تتفق الدول الأوروبية واليابان في العديد من المواقف من الأزمة الأوكرانية، خاصة فيما يتعلق بفرض عقوبات على روسيا، بسبب عملياتها العسكرية ضد أوكرانيا. وعلى الرغم من ذلك، فإنه من الملحوظ أن هناك انقسامات حيال مسائل تتصل بمستوى العقوبات ضد روسيا، وكذلك حجم المساعدات العسكرية المقدمة لأوكرانيا.
الدول الداعمة للحوار:
يلاحظ أن بعض الدول الأوروبية تتبنى مواقف داعمة للحوار مع روسيا، مثل فرنسا وألمانيا والمجر، وتضع سقفاً للعقوبات معها، وهو ما يمكن تفصيله على النحو التالي:
1- ضبط التصعيد العسكري: تسعى فرنسا وألمانيا والمجر لتجنب التصعيد العسكري مع روسيا، وهو ما يتضح من رفض الدول الثلاث فرض حظر جوي فوق أوكرانيا، كما كانت أوكرانيا تطالب، أو بعض دول شرق أوروبا، مثل بولندا، وذلك نظراً لأن هذا الأمر يعني المشاركة بشكل مباشر في الحرب، كما رفضت المجر فكرة إرسال قوات حفظ سلام كذلك. وعلى المنوال نفسه حذر الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، من إرسال أسلحة نوعية للجانب الأوكراني، معتبرها بمنزلة مشاركة في الحرب.
وتعتبر برلين القنوات الدبلوماسية مهمة لحل كل النقاط العالقة مع الجانب الروسي للحفاظ على بناء سلام دائم في القارة الأوروبية، وللحد من مثل تلك التهديدات في المستقبل، وهو ما يشير إلى رغبة ألمانية في الحفاظ على علاقات جيدة مع روسيا ما بعد الأزمة.
2- وضع سقف للعقوبات الاقتصادية: رفض المستشار الألماني، أولاف شولتز، فرض عقوبات اقتصادية على صادرات الطاقة الروسية تخوفاً من الأضرار الاقتصادية العميقة التي تخلفها تلك الخطوة على الاقتصادات الأوروبية، وإن اتجه تدريجياً لتبني تقليص اعتماد برلين على الطاقة الروسية، إذ أعلن وزير الاقتصاد روبرت هابيك، في 12 مارس، أن بلاده تعتزم التخلي عن الفحم الروسي بحلول الخريف وعن النفط الروسي بحلول نهاية العام تقريباً، وإن أكد أنه من الصعوبة التخلي عن الغاز الروسي إلا بعد عامين على أقل تقدير.
وعارض هابيك حظراً فورياً لعمليات استيراد منتجات الطاقة الروسية، كما تطالب به بعض دول أوروبا الشرقية، نظراً لكلفة ذلك الضخمة على الاقتصاد الألماني، إذ اعتبر أن ذلك سيؤدي إلى صعوبات في الإمدادات للشتاء المقبل وأزمة اقتصادية وتضخم قوي وكذلك إلى إلغاء آلاف الوظائف وارتفاع حاد في أسعار الطاقة.
ويلاحظ أن اليابان تلتزم بعقوبات اقتصادية محدودة على موسكو، إذ تشترك في عقوبات ضد النخبة الروسية، وكذلك ضد بعض المؤسسات المالية الروسية، بالإضافة إلى فصل بنوك روسية محددة عن نظام السويفت العالمي، غير أن اليابان لم تنضم للعقوبات الغربية على قطاع الطاقة الروسية، نتيجة وجود حاجة يابانية لمصادر طاقة بأسعار معقولة لتلبية الطلب الصناعي والمحلي، كما عبّر وزير التجارة الياباني عن عدم وجود نية لوقف المشاريع المتعلقة بمشروعات تطوير الغاز المسال مع الجانب الروسي على خلفية العقوبات الاقتصادية المفروضة على موسكو والتي تشارك طوكيو فيها.
وتشارك الشركات الاستثمارية اليابانية في مشاريع مهمة مثل ساخالين 1 و2، بالإضافة إلى أرتيك 2 للغاز المسال، حيث عبّر الوزير أن تلك المشاريع تساعد اليابان على توفير موارد طاقة بأسعار معقولة. وقد يكلف الخروج من تلك المشاريع فاتورة الطاقة لطوكيو 15 مليار دولار إضافية.
3- أهمية الحوار مع بوتين: يُعتبر شولتز وماكرون من أكثر القادة المبادرين بالحوار مع الرئيس فلاديمير بوتين؛ حيث يسعى شولتز للتوصل لتسوية سلمية للأزمة الأوكرانية، إذ عبّر عن اعتقاده بأن العقوبات على روسيا ستدفع في النهاية موسكو للجلوس على طاولة المفاوضات.
وعلى الرغم من ذلك، فإن المكالمات التليفونية التي كانت بين شولتز وماكرون من جانب، وبوتين من جانب آخر، تراجعت وتيرتها في الفترة الأخيرة، وهو ما يؤشر إلى وجود إدراك بأنها غير فعالة في وقف التصعيد العسكري في أوكرانيا، خاصة بالنظر إلى أن المواقف الأوكرانية تتأثر بشكل أكبر بنظيرتها الأمريكية، أكثر من تأثرها بالمواقف الأوروبية، وهو ما وضح في رفض الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلنسكي، مبادرة شولتز، لإنهاء التوتر مع روسيا قبل اندلاع الحرب، في 19 فبراير الماضي، والتي كانت تقوم على إعلان أوكرانيا تخليها عن الانضمام لحلف الناتو، مقابل حصولها على ضمانات أمنية، وهي المبادرة التي رفضها زيلينسكي، وهو ما يجعل من الواضح أن قرار الحرب والسلام بيد واشنطن وليس بروكسل.
