أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية
  • مُتاح عدد جديد من سلسلة "ملفات المستقبل" بعنوان: (هاريس أم ترامب؟ الانتخابات الأمريكية 2024.. القضايا والمسارات المُحتملة)
  • د. أحمد سيد حسين يكتب: (ما بعد "قازان": ما الذي يحتاجه "بريكس" ليصبح قوة عالمية مؤثرة؟)
  • أ.د. ماجد عثمان يكتب: (العلاقة بين العمل الإحصائي والعمل السياسي)
  • أ. د. علي الدين هلال يكتب: (بين هاريس وترامب: القضايا الآسيوية الكبرى في انتخابات الرئاسة الأمريكية 2024)

رواية "كييف روس":

صراعات الهوية في الحرب الروسية الأوكرانية

09 مارس، 2022


لم يكن من الغريب أن نرى الرئيس الروسي بوتين في عام 2016 مشاركاً في تدشين تمثال لفلاديمير الأول Vladimir the Great في أهم ميدان في العاصمة موسكو، الأمير الذي حكم عاصمة الدولة المجاورة!، وهو المثال الرمزي الذي يشير إلى جهود بوتين في إعادة إحياء الوحدة السلافية، ويعيد إلى الذاكرة الجمعية، منشأ الهوية الروسية، والطريقة التي تنظر بها روسيا لنفسها وتاريخها ولجوارها، واستعادة قدسية أم المدن الروسية، "كييف"، والتأكيد على مكانة مؤسس الدولة الروسية الأولى كييف روس، ومعمد شعب روسيا القديمة "الأرثوذكسية"

وقد كتب بوتين في العام الماضي مقالاً تحت اسم "عن الوحدة التاريخية بين روسيا وأوكرانيا" نشر على موقع الكرملين باللغات الثلاث الروسية والأوكرانية والانجليزية، يشرح فيه كيف أن الروس والأوكرانيين شعب واحد بحكم التاريخ، وقد استدعى المقال نقاشاً واسعاً ليس فقط في أوكرانيا وروسيا، بل على مستوى أوروبا بصورة عامة، حتى أن بعض المحللين وصف المقال بكونه "إنذاراً أخيراً" لما قبل الحرب. 

وعلى الرغم من توصيف السلوك الروسي في مجمل حالاته بالواقعي (Realistic)، فإن الخطاب الروسي في تعامله مع أوكرانيا، لم يعتمد على مبررات الواقعية السياسية فحسب، التي ترى أن دفاع الدولة عن أمنها القومي ومصالحها مبرر كاف لتفاعلاتها الدولية وقراراتها الخارجية بما في ذلك قراراتها العسكرية، بل أنه كان أقرب لمقومات الخطاب البنائي (Constructivism) الذي يهتم بالأبعاد غير المادية لفهم التفاعلات الدولية، فقد تعمد تضمين الأبعاد الثقافية والتاريخية في خطابه، وأولى لها اهتماماً خاصاً، وبالتوازي مع العمليات العسكرية والحروب الاقتصادية، ظهرت أبعاد أخرى من النزاع ذات صبغة ثقافية وتاريخية. 

"الوحدة السلافية":

يؤمن معظم الروس القوميين، وعلى رأسهم فلاديمير بوتين، أن روسيا وأوكرانيا وبيلاروسيا دول شقيقة، تنحدر جميعاً من الدولة الروسية الأولى، كييف روس (Kievan Rus)، والتي تأسست في القرن التاسع، وتمددت من عاصمتها كييف، من البحر الأسود إلى البلطيق. 

وتعتبر “كييف” منبع الثقافة والدين للروس، حيث حولها "فلاديمير الأول" (أمير كييف من 978 : 1015) إلى الدين المسيحي وتابعة للطائفة الأرثوذكسية. وفي القرن ال13 انهارت الدولة جراء الغزو المغولي، غير أنه في القرن الـ15 قامت دولة جديدة من موسكو وسمت نفسها روسيا وحاولت أن تكون العباءة البديلة  للروس.

غير أنه بعد انهيار كييف روس، كانت انقسمت إلى ما عرف لاحقاً بأوكرانيا بين عدة قوى. فمنذ القرن السابع عشر، وقع غرب أوكرانيا تحت سيطرة بولندا ثم النمسا، أما الجزء الشرقي من نهر دنيبر فأصبح تحت حكم الإمبراطورية الروسية. وسيطرت الثقافة واللغة الروسية على أوكرانيا بصورة كبيرة . وعرفت أوكرانيا باسم روسيا الصغرى، ورسخ رجال الدين الأوكرانيون مصطلح ومفهوم روسيا الصغرى وروجوا له، خاصة مع حاجتهم للقوة الروسية للمحافظة على المذهب الأرثوذكسي  أمام تهديده من المذاهب الأخرى.

