يبدو النظام الحاكم في إيران قوياً ومُحصناً من الداخل على الرغم من العديد من الاضطرابات الأمنية التي تحيط بإيران في دول الجوار، وهذا التماسك، إن جاز التعبير، مرده عدة عوامل، منها الاستراتيجيات الأمنية التي ينتهجها النظام، ووجود بعض المؤسسات التي تلعب دوراً مؤثراً في الحفاظ على أمن واستقرار النظام، وفي مقدمتها الحرس الثوري الإيراني.
وفي ظل التغيرات التي كشفت عنها نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة، وصعود الإصلاحيين في مقابل تراجع المحافظين، تبقى الاحتمالات ضعيفة فيما يتعلق بتأثير هذه الانتخابات على مسار السياسة الخارجية الإيرانية في منطقة الشرق الأوسط، نظراً للتحديات العديدة التي تواجهها طهران في الإقليم.
ما سبق يُمثل أبرز ما توصلت إليه حلقة نقاشية عقدها مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة يوم 11 مايو 2016، واستضاف خلالها الأستاذ محمد عباس ناجي، رئيس تحرير دورية مختارات إيرانية بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، والأستاذة رانيا مكرم، باحثة بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية.
لماذا يبدو النظام الإيراني قوياً؟
تقع إيران في محيط إقليمي غير مستقر، يشهد العديد من الاضطرابات والصراعات، فكل دول جوارها المباشر تعرضت إما إلى أزمات داخلية أو صراعات خارجية أو حروب. وهذا يعني أن إيران مُرشحة منطقياً للتعرض لاضطرابات أمنية وحوادث إرهابية كغيرها من دول المنطقة، وهو أمر تدركه تماماً الأجهزة الأمنية والنظام الإيراني بشكل عام.
ومع ذلك، يبدو النظام الإيراني مُحصناً من الداخل ضد هذه الاضطرابات، وهو الأمر الذي يرجع إلى عدة عوامل قوة يتمتع بها هذا النظام، وهي:
1- استراتيجية ردع الإرهاب التي ينتهجها النظام، ففي أكثر من مناسبة يحرص المسؤولون الإيرانيون على تأكيد أن بلادهم تنتهج استراتيجية "الردع الفعَّال" في الداخل والخارج، والتي بموجبها يتم إحباط العمليات الإرهابية قبل التنفيذ، وتفكيك خلاياها.
وقد اكتسبت إيران خبرة لا بأس بها في مجال السيطرة على الوضع الأمني داخلياً ضد الاختراق الخارجي، نظراً لاعتماد النظام في بقائه واستمراره على الجهاز الأمني والعسكري الضخم والمتوغل في مفاصل الحكم والاقتصاد بشكل كبير، بالإضافة إلى التطوير الدائم للاستراتيجية الأمنية للبلاد.
2- الدور الذي تلعبه القوى الأساسية في هيكل النظام الإيراني، وفي مقدمتها الحرس الثوري والمؤسسات التابعة لها، حيث كان ومازال لها دور كبير في الحفاظ على أمن واستقرار النظام في طهران.
3- وجود استراتيجية "أمن ثقافي" لها دور بارز في تحصين العقلية الإيرانية ضد المحاولات الخارجية للتأثير على معتقدات الداخل. فإلى جانب الالتزام بالعقيدة الأمنية التقليدية من النظام الإيراني، والتي وُضعت في أعقاب الثورة الإسلامية، وإيمانه بأهميتها، فقد خلق هذا النظام نموذجاً خاصاً به مما يُسمى "الأمن الثقافي"، من خلال حرصه غير المنقطع على ترديد الشعارات التي من شأنها تكريس الكراهية للغرب، وتجسيد العدو الخارجي، وذلك ضمن آليات تقوية النظام في الداخل والحث على الالتفاف حوله، وكذلك التركيز على هدف قومي يتمثل في البرنامج النووي الإيراني، فضلاً عن فرض رقابة متشددة على مظاهر الانفتاح على الغرب بصفه خاصة، وكل ما من شأنه التأثير على الهوية الفارسية للبلاد عموماً.
