أدت الأزمة الأوكرانية إلى اضطرابات إضافية لقطاع اللوجستيات العالمي، والذي مازال لم يتعاف بعد من سلبيات جائحة كورونا خلال العامين الماضيين، وتزامناً مع مزيد من الإغلاقات في الصين والمفاوضات بشأن العقود بين اتحادات عمال التفريغ والموانئ في الساحل الغربي للولايات المتحدة، الأمر الذي تسبب في المجمل في تأخير نقل البضائع حول العالم، وارتفاع تكاليف الشحن البحري عالمياً.
وتسببت المخاطر المصاحبة للحرب الأوكرانية في توقف العديد من كبريات الشركات الملاحية العالمية مثل "ميرسك" و"هاباج ليود" وغيرها في نقل البضائع من وإلى روسيا وأوكرانيا، ومن ثم ارتفاع أسعار الشحن البحري على المستوى العالمي، فيما، اتجهت الحكومات والشركات العالمية لإعادة تقييم إدارة سلاسل التوريد، والتراجع عن إدارة مخزون السلع الأساسية وفق مبدأ في الوقت المناسب.
تداعيات إجمالية:
تفرض الحرب الأوكرانية تداعيات سلبية عديدة على قطاع اللوجستيات العالمي الذي يرتبط بمجالات أساسية مثل التخزين والشحن والتوزيع، والتي تمثل معاً شرياناً حيوياً للاقتصاد العالمي مما سيؤثر سلباً على مراحل سلاسل الإمداد والتوريد العالمية كافة، وذلك على النحو التالي:
1- ارتفاع أسعار الشحن الجوي: شهدت أسعار مؤشر "فريتوس" للشحن الجوي Freightos)) ارتفاعاً ملحوظاً، في ضوء الحرب الراهنة، لاسيما بالنسبة للوجهات الرئيسية التي تربط مراكز الإنتاج والتصنيع في الصين بالمستهلكين في الولايات المتحدة وأوروبا، حيث ارتفعت بين الصين وأوروبا بمعدل 80% لتصل إلى حوالي 11.36 دولار لكل كيلو جرام في الأسبوع الأول من مارس مقارنة بالأسبوع السابق ليه.
ويأتي ذلك نتيجة إغلاق بعض المسارات الجوية واضطرار شركات الخدمات اللوجستية إلى اللجوء إلى طرق أطول بسبب الحرب، فضلاً عن ارتفاع أسعار وقود الطيران Jet Oil)) بالتوازي مع صعود خام برنت لما يتجاوز 110 دولارات للبرميل. ومن المرجح أن تستمر أسعار الشحن الجوي في الارتفاع مع استمرار الحرب الأوكرانية.
2- ارتفاع أسعار الشحن البحري: واجهت سلاسل الإمداد العالمية تحديات كبيرة في ظل ظروف الحرب الأوكرانية، حيث تصاعدت المخاطر الأمنية التي تواجهها مسارات الشحن البحرية الرئيسية في أوروبا، مما نجم عنه ارتفاع نوالين الشحن البحري القادمة من أوروبا لمختلف دول العالم، هذا بالتوازي مع ارتفاع أسعار شحن البضائع القادمة من الصين إلى الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا بصورة كبيرة.
وفاقم ذلك نقص سائقي الشاحنات في كلتا المنطقتين الأخيرتين، بما أدى إلى تكدس واصطفاف السفن خارج الموانئ الأمريكية بانتظار تفريغ بضائعها. ووصلت مدد الانتظار إلى أكثر من 20 يوماً. وفي ظل تداعيات الحرب، ومن المرجح أن تستمر نوالين "أسعار" الشحن البحري في الارتفاع حتى نهاية عام 2022 بما سيرفع أسعار السلع النهائية للمستهلكين.
3- أزمة العمالة البحرية وأطقم السفن: تسببت الحرب في حصار البحارة العاملين على السفن الأوكرانية، التي كان من المفترض أن تنطلق للأسواق العالمية. وهناك ما لا يقل عن 1000 شخص من العمالة البحرية وأطقم السفن عالقون في أوكرانيا، غير قادرين على الهروب من مناطق القتال وغير قادرين على الصعود والنزول بحرية من سفنهم، خاصة في الموانئ الساحلية مثل ماريوبل وأوديسا. لذلك من المرجح أن تشهد عملية نقل البضائع عبر هذه المناطق صعوبات بالغة مع استمرار هذه الحرب.
4- انخفاض أعداد السفن المغادرة الموانئ الروسية: مع تصاعد التهديدات الأمنية لموانئ البحر الأسود، انخفضت بشدة أعداد السفن المغادرة للموانئ الروسية والأوكرانية. وانخفضت سفن بضائع الصب الجاف (التي تنقل الحبوب والذرة والأسمدة والفحم وخام المعادن) المغادرة للموانئ الروسية، كما تراجعت ناقلات النفط الخام ومنتجاته التي تغادر الموانئ الروسية بنسبة 35% منذ بدء الغزو خلال الفترة (20 فبراير – 16 مارس 2022). كما توجد أكثر من 350 سفينة عالقة في أوكرانيا، لا تستطيع التحميل أو التفريغ أو التحرك بسبب الحصار الروسي للموانئ الأوكرانية على البحر الأسود.
5- تعطيل خطوط الملاحية القارية: قامت شركات الخدمات اللوجستية التي تقوم بنقل السلع سريعة التلف بتجنب الطرق البرية التي تمر عبر روسيا أو مناطق القتال لتضاف إلى فوضى سلاسل التوريد العالمية، وذلك مع بداية الحرب الروسية – الأوكرانية.