أما على المستوى الديموجرافي، فتشير بعض الكتابات إلى ارتفاع السكان من الروس بأوكرانيا لفترات طويلة نظراً للتقارب الجغرافي والثقافي من ناحية، فضلاً عن أنه خلال فترة المجاعة التي تعرضت لها الدولة السوفييتية، فقدت أوكرانيا ما يقرب من 5 ملايين فرد وفقاً لبعض التقديرات، وقد تمت معالجة الخلل الديموجرافي بسكان روس وفقاً لما أشارت له بعض المصادر. 

هذا فضلاً عن ارتفاع عدد الروس بعد ضم منطقة القرم لأوكرانيا السوفييتية في  1954، والتي كانت جزءاً من الدولة الروسية، وظلت غالبية سكانها من العرق الروسي، حتى بعد انهيار الاتحاد السوفييتي.

على مدار السنوات السابقة على انهيار الاتحاد السوفييتي، كان هدف القوميين الأوكرانيين منصباً على تحقيق الحكم "الذاتي" لأوكرانيا وليس الاستقلال، ولم تظهر مسألة الاستقلال على الأجندة السياسية إلا في القرن العشرين، وكانت هناك خمس محاولات لتحقيق الاستقلال الأوكراني، لم تنجح منها إلا المحاولة الخامسة في 1991 عندما أظهر الاستفتاء رغبة أكثر من 50٪ من السكان استقلال أوكرانيا عن روسيا.

غير أن تسويات استقلال أوكرانيا في أواخر 1991 تركت عدة قضايا شائكة تزيد من تعقيد العلاقة بين الدولتين: مصير السلاح النووي السوفييتي في أوكرانيا، وتقسيم أسطول البحر الأسود، وحل ديون الطاقة وغيرها، وأخيراً منطقة القرم التي نقلت لأوكرانيا  ، والتي ظل ولاء غالبية سكانها لروسيا، وهو ما يفسر سهولة استحواذ روسيا عليها مرة أخرى في 2014. 

تأسيس "هوية" أوكرانية:

بعد الانفصال عن الكيان السوفييتي، ظل السؤال حول الهوية الأوكرانية غير محسوم وشائك، فما الذي يحدد الهوية الأوكرانية؟ هل هي هوية عرقية أم قومية ...؟ ما الذي يميزها عن الهوية الروسية؟ فلم يكن انفصال أوكرانيا عن روسيا بعد الانهيار السوفييتي سوى انفصال "سياسي"، بينما ظلت اتجاهات غالبية الشعب الأوكراني وثقافتهم وعاداتهم متأثرة بروسيا في المقام الأول. وهو ما أظهرته استطلاعات الرأي والتعدادات السكانية التي تمت في السنوات الأولى بعد استقلال أوكرانيا. فلم يستطع غالبية السكان في أوكرانيا أن يعرفوا هويتهم بصورة منفصلة عن روسيا. 

وهو ما دفع رئيس أوكرانيا ليونيد كوتشما، الذي حكم الدولة من 1994 إلى 2005، إلى نشر كتاب فريد من نوعه، بعنوان "أوكرانيا ليست روسيا"!!، وتعتبر أوكرانيا الدولة الوحيدة التي نشر رئيسها كتاباً بهذا المعنى، فلا يمكن أن نتخيل أن رئيساً يكتب فرنسا ليست ألمانيا على سبيل المثال.   وهو ما يدل على حجم أزمة مسألة الهوية الأوكرانية آنذاك، والتي تطلبت لجهود سنوات وعمليات مخططة لبناء هوية أوكرانية منفصلة عن الهوية الروسية. 

وكانت هناك مخاوف من الارتدادات السياسية لذلك، فعدم وجود هوية واضحة لدى مجموعة كبيرة من السكان يعني احتمال دعمهم في أي لحظة إلى الجانب الروسي.

