نظم "مركز المستقبل للدراسات والأبحاث المتقدمة" يوم 29 ديسمبر 2015 حلقة نقاشية تحت عنوان: "تطوير الدراسات المستقبلية في العالم العربي"، استضاف خلالها الدكتور "خالد عزب" رئيس قطاع المشروعات والخدمات المركزية بمكتبة الإسكندرية، والذي قدم ورقة العمل الرئيسية، حيث تمت مناقشة أهمية الدراسات المستقبلية وأهدافها والمناهج المستخدمة فيها والركائز التي تقوم عليها، وصولاً إلى تقييم واقع هذه الدراسات في الدول العربية وأهمية تطويرها.
وقد خلصت حلقة النقاش إلى عدد من النتائج الرئيسية، من أبرزها:
أولاً: تنبع أهمية الدراسات المستقبلية من أن العقل الإنساني ينشغل بطبيعته بالتفكير في الغد، كما أن حالات الغموض وغياب اليقين حول المستقبل وما سيكون عليه مصير الإنسان والمجتمعات بشكل عام أصبحت قضية تحتل حيزاً كبيراً من النقاش والاهتمام، كونها ترتبط بشكل وثيق بوعي الإنسان وإحساسه بالزمن في أبعاده الثلاثة "الماضي والحاضر والمستقبل"، وبرغبته في صياغة الغد والبحث عن رؤى واضحة حول الفرص المتاحة والتحديات القادمة مستقبلاً.
في هذا الإطار، تم التأكيد على أن الدراسات المستقبلية تساعد في تحفيز الإنسان على الانطلاق والتحرر من أعباء الماضي والحاضر، وتحديد ملامح الغد والعمل على تطوير قدراته وتنمية المجتمع. والدليل على ذلك اعتماد الدول المتقدمة في بناء خططها التنموية والسياسية منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية على الدراسات المستقبلية التي تقوم على نمط التفكير الاستراتيجي الذي يتوقع التغيرات الجذرية الحالية والمستقبلية وتأثيراتها على تطور المشروع المطلوب تحقيقه على مدى فترة زمنية محددة.
وعلى هذا النحو، تبرز أهمية الدراسات المستقبلية لأنها تعطي للدول والمجتمعات والشعوب قدرة على التطور والنهوض والتقدم من خلال الاستغلال الأمثل للموارد المتاحة لها.
ثانياً: تتمثل غاية الدراسات المستقبلية في توفير إطار زمني طويل المدى لما قد نتخذه من قرارات اليوم، ومن ثم العمل وفق نظرة طويلة المدى للتحكم في المستقبل وجعله أفضل من انتظار وقوع هذا المستقبل. وبشكل أكثر تحديداً، فهي تساعد في صنع مستقبل أفضل، وذلك بفضل ما تؤمنه من منافع متعددة، من أهمها ما يلي:
1 ـ "الإنذار المبكر"، وذلك من خلال اكتشاف المشكلات قبل وقوعها، ومن ثم الاستعداد لمواجهتها أو حتى الحيلولة دون وقوعها، ويشمل ذلك المدى القصير أيضاً.
2 ـ "التنمية الشاملة"، وذلك عن طريق إعادة اكتشاف مواردنا وطاقاتنا، خاصةً ما هو كامن منها، وتسخيرها لتحقيق التنمية ومواجهة تحديات المستقبل.
3 ـ "قاعدة معرفية للاختيارات"، أي بلورة الاختيارات، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، المتاحة، وترشيد عملية المفاضلة بينها، وذلك بإخضاع كل اختيار منها للدرس والفحص، بقصد استطلاع ما يمكن أن يؤدي إليه من تداعيات، وما يُمكن أن يسفر عنه من نتائج.
