طالبت كييف بدعم حلف الناتو بشكل مباشر في حربها ضد روسيا، منذ الأيام الأولى للعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، الأمر الذي قوبل بالرفض؛ تجنباً لحدوث صدام عسكري مباشر مع روسيا؛ مما قد يؤدي لنشوب حرب عالمية ثالثة، مما دفع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بدعوة الراغبين من الأوروبيين وغير الأوروبيين لمساعدة الشعب الأوكراني بالتطوع للقتال بجانبه؛ وذلك بدعم غربي واضح، غير أنه من الملحوظ أن أحد أبرز هذه الجماعات التي تشارك في القتال ضد روسيا في أوكرانيا كانت من الشيشان.
ونظرت موسكو للخطوة باعتبارها محاولة من الدول الغربية لإرسال قواتها إلى أوكرانيا تحت غطاء المقاتلين الأجانب، وذلك من دون التورط بشكل مباشر في الصراع. وردت موسكو على هذه الخطوة عبر إعلان فتح الباب أمام المتطوعين السوريين للمشاركة في القتال، وذلك على الرغم من أنه من الواضح أنهم لم يشتركوا في القتال حتى الآن. ولكن في المقابل، اعتمدت موسكو على القوات الشيشانية، والذين شاركوا في القتال منذ اللحظات الأولى بالنظر إلى خبرتهم القتالية العالية في حرب المدن. وبهذا بات المقاتلون الشيشانيون مكوناً أساسياً في الحرب لطرفي الصراع.
انقسام مقاتلي الشيشان:
لجأت روسيا وأوكرانيا إلى توظيف المقاتلين من الشيشان في الحرب الدائرة بينهما، وهو ما يمكن توضيحه على النحو التالي:
1- دعم المتمردين الشيشانيين لأوكرانيا: شاركت كتائب شيشانية إلى جانب الجيش الأوكراني في قتال القوات الروسية، وهناك كتيبتان أساسيتان، تقاتلان إلى جانب أوكرانيا، وهما:
أ- كتيبة جوهر دوداييف: يعود اسمها إلى اسم أول رئيس للشيشان في تسعينيات القرن الماضي. وكانت تنشط علناً في قتال الانفصاليين المدعومين من روسيا والقوات الروسية في أوكرانيا منذ عام 2014. ويقودها أدم عثماييف، والذي ألقى القبض عليه في أوكرانيا في عام 2013، بتهمة التآمر لمحاولة اغتيال بوتين، وذلك عندما كانت كييف تتمتع بعلاقات جيدة مع موسكو.
أما في 2014، ومع تولي حكومة موالية للغرب هناك، فقد أطلقت صراحه لتنشط كتيبته في القتال ضد الانفصاليين المدعومين من روسيا، وهو ما يؤكد الاتهامات له بمحاولة تصفية بوتين، أو على أقل تقدير، التورط في أنشطة معادية للكرملين.
ب- كتيبة الشيخ منصور: يرجع أسمها إلى القائد الذي قاتل القوات الروسية في القرن الثامن عشر، أثناء الحملات العسكرية التي انتهت بهزيمته، وضم القوقاز للإمبراطورية الروسية. وتنشط الكتيبة في جنوب شرق أوكرانيا تحت قيادة مسلم تشبيرلوفسكي.
ويكتنف الكثير من الغموض حيال العدد الدقيق للمتطوعين الشيشان وهويتهم، غير أن معظمهم من المتمردين الذين غادروا الشيشان بعد الحرب الشيشانية عام 2003.
2- دعم قديروف لروسيا: نجحت موسكو خلال حرب الشيشان الثانية (1999) في استعادة السيطرة على كامل الأراضي الشيشانية، والقضاء على حركة التمرد. وساعدها في ذلك حليفها مفتي الشيشان، أحمد قديروف، والذي عينّه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين رئيساً لها، وبعد مقتله في 2004، تولى أبنه رمضان قديروف، الذي يطلق على نفسه اسم "جندي بوتين"، الحكم في الشيشان، ودعم موسكو لاستعادة السيطرة عليها.
وتمكن قديروف من بناء قوات من المقاتلين الشيشان المتمرسين في حروب الشوارع؛ وهو ما وضح بشكل أساسي في الصراع السوري، حيث شاركوا هناك في القتال ضد المعارضة المسلحة، كما كانوا يتمتعون بشعبية بين بعض السكان المحليين، خاصة بالنظر إلى كونهم من السنة.
وتشارك القوات الشيشانية حول ماريوبول ضد كتيبة أزوف، التي تتهمها موسكو بأنها من النازيين الجدد. ونجحت قوات قديروف من السيطرة على مناطق واسعة من ضواحي المدينة المحاصرة وصولاً إلى وسطها، مما يؤكد أهمية تلك القوات للعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا.