وكان من بين المسارات المتأثرة بالأزمة، خط "آيه إي – 19" (AE – 19) الذي أطلقته شركة "ميرسك" في عام 2019، ويربط أقصى شرق آسيا بميناء فوستوشني الروسي، ثم نقل البضائع بالسكك الحديدية من فوستوشني إلى ميناء سانت بطرسبرج، ومن هناك إلى الدول الإسكندنافية وأوروبا الشرقية.
كما تأثر خط "آيه إي – 77" (AE – 77) الذي يربط بين دول الشرق الأقصى ودول منطقة البحر الأسود وشرق البحر المتوسط عبر السكك الحديد العابرة لسيبيريا، حيث يتم نقل الحاويات من ميناء "فستوتشني" (Vostochny) في الشرق الأقصى إلى ميناء "نوفوروسيسك" (Novorossiysk) المطل على البحر الأسود عبر السكك الحديد العابرة لسيبيريا، ثم يتم نقل الحاويات بحراً إلى موانئ أوكرانيا وتركيا.
وستؤثر تلك التطورات على نقل أكثر من 4000 حاوية بين روسيا وأوروبا عبر ذلك الخطين. وقد بلغت أعداد الحاويات المنقولة عبر هذه الخدمات التى تجمع بين النقل البحري والبري عبر السكك الحديدية حوالي 4500 حاوية مكافئة في عام 2020 كاملاً، وأغلب هذه البضائع المنقولة قطع غيار سيارات وأجهزة إلكترونية وبطاريات السيارات الكهربائية.
6- ارتفاع مؤشر الضغط على سلاسل الإمداد العالمية: يأخذ هذا المؤشر عند حسابه تكاليف الشحن الجوي والبري والبحري ومؤشر مديري المشتريات للإنتاج. وقد وصل ذروة الارتفاع له في ديسمبر 2021، لكن هذه الضغوط ظلت عند مستويات مرتفعة تاريخياً حتى فبراير 2022، والتي من المحتمل استمرارها في ظل التوترات الجيوسياسية الحالية المتزايدة بين روسيا وأوكرانيا.
ارتدادات عالمية:
من المحتمل أن تخلق الضغوط التي يتعرض لها قطاع اللوجستيات العالمية عدداً من التبعات على الاقتصاد العالمي، وهو ما يمكن تفصيله على النحو التالي:
1- تهديد سلاسل إمدادات السلع الأساسية والصناعية: مثلت الأزمة الأخيرة تهديداً واضحاً لسلاسل التوريد العالمية للسلع الأساسية من الطاقة والغذاء، كما هددت بتوقف توريد المعادن المصنعة في روسيا لدول العالم، مثل النيكل والنحاس والحديد والنيون والبلاديوم والبلاتين، ما سيتسبب في عودة أزمة أشباه الموصلات العالمية.
وكان نتيجة ذلك إعلان كبريات شركات السيارات العالمية مؤخراً عن تعليق عمل بعض مصانعها الأوروبية، بسبب مشكلات لوجستية متعلقة بإمدادات في المكونات الإلكترونية. وسينجم عن ذلك تباطؤ في إنتاج السيارات الأوروبية، وارتفاع أسعار السيارات على المستهلكين.
2- تغير اتجاهات التجارة العالمية: من المحتمل أن يدفع توقف الصادرات الأوكرانية وتراجع الصادرات الروسية إلى الدول المستوردة لتنويع مصادر واردتها من السلع الأساسية خاصة السلع الزراعية والطاقة، وستبحث الدول الأوروبية عن تنويع إمداداتها من الطاقة بعيداً عن روسيا. وسيسفر ذلك عن إعادة تشكيل خريطة التجارة العالمية من جديد وخلق سلاسل توريد جديدة، وإن كان ذلك سوف يكون على المدى الطويل، وفي حالة عدم التوصل لتسوية سلمية للصراع الأوكراني.
وفي الأمد الطويل، ستدفع الأزمة الحكومات للاتجاه لتقصير سلاسل التوريد، وزيادة حجم المخزونات والبحث عن مزيد من الموردين المحليين، جنباً إلى جنب مع الاعتماد أكثر وأكثر على اللوجستيات وسلاسل الإمداد البينية والإقليمية، وتقليل الاتجاه نحو العالمية.
3- ارتفاع التضخم العالمي: سيؤدي ارتفاع أسعار الشحن البحري والجوي إلى تصاعد الضغوط التضخمية التي تواجهها الاقتصادات العالمية. واستناداً على بيانات من 143 دولة على مدار الثلاثين عاماً الماضية، وجدت دراسة أخيرة لصندوق النقد الدولي أن تكاليف الشحن تعد محركاً مهماً للتضخم في جميع أنحاء العالم، فعندما تتضاعف أسعار الشحن، يرتفع التضخم بنحو 0.7 نقطة مئوية. وفي ظل الظروف الراهنة، يرى الصندوق أن حال استمرار الزيادة في تكاليف الشحن العالمية التي لوحظت في عام 2021، قد يزيد التضخم العالمي بنحو 1.5 نقطة مئوية في عام 2022.
وإجمالاً، يمكن القول إن الحرب الأوكرانية تسببت في ضغوط إضافية على قطاع اللوجستيات العالمي، ستتضح جلياً في تأثر مسارات الخطوط الملاحية من شرق أوروبا إلى دول العالم، وارتفاع أسعار الشحن البحري والجوي على مستوى العالم، وسيكون لذلك مردود سلبي على الاقتصاد العالمي من حيث تهديد سلاسل التوريد العالمية، وتصاعد الضغوط التضخمية في عام 2022. وستدفع الأزمة الحكومات للنظر في سياسات جديدة مثل تعديل استراتيجية المخزون والبحث عن أسواق بديلة، وتنويع وسائل الشحن في الأمد الطويل.