وقد أشار علماء الاجتماع آنذاك إلى أن دوافع الأفراد نحو التصويت على الاستفتاء باستقلال أوكرانيا مرتبطة بمعايير اقتصادية اجتماعية، ولم تكن الفكرة "القومية" هي الدافع للاستقلال أو لبناء الدولة الأوكرانية. وأنه على مر التاريخ لم يكن هناك ما يعرف بالقومية الأوكرانية في ظل تشتتها بين بولندا وروسيا وفق إيفان رادينستيكي (1963)، وبالتالي كان لابد من خلق "قومية أوكرانية"، وقامت القومية الأوكرانية على أجندة تصالحية ونهضة ثقافية وعدالة اجتماعية سعت الطبقة المفكرة لوضع أسسها.  وكانت اللغة في القلب من تلك المحاولات، حيث تم إحياء اللغة الأوكرانية على نطاق واسع، وحظر التعامل باللغات المحلية رسمياً (ومن بينها اللغة الروسية). 

ومن بين الجهود ما قدمه إدوارد ويلسون في محاضرته عن "أوكرانيا الأخرى" في 1999، حيث أشار إلى أهمية خلق انتماءات جديدة أمام الأوكرانيين عند السؤال عن الطريقة التي يعرفون بها أنفسهم، بعيداً عن الانتماءات العرقية التقليدية، التي توضع في تعدادات السكان السابقة. واقترح نموذجاً جديداً للهوية القومية الأوكرانية، يتضمن مجموعة وسيطة ذات أغلبية عديدة بين أوكرانيا وروسيا يعبرون عما أسماه بأوكرانيا الأخرى other Ukraine، وفي هذا الإطار، يتم تأسيس التعداد السكاني على أساس الهوية المزدوجة، dual identities، بحيث يتم فصل عنصر اللغة عن الانتماء العرقي على سبيل المثال، واقترح أن استطلاعات الرأي والتعداد الذي يراعي الهوية المزدوجة يخلق مجموعة من السكان (%27) يرون أنفسهم أوكرانيين وروسيين في الوقت نفسه، بينما إذا أضفنا سؤالاً آخر عن اللغة، وفصلها عن القومية، ستظهر منطقة وسطى مماثلة من 30 إلى 35 في المائة ممن يعتبرون أنفسهم أوكرانيين عرقياً ولكن لغتهم المفضلة هي الروسية . وفي هذا الإطار، وضع ويلسون ثماني هويات مزدوجة محتملة، ودرس اتجاهات الأوكرانيين نحو "الهوية الأوكرانية". 

ومع ذلك، كانت المشاعر السلافية أو السوفييتية المتبقية واضحة في الإجابات المتعلقة باستقلال أوكرانيا. حيث أوضح ويلسون أن أكثر من 30 ٪ من المستجيبين اعتبروا استقلال أوكرانيا ونهاية الاتحاد السوفييتي "محنة كبيرة"، بينما وصف 20 ٪ الاستقلال بأنه "انفصال غير طبيعي عن وحدة الشعوب السلافية الشرقية". "وافق أقل من 9 ٪ على أن أوكرانيا حصلت على استقلالها في عام 1991 نتيجة لقرون من النضال من أجل التحرر الوطني". .

وخلص ويلسون إلى أن القومية "الجاليكية"، الموجودة بغرب أوكرانيا هي الأكثر انفصالاً عن الجانب الروسي، ويمكن الاعتماد عليها كعامل للوحدة الوطنية ومعبرة عن الإيمان الحقيقي لأوكرانيا. بينما حذر في المقابل من هويات دونباس وجنوب أوكرانيا كقوى سائدة.  

انفصال الجيل الثاني عن روسيا:

لم تكن مهمة إرساء القومية الأوكرانية بالأمر السهل في السنوات الأولى من الاستقلال، إلا أنها أصبحت مهمة أسهل مع الأجيال اللاحقة، والتي أصبحت أكثر ميلاً إلى الجزء الغربي من هوياتهم الأوكرانية. 

فبعد أن كان أقل من 10٪ من استطلاعات الرأي الأولى مرحبين بالانهيار السوفييتي، أظهرت دراسة بعنوان الجيل القادم، في روسيا وأوكرانيا وأذربيجان: الشباب والسياسة والهوية والتغيير في 2012، والتي عرض نتائجها مركز إعلام الأزمة الأوكرانية، توجهات الشباب الأوكرانيين تجاه الانفصال عن الاتحاد السوفييتي، حيث رأى 60٪ من الشباب في الفئة العمرية من 18: 29 أنه كان أمراً إيجابياً . 