وتشير زيارة رمضان قديروف لقواته الموجودة داخل أوكرانيا إلى إمكانية وجود مساعي روسية للقضاء على المتمردين الشيشانيين الداعمين لكييف، وذلك لتأمين الداخل الروسي من تهديداتهم مستقبلاً، خاصة في ضوء حصولهم على دعم من أجهزة استخبارات غربية مناوئة للكرملين.
أهداف روسيا الداخلية:
يلاحظ أن موسكو سعت في حربها ضد أوكرانيا إلى تأمين الداخل الروسي من التهديدات الإرهابية والانفصالية، على حد سواء، وذلك إلى جانب محاولتها لتحقيق أهدافها الأخرى المعلنة من الحرب الأوكرانية، والتي يأتي في مقدمتها، عدم انضمام كييف لحلف الناتو. ويمكن توضيح أهداف روسيا المتعلقة بتأمين الداخل الروسي في التالي:
1- تعزيز الوحدة الوطنية: استخدمت القيادات الإسلامية في جمهوريات روسيا ذات الأغلبيات المسلمة خطاب الجهاد في سبيل الله والوطن وحمايته من أخطار الناتو الذي يسعى لتهديد الأمن الروسي، عبر الوجود العسكري في الجوار المباشر لروسيا، في أوكرانيا، ومن ثم نشر أفكاره الغربية المعادية للإسلام في روسيا التي يشكل المسلمون فيها 14% من إجمالي السكان.
ولم يقتصر هذا الخطاب على رمضان قديروف، بل امتد للجمهوريات الإسلامية الأخرى داخل روسيا، ومن الأمثلة على تلك الخطابات ما يحدث من شجب وندب لمواقف الغرب في أوكرانيا من رؤساء وقيادات سياسية في جمهوريات وأقاليم روسيا ذات الأغلبيات المسلمة، مثل تتارستان، وبشكرتستان، وداجستان.
2- تأمين الداخل الروسي: تبدي موسكو تخوفاً آخر من توظيف الجماعات الإرهابية ضد روسيا، خاصة أن بعضها لايزال يسعى لانفصال الجمهوريات الإسلامية عن موسكو، وحتى في جمهوريات آسيا الوسطى التي تواجه تصاعد تهديدات الجماعات الإرهابية.
ويلاحظ أن العمليات العسكرية الخارجية لموسكو كانت لها أهداف ثانوية تتمثل دوماً في تأمين الداخل الروسي، إذ إن تدخلها العسكري في سوريا هدف إلى القضاء على الجماعات الإرهابية التي سافرت من منطقة القوقاز الروسي، للالتحاق بالتنظيمات الإرهابية هناك، وذلك لاكتساب الخبرة العسكرية، قبل العودة من جديد لتنفيذ عمليات ضد روسيا.
كما يتهم قديروف بقتل العديد من رموز المتمردين خارج الشيشان، بما في ذلك تصفية القائد الميداني الشيشاني السابق زليمخان خانغوشفيلي في برلين في أغسطس 2019. وزادت المخاوف الروسية من توظيف الإرهاب ضدها في أعقاب الاضطرابات التي شهدتها كازاخستان في 3 يناير 2022، والتي اتهمت فيها روسيا وكازاخستان جماعات إرهابية من وسط آسيا وأفغانستان بالمشاركة في هذه الاضطرابات.
وتتخوف موسكو من إمكانية نقل الجماعات الإرهابية في سوريا للقتال ضد روسيا، سواء في أوكرانيا، أو تنفيذ عمليات إرهابية ضد روسيا، خصوصاً بعد استخدام الآلة الإعلامية الأوكرانية لصور المسجد المتضرر من الحرب لدعوة مسلمي العالم للوقوف معهم ضد "الغزو الروسي".
ولكن على الجانب الآخر، تدرك روسيا أنه سيكون من الصعب على كييف، أو داعميهم الغربيين نشر الجماعات المتطرفة على الأراضي الأوكرانية لقتال روسيا، نظراً لأنه من الممكن أن يتسللوا من هناك لتنفيذ عمليات إرهابية تستهدف الدول الأوروبية.
وفي التقدير، يمكن القول إن روسيا من خلال إشراكها للقوات الشيشانية في الصراع الأوكراني، قد هدفت ليس فقط لبسط سيطرتها على مدن الدونباس في شرق أوكرانيا، استغلالاً لخبرتهم في حرب المدن، ولكن كذلك للقضاء على المتمردين الشيشانيين الذين اعتمدت عليهم أوكرانيا لقتال الجيش الروسي، وبالتالي، تأمين الداخل الروسي من أي نشاط إرهابي يستهدفه من جانب هذه القوات المتمردة، المدعومة من جانب بعض الدول الغربية. وعلى الجانب الآخر، فإنه في أي تسوية بين روسيا وأوكرانيا، يتوقع أن يكون موضوع طرد المتمردين الشيشان المعادين لروسيا على قائمة مطالب الكرملين من كييف، وذلك لضمان إبعاد أي تهديد عن الحدود المباشرة لروسيا.