ووفقاً لذلك، وإذا ما سار الأمر وفق هذه المنافع، فإن الدراسات المستقبلية تسهم في ترشيد عمليات التخطيط واتخاذ القرارات من ناحيتين: الأولى هي توفير قاعدة معلومات مستقبلية للمخطط وصانع القرار حول البدائل الممكنة وتداعيات ونتائج كل منها. والثانية هي ترشيد ما يجب أن يسبق عملية اتخاذ القرارات من حوار وطني على مستوى النخب والجماهير بقصد تحديد الاختيارات الممكنة، وحسم بعض الخلافات وتقريب وجهات النظر.
ثالثاً: تعتمد آليات تحقيق الدراسات المستقبلية للأهداف المشار إليها سابقاً على عدد من المهام المحددة، وذلك كالتالي:
1- إعمال الفكر والخيال في دراسة مستقبلات ممكنة، أي بغض النظر عما إذا كان احتمال وقوعها كبيراً أو صغيراً؛ وهو ما يؤدي إلى توسيع نطاق الخيارات البشرية.
2- دراسة مستقبلات محتملة، أي التركيز على فحص وتقييم المستقبلات الأكثر احتمالاً للحدوث خلال أفق زمني معلوم، وغالباً ما تسفر هذه الدراسة عن سيناريوهات متعددة.
3- دراسة صور المستقبل؛ أي البحث في طبيعة الأوضاع المستقبلية المتخيَّلة وتحليل محتواها، ودراسة أسبابها وتقييم نتائجها.
4- دراسة الأسس المعرفية للدراسات المستقبلية، أي تقديم أساس فلسفي للمعرفة التي تنتجها الدراسات المستقبلية، والاجتهاد في تطوير مناهج وأدوات البحث في المستقبل.
5- دراسة الأسس الأخلاقية للدراسات المستقبلية، وهذا أمر متصل بالجانب الاستهدافي للدراسات المستقبلية، ألا وهو استطلاع المستقبل أو المستقبلات المرغوب فيها.
6- تفسير الماضي وتوجيه الحاضر، فالماضي له تأثير على الحاضر وعلى المستقبل، والكثير من الأمور تتوقف على كيفية إعادة قراءة الماضي.
7- إحداث التكامل بين المعارف المتنوعة والقيم المختلفة، فمعظم المعارف التي يستخدمها دارسو المستقبل من أجل التوصية بقرار ما، هي معارف تنتمي إلى علوم ومجالات بحث متعدّدة، ولذلك يطلق على الدراسات المستقبلية وصف "الدراسات التكاملية أو الدراسات العابرة للتخصصات".
8- "دمقرطة" التفكير المستقبلي والتصرفات ذات التوجهات المستقبلية، وإفساح المجال لعموم الناس للاشتراك في اقتراح وتقييم الصور البديلة للمستقبل الذي سيؤثر في حياتهم وحياة خلفهم.
9- تبني صورة مستقبلية مُفضَّلة والترويج لها، باعتبار ذلك خطوة ضرورية نحو تحويل هذه الصورة المستقبلية إلى واقع. ويتصل بذلك تبني أفعال اجتماعية معينة من أجل قطع الطريق على الصور المستقبلية غير المرغوب فيها، والحيلولة دون وقوعها.
رابعاً: لا يوجد اتفاق بين الأكاديميين والمتخصصين على الطريقة المثلى لتنظيم المناهج المستقبلية، وذلك بالنظر إلى أن هذه الدراسات المستقبلية لاتزال من العلوم الناشئة، لكن باحثي المستقبليات وضوعوا نماذج للمنهجيات المستخدمة في الدراسات المستقبلية، تتضمن خليطاً من اقترابات متنوعة، ولايزال الكثير منها في مرحلة مختلفة من التطور، ومن هؤلاء الباحثين، ميكا مانيرما، رئيس جمعية مانيرما للدراسات المستقبلية في فنلندا، والذي سعى إلى تقسيم الحقل البحثي إلى ثلاثة نماذج يمكن تطبيقها على الأبحاث المستقبلية بشكل منفصل ومتواز في الوقت نفسه، وهي:
1- "النموذج الوصفي" Descriptive model، ويحاول عرض توقعات مستقبلية عالية الاحتمالية بناءً على ملاحظة تطور الأحداث التاريخية. ويعتمد الهدف البحثي وفقاً لهذا النموذج على منهجية كمية في الأساس تقيس فترة زمنية قصيرة.