وهو الأمر البديهي، حيث تتشكل فئة الشباب الآن في أوكرانيا من الجيل الذي ولد بعد استقلال أوكرانيا أي بعد 1991، ومن الطبيعي أن يكونوا أكثر انفصالاً عن روسيا، خاصة في المناطق البعيدة عن النفوذ الروسي، مثل وسط وغرب أوكرانيا، ونظراً للجهود الغربية المقابلة فهم أكثر ارتباطاً بالجانب الأوروبي. وهو ما ظهرت ذروته في 2013 في تعبئة الشارع الأوكراني للانضمام للاتحاد الأوروبي، وظهور أعداد كبيرة من الشباب في الشوارع لمطالبة الرئيس الأوكراني السابق بالتوقيع على الانضمام للاتحاد، وما حدث بعدها من أحداث الثورة البرتقالية. وهو ما تم استغلاله فيما عرف لاحقاً بالثورات الملونة للإطاحة بالحكومات الموالية لروسيا. 

وتشير استطلاعات الرأي اللاحقة إلى تراجع موقف الأوكرانيين من روسيا، خاصة خلال السنوات العشر الأخيرة. ففي أبريل من عام 2008، كان حوالي 88% من الأوكرانيين لديهم موقف جيد تجاه روسيا، وقد ظلت هذه النسبة تتراجع حتى وصلت إلى 34% خلال الفترة (5- 13 فبراير 2022)، أي فقدت روسيا أكثر من 55 نقطة مئوية من شعبيتها في أوكرانيا، خلال الـ 14 عاماً الماضية، بينما على الجانب الآخر ارتفعت نسبة الأوكرانيين الذين لديهم موقف سلبي من روسيا من 7% فقط في أبريل من عام 2008 لتصل إلى 50% في الفترة (5- 13 فبراير 2022)، أي بارتفاع يصل إلى 43 نقطة مئوية . ومن المتوقع، ومع اندلاع الحرب الروسية ضد أوكرانيا، أن يتدهور موقف الأوكرانيين تجاه روسيا بشكل حاد في المستقبل. وفي المقابل، دعم 54٪ من الشباب انضمام الدولة للناتو وفقاً لاستطلاع الرأي السابق ذكره في 2012.


الانشقاق الديني:

وصلت ذروة الانفصال الأوكراني عن روسيا مع استقلال الكنيسة الارثوذكسية الأوكرانية عن الكنيسة الروسية، حيث عقد نحو 190 أسقفاً وكاهناً وقائداً من الكنيسة في أوكرانيا اجتماعاً في ديسمبر 2018 داخل كاتدرائية "سانت صوفيا" بحضور الرئيس الأوكراني، لانتخاب رئيس الكنيسة الأوكرانية الموحدة الجديد المطران إبيفانيوس، معلنين "تأسيس كنيسة أرثوذكسية مستقلة خاصة ببلادهم"، ليغيروا بذلك تقليداً دينياً امتد إلى قرون طويلة منذ إذ كانت جزءاً منها منذ عام 1686، إذ كانت كنيسة كييف تابعة إلى موسكو.  وقد جاء ذلك بعد عقدين من الجهود الروسية لدعم دور الكنيسة الأرثوذكسية ونشاطها في إطار مواجهة القيم والنفوذ الغربي في أوروبا الشرقية. 

فوفقاً لدراسة أجراها مركز "بيو" الأمريكي للأبحاث، فإنّ المسيحية الأرثوذكسية شهدت نهضة كبرى في أوروبا الشرقية خلال العقدين الماضيين، سواء في روسيا أو في الدول المحيطة لها، حيث يعرّف 70 بالمئة من السكان أنفسهم كأرثوذكس .

في الختام، يمكن القول إن الهوية بطبيعتها مسألة معقدة، ومتعددة الجوانب، وهي أيضاً مسألة ديناميكية وليست شيئاً صلباً غير قابل للتغير، فالتركيز على أحد الجوانب المشكلة للهوية ووضعها في الصدارة وكأنها المكون الأوحد لتعريف الفرد عملية دائمة الحدوث وفق ما يعرف بسياسات الهوية identity politics. ويدور الصراع الغربي الروسي في جزء كبير منه على توجيه الهوية الأوكرانية لصالحه، ويبدو أن الجانب الغربي كان له اليد العليا في السنوات الأخيرة، خاصة بعد أن استقلت الأجزاء الأوكرانية ذات الأغلبية الروسية مثل القرم، وجاءت المحاولات الروسية لإعادة إحياء الوحدة السلافية متأخرة في الوقت الذي انفصلت فيه الأجيال الشابة بصورة أو بأخرى عن تلك السردية التاريخية.