الدول المناهضة لموسكو:
تتمثل أبرز الدول التي تتبنى مواقف حادة من موسكو في بولندا ودول البلطيق وبريطانيا، وتتمثل أبرز مواقفها في التالي:
1- تصعيد العقوبات على موسكو: تدعو تلك الدول إلى تفعيل عقوبات على صادرات الطاقة الروسية. وفي هذا الإطار، أعلنت دول البلطيق الثلاث (لاتفيا وإستونيا وليتوانيا) توقفها عن استيراد الغاز الروسي في مطلع أبريل، بينما أعلنت بريطانيا أنها ستتوقف عن استيراد النفط الروسي بنهاية العام الحالي، كما تبحث فرص التخلي عن الغاز الروسي، والذي لا يشكل أكثر من 4% من إمداداتها. ويلاحظ أن ما يساعد هذه الدول على التخلص من الاعتماد على الطاقة الروسية، خاصة الغاز الطبيعي، هو محدودية اعتمادهم على الغاز الروسي.
2- زيادة الضغط العسكري ضد روسيا: كانت بولندا ودول البلطيق من أكثر الدول التي تطالب بدعم أوكرانيا عسكرياً، عبر إمدادها بكافة أنواع الأسلحة، بما في ذلك الأسلحة الهجومية والفتاكة، وتحديداً المقاتلات والدبابات. ويلاحظ أن مواقف هذه الدول ترتبط أكثر بواشنطن، والتي أعلنت رفضها إمداد أوكرانيا بالمقاتلات، وإن بحثت سبل إمداد أوكرانيا بنظم الدفاع الجوي السوفييتية، أو الروسية الموجودة لدى بعض دول شرق أوروبا.
وقد أعلنت سلوفاكيا استعدادها، في 21 مارس، إرسال "إس – 300" إلى أوكرانيا، نظير حصولها على نظم باتريوت الأمريكية، وذلك قبل أن تتراجع عن هذا الموقف في 31 مارس، وتؤكد أنها ضرورية لأمن بلاده، وهو التغير الذي حدث بعد أن صرح وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف أن: "نقل صواريخ "إس – 300" السوفييتية من دول أخرى إلى أوكرانيا أمر مستحيل وغير قانوني، وموسكو لن تسمح بذلك"، ولذلك، فإنه من المرجح أن سلوفاكيا قد تتراجع خوفاً من رد الفعل الروسي.
3- التشكيك في نوايا بوتين: ترى لندن، ووارسو، ودول البلطيق أن التحاور مع بوتين لن تترتب عليه أي اتفاقية سلام حقيقي، كما عبر دبلوماسو الدول السابقة عن تخوفهم من محاولات ماكرون دفع الرئيس الأوكراني زيلينسكي للموافقة على وضع الحياد في مقابل وقف إطلاق النار، إذ إن ذلك سيعني التنازل عن أراضي أوكرانية لروسيا، وهو ما يمثل خطراً على مفهوم السيادة في أوروبا في المستقبل.
تداعيات ممتدة:
يلاحظ أن الموقف الأوروبي المنقسم حيال أوكرانيا قد ترتب عليه عدد من التداعيات، والتي يمكن توضيحها على النحو التالي:
1- غياب العقوبات الجماعية عن الطاقة: ناقشت الولايات المتحدة مع الاتحاد الأوروبي مسألة فرض عقوبات على قطاع الطاقة الروسي، غير أن الدول الأوروبية رفضت فرض عقوبات جماعية، إذ أكد المستشار الألماني أن أوروبا "تعمدت" استثناء إمدادات الطاقة الروسية من العقوبات على موسكو، نظراً لاعتماد الدول الأوروبية على الطاقة الروسية، كما أنه سينعكس بشدة على اقتصادها. وتبنى الموقف نفسه دول أخرى، مثل المجر، والتي يلاحظ أنها، على عكس الدول الأوروبية الأخرى، لم تسع للبحث عن بديل للطاقة الروسية، أو تقليص اعتمادها عليه مستقبلاً.
2- سياسات متباينة حيال الدفع بالروبل: أعلنت موسكو فرض عقوبات على الدول غير الصديقة، تتضمن تحصيل واردات الغاز الطبيعي بالروبل، مهددة بوقف صادرات الغاز الطبيعي على الدول، التي لن تستجيب. وقد تبنت الدول الأوروبية مواقف متباينة كذلك، فقد رفضت ألمانيا وفرنسا الدفع بالروبل، بل أن برلين أكدت أنها تستعد لسيناريو قطع الغاز الروسي، في حين أن دولاً أوروبية أخرى، مثل سلوفاكيا، أعلنت أنها سوف تدفع بالروبل لضمان استمرار تدفق الغاز الروسي، بينما يبدو أن الدول الأوروبية الأخرى كانت في حالة ترقب.
وفي الختام، يمكن القول إنه من الواضح أن الدول الأوروبية تعاني انقساماً في المواقف حيال كيفية التعامل مع روسيا، وعما إذا كان يجب عليها تبني مواقف متشددة ضد موسكو، أو مراعاة مصالحها الاقتصادية معها، ومن المتوقع أن يستمر هذا الانقسام في المواقف، وعدم نجاح الضغوط الأمريكية عليهم في وقف الاعتماد على موسكو، نظراً لعدم وجود بدائل للغاز الروسي، في الوقت الحالي، بالإضافة إلى أن أي بدائل أخرى، سوف تكون أعلى تكلفة.