كما يشدد النظام الإيراني قبضته على الإعلام بشقيه التقليدي والحديث، ويحجب شبكات التواصل الاجتماعي، فارضاً حصاراً ثقافياً من شأنه تقليل فرص التأثير على معتقدات الداخل الإيراني.
4- الدور الرعوي للعديد من المؤسسات الرسمية وغير الرسمية، حيث أخذت هذه المؤسسات على عاتقها مساعدة المحتاجين والفقراء وتقديم المساعدات لكبار السن والمتقاعدين، وهو في حد ذاته يعد استقطاباً لهذه الفئة من المجتمع الإيراني، لاسيما أن زيادة نسبة الفقر والعوز قد ساعدت في زيادة دور هذه المؤسسات التي توالي النظام وتتبعه. ولعل الحرس الثوري أحد أهم هذه المؤسسات، حيث استطاع أن يُرسي وجوده في العديد من مجالات الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية.
الانتخابات البرلمانية الإيرانية وأهميتها
في إطار الحديث عن الأوضاع الداخلية في إيران، تطرق المشاركون إلى فعاليات ونتائج الجولة الثانية من الانتخابات البرلمانية التي أُجريت يوم 29 أبريل الماضي، لانتخاب 68 عضواً في مجلس الشورى من إجمالي 290 عضواً.
وحقق المرشحون الإصلاحيون والمعتدلون من مؤيدي الرئيس حسن روحاني نتائج طيبة في الانتخابات، حيث لم يعد المجلس خاضعاً لسيطرة المحافظين، وأصبح التياران الرئيسيان على الساحة السياسية الإيرانية شبه متساويين في التمثيل داخل البرلمان.
وترجع أهمية هذه الانتخابات إلى الآتي:
1- أنها أول انتخابات تُجرى بعد الوصول إلى الاتفاق النووي بين إيران والغرب في يوليو 2015، ورفع العقوبات تدريجياً في منتصف يناير 2016. وبالتالي فالملف النووي تحول إلى أحد محاور الصراع السياسي داخل طهران، حيث إنه مازال مثار جدل بين الأطراف السياسية، في ظل الاختلاف حول جدوى هذا الاتفاق النووي ومدى تأثيره على مصالح إيران.
وقد عكست نتائج التصويت في الانتخابات البرلمانية تأييداً للاتفاق النووي الذي أبرمته حكومة الرئيس روحاني مع القوى الدولية، مقابل رفع العقوبات الاقتصادية عن إيران.
2- تتزامن هذه الانتخابات مع تزايد الحديث داخل إيران حول خليفة المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية، فلا أحد يعرف من يخلف المرشد الحالي علي خمانئي. وربما يكون النظام يتعمد ذلك، لأن استيضاح خريطة المرشحين لخلافة المرشد سيُولد صراعاً آخر داخل البلاد.
وقد ارتبطت انتخابات مجلس الشورى الإيراني بانتخابات مجلس الخبراء، وهذا يعني أن مجلس الخبراء الجديد (مدته ثماني سنوات) هو من سيحدد المرشد القادم، في ظل تدهور صحة خمانئي. وهذا المجلس يتشكل من رجال الدين فقط، ويتم إخضاع مرشحيه لاختبار فقهي.
أبرز الملاحظات على الانتخابات الأخيرة
ثمة عدد من الملحوظات كشفت عنها انتخابات مجلس الشورى الإيراني التي أُجريت مؤخراً، وفي مقدمتها ما يلي:
1- أثبتت نتائج الانتخابات الأخيرة قاعدة أن البرلمان الإيراني يأتي على شاكلة رئيس البلاد، وهذا يعني أن البرلمان يخضع إلى توجهات الرئيس. فعندما جاء محمد خاتمي كانت الأغلبية للإصلاحيين، وعندما أتى أحمدي نجاد عكست انتخابات مجلس الشورى حينها فوز المحافظين. وعندما تولى حسن روحاني السلطة في عام 2013، حقق الإصلاحيون نتائج بارزة ومرضية في الانتخابات البرلمانية الأخيرة.
