أصبح متطرفًا ذاتيًّا عبر الإنترنت، وأنه حصل على شعبية أكبر في المنصات المظلمة التي يستخدمها اليمين المتطرف.

من ناحيةٍ أخرى، كان "بريفيك" أول شخص ينتج قنبلة من الأسمدة المخففة، وبرغم الجهود المبذولة لتخفيف تركيز نترات الأمونيوم بالأسمدة في أوروبا، إلا أن "بريفيك" جمع بين الأفكار من مئات وصفات صنع القنابل التي تم تنزيلها من الإنترنت، ومن ثم يمكن أن يكون بحسب عديد من التحليلات مصدر إلهام للإرهابيين في المستقبل.

وتجدر الإشارة إلى أنه تم إنشاء شبكة دعم على الإنترنت المظلم لـ"بريفيك" عقب الهجمات، وتم تنسيقها بواسطة شخص غامض، وقام من خلالها بترجمة بيانه إلى لغات عديدة، ونشر رسائله التي كتبها من داخل محسبه. وبرغم القبض على ذلك الشخص الغامض فيما بعد، إلا أن فعالية ما قام به على الشبكات المظلمة قد يُمثل إلهامًا لمتطرفين آخرين قد يحظون بمثل هذا الدعم وتلك الشعبية مستقبلًا.

الترفيه كدافع للإرهاب 

ركَّز "نيكولاس جونسون" في مقال عنوانه "هجوم كرايستشيرش: الشبكة المظلمة للإرهاب كترفيه"(٤) على بُعد مختلف للهجوم الإرهابي الذي حظي باهتمام الرأي العام العالمي مؤخرًا، وهو فكرة السخرية التي اتّبعها منفذ الهجوم منذ إعلانه عن تنفيذ جريمته على الشبكات المظلمة وحتى وقت تنفيذ العملية بهدف "الترفيه عن مجتمعه" على الإنترنت المظلم.

ويُشير جونسون إلى أن "تارانت" أدمج الفكاهة والسخرية في بيانه، وكذلك في البث المباشر للعملية، حتى إنه دعا إلى دعم شخصية يوتيوب الكوميدية "بيو دي باي" قبل دخول المسجد وقتل المصلين، كما أنه ادعى أن "كانديس أوينز"، الناشطة السياسية الأمريكية المتطرفة، هي الشخصية الرئيسية المسئولة عن تطرفه، وقال في سخرية واضحة، إنه لا يوافق على "مواقفها المتطرفة".

ويؤكد "جونسون" أن خصوصيات هجوم "تارانت" ليست ضئيلة بأي حال من الأحوال. ففي هذا النوع من الإرهاب، يحدث التطرف تحت قشرة من التسلية، وتلعب الفكاهة دورًا مهمًّا في إثارة حساسية المشاهد لرعب ما يتم تصويره، ويتم التغطية على حقيقة قتل البشر الحقيقيين بواسطة الميمات الملطفة والقصص الكبرى عن الصراع الثقافي.

وفي الختام، فإنه من الصعب معرفة أين سيقود هذا النموذج الجديد من الإرهاب المعتمد على شبكات الإنترنت المظلم، خاصة في ظل صعوبة السيطرة عليها أو تتبع مستخدميها، بما يزيد من تهديداتها، ما يدفع صناع السياسة إلى معرفة المزيد عن سبب انجذاب الكثيرين إليه لنشر أفكارهم المتطرفة والعنيفة.

الهوامش: 

(*) الميم: مصطلح يقصد به نشر فكرة أو تصرف أو أسلوب من شخص لآخر داخل ثقافة بوسائل غير تقليدية، وهي في العادة تكون من خلال التقليد، بهدف نقل ظاهرة معينة في الغالب.

1- Julia Ebner and Cécile Guerin, “From Satirical Memes to Massacring Muslims: How the Dark Web Turns White Supremacists Into Terrorists”, Haartez, March 19, 2019.

2- Jacob Aasland Ravndal, “The Dark Web Enabled the Christchurch Killer”, Foreign Policy, March 16, 2019. 

3- Catharine Lumby, “Notoriety In Dark-Web Communities Heralds New Era For Terrorism”, The Sydney Morning Herald, March 16, 2019.

4- Nicolas Johnston, “Christchurch Attack: The Dark Web Of Terrorism As Entertainment”, The Interpreter, 19 March 2019.