2- "نموذج السيناريو" Scenario model، ويسعى إلى عرض السيناريوهات المختلفة للمستقبل. وهنا لا تعتمد قيمة السيناريو على قدرته على التنبّؤ بشيء ما بقدر استطاعته المساعدة في اتخاذ قرار معين.
3- "نموذج أبحاث المستقبليات التطورية" Evolutionary futures studies model، ويحاول هذا النموذج وصف وفهم المستقبل بأبعاده المختلفة بشكل أكثر دقة، ويركز بشكل كبير على الاكتشافات التي تنتجها الأبحاث المعقدة وعلى التطور المعرفي بشكل عام.
خامساً: تقوم الدراسات المستقبلية على ست ركائز رئيسية ترتبط بالمنهجيات والأدوات المختلفة، وهي: (رسم الخرائط، والتوقعات، والتوقيت، وتعميق المستقبل، وابتكار البدائل، والتحول المستقبلي).
ولأن العالم أصبح غير متجانس وشديد التنوع بشكل متسارع، فإن الدراسات المستقبلية قد تساعد في تحديد مسار حياتنا وخلق العالم الذي نتمنى العيش فيه، وذلك من خلال رسم خريطة للماضي والحاضر والمستقبل، وتوقع القضايا المستقبلية وتبعاتها، والتحليل العميق لها، وإيجاد بدائل مستقبلية، واختيار طرق متنوعة للحصول على الأفضل.
سادساً: تسود المنطقة العربية نظرة تشاؤمية بعض الشيء للدراسات المستقبلية، حيث تسيطر هذه النظرة على ذهنية بعض المثقفين والمتخصصين الذين يقللون من جدوى الدراسات المستقبلية، والادعاء بعدم الحاجة إليها أو كونها لا تمثل أولوية حقيقية، والبعض الآخر يذهب بعيداً ليثبط الهمم بالقول إن الدول العربية غير مؤهلة لمثل هذا النوع من الدراسات.
وواقعياً، توجد العديد من الإشكاليات فيما يتعلق بالتفسيرات الراهنة والمواقف المتبلورة بخصوص الدراسات المستقبلية في العالم العربي، والتي يجب التعامل معها بموضوعية وحيادية تامة، خاصةً أنها تبقى مثاراً للنقاش والجدل.
وتخلص الحلقة النقاشية إلى أن العالم العربي في حاجة بالغة لتوجيه مزيد من العناية والاهتمام بالدراسات المستقبلية، لاسيما أن أغلب التفسيرات تشترك في كون هذه الدراسات تعد "بمنزلة آلية من آليات الحاضر تساعد في فهم المستقبل من أجل أخذ الحيطة والاستعداد لما هو قادم"، بمعنى آخر هي دراسة لحال المجتمع من خلال حاضره لأجل أوضاع مستقبل أكثر أمناً وتحرراً من مشاكله الآنية الحاضرة؛ فالدراسات المستقبلية باتت من الأولويات، بمعنى أنها صارت ضرورية ولا يمكن الاستغناء عنها ليس فقط في الدول المتقدمة، بل في الدول كافة، ومنها دول منطقتنا العربية.
ومما لا شك فيه فإن أوضاع الدول العربية واحتياجاتها تفرض عليها ضرورة أخذ خطوات جادة في سبيل الاعتماد على مثل هذا النوع من الدراسات المستقبلية، وتنمية الوعي بها لدى الرأي العام العربي وصُانعي القرار والمتخصصين، والتعريف بأهميتها في رسم السياسات وصياغة الخطط والاستراتيجيات وتنفيذها على أرض الواقع.