2- أصبح للإصلاحيين وزن داخل البرلمان الإيراني خلال دورته الجديدة، وبالتالي سيكون لهم تأثير على مختلف التشريعات والقوانين.
3- بات للمستقلين دور أيضاً، فهم الحصان الأسود لتغليب كفة أي من الإصلاحيين أو المحافظين داخل البرلمان الإيراني. ومع الوقت ستتحدد ملامح توازنات القوى في هذا البرلمان.
4- نتيجة الانتخابات كانت بمنزلة استفتاء على الاتفاق النووي مع مجموعة (5+1)، وهي تؤكد أن ثمة حالة من الرضا العام عن هذا الاتفاق. فمن بين 80 مرشحاً معارضاً للاتفاق النووي، نجح 12 فقط.
5- قد يتصاعد الصراع بين مجلس الشورى ومجلس صيانة الدستور، فالأخير هو من المؤسسات غير المنتخبة التي يسيطر عليها المحافظون المتشددون، ويتكون من 12 عضواً؛ يعين المرشد 6 أعضاء فقهاء دينيين منهم، أما الستة الآخرون فيكونون من الخبراء القانونيين ويعينهم مجلس الشورى بتوصية من رئيس السلطة القضائية.
ومجلس صيانة الدستور أيضاً هو المجلس الأهم بين مؤسسات الدولة، كونه مؤسسة رقابية مسؤوله عن تفسير الدستور، والتدقيق في القوانين الصادرة من مجلس الشورى، وكذلك النظر في أهلية المرشحين للرئاسة. وبالتالي في حالة إرسال مجلس الشورى تشريعات ليوافق عليها رئيس الجمهورية، قد يعترض عليها مجلس صيانة الدستور.
التأثيرات المحتملة للانتخابات الإيرانية
يمكن القول إن الانتخابات البرلمانية الإيرانية الأخيرة لن تؤثر بشكل كبير على السياسة الخارجية لطهران، وهذا مرده ما يلي:
1- أن أي تغيير مُحتمل في السياسة الإيرانية سيرتبط بالمراكز الأساسية لصنع القرار في طهران (المرشد الأعلى، الحرس الثوري)، فالاتفاق النووي لم يتم تمريره إلا بعد ما حصل الرئيس روحاني على ضوء أخضر من المرشد.
2- إجراء تغيرات في السياسة الخارجية الإيرانية هو احتمال ضعيف خلال الفترة القادمة، لأن إيران تتعرض لتحديات إقليمية غير مسبوقة، وأولها أن ثمة نوعاً من التكتل من جانب الدول الرئيسية بمنطقة الشرق الأوسط في مواجهة إيران، وهو ما بدا في أزمة إعدام نمر باقر النمر، حيث اتخذت الدول العربية سياسات هجومية ضد طهران، فضلاً عن التركيز على الدعم الإيراني للإرهاب، وللأقليات في بعض الدول.
وانعكس ذلك الأمر أيضاً في المنظمات الدولية، مثل الاجتماع الأخير لمنظمة المؤتمر الإسلامي، في اسطنبول، الذي أصدر بياناً أدان فيه تصرفات إيران وانتهاكاتها، وتدخلاتها في الشؤون الداخلية للعديد من دول المنطقة، وتورطها في عدم استقرارها.
كما أن هناك نوعاً من التهدئة في الإقليم إزاء الملفات الأساسية، وهذا ليس في صالح إيران. ومن ذلك، الملف السوري، حيث يمكن التوصل إلى تسوية سياسية بين القوى الدولية الكبرى لا تتفق مع رؤية إيران. وأيضاً مفاوضات الكويت بين الحكومة اليمنية الشرعية والحوثيين. ويُضاف إلى كل ذلك، العراقيل التي تضعها الولايات المتحدة للتسريع من رفع العقوبات المفروضة على إيران.