ثمة حالة من القلق المتنامي باتت تطغى على المشهد العالمي الراهن إزاء التداعيات المحتملة للعمليات العسكرية التي أطلقتها روسيا في 24 فبراير 2022 في الأراضي الأوكرانية، فقد تعددت التقارير الدولية التي تناولت الانعكاسات المختلفة التي يمكن أن تفرزها هذه التطورات الجديدة في كييف، خاصةً في ظل العقوبات الأمريكية والغربية التي يتوقع أن يتم الإعلان عنها خلال الأيام المقبلة، وفي هذا السياق تعد القارة الأفريقية من أكثر المناطق تضرراً جراء الصراع الروسي- الأوكراني الراهن، حيث تتعدد التداعيات الأمنية والاقتصادية التي يتوقع أن تفرزها هذه الحرب على دول القارة، باعتبار القارة الأفريقية من أبرز ساحات التنافس الروسي – الغربي في الوقت الراهن.
صمت أفريقي
عمدت غالبية الدول الأفريقية إلى التزام الصمت والترقب وعدم إبداء أي موقف معلن إزاء تطورات الصراع الأوكراني. وفي هذا السياق، يمكن عرض أبرز المواقف الأفريقية إزاء الأزمة الروسية – الأوكرانية الراهنة على النحو التالي:
1- قلق الاتحاد الأفريقي: أعرب الاتحاد الأفريقي عن قلقه البالغ من الأزمة الأوكرانية، وذلك من خلال رئيسه الحالي، الرئيس السنغالي، ماكي سال، ورئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي، موسى فكي، حيث طالب الاتحاد الأفريقي روسيا بضرورة احترام القانون الدولي وسلامة الأراضي الأوكرانية وسيادتها الوطنية، كما ناشد الاتحاد ضرورة الوقف الفوري لإطلاق النار والانخراط في مفاوضات دبلوماسية.
2- صمت أفريقي غالب: غلب الصمت على مواقف غالبية الدولة الأفريقية إزاء التحركات الروسية الراهنة في أوكرانيا، في ظل شبكة العلاقات الواسعة والقوية التي باتت تحظى بها موسكو مع دول القارة، والتي يبدو أنها دفعت الكثير من دول القارة إلى عدم إبداء أي موقف رسمي داعم أو معارض، لموازنة علاقاتها بين موسكو والغرب.
وحتى الدول التي لديها مواطنون كثيرون مقيمون في أوكرانيا، على غرار نيجيريا، عمدت أيضاً لتبني الموقف ذاته، حيث اكتفت بمطالبة مواطنيها في أوكرانيا، من خلال سفارتها في كييف، بالتزام الهدوء والعمل على حماية أنفسهم.
كذلك، لم تعرب أي دولة أفريقية عن دعمها للموقف الروسي في الأزمة الراهنة، حتى الدول المحسوبة على موسكو التزمت حكوماتها الصمت إزاء هذه التطورات، ولم تعبر عن أي موقف رسمي، بما في ذلك جمهورية أفريقيا الوسطى ومالي، وغيرها من الدول القريبة من الكرملين.
3- إدانة أعضاء مجلس الأمن الأفارقة: اضطرت غانا وكينيا والجابون للتعبير عن مواقف رسمية صريحة إزاء التطورات المتعلقة بأوكرانيا، نظراً لكونهم أعضاء غير دائمين في مجلس الأمن الدولي في دورته الحالية، وذلك خلال الاجتماع الطارئ لمجلس الأمن الدولي، في 22 فبراير الجاري، فقد أعلن ممثل غانا في المجلس أن وحدة الأراضي الأوكرانية وسيادتها قد تعرضت للتهديد، مشيراً إلى أن شبح الحرب بات يخيم على المنطقة بأكملها.
كما عبّر عن قلق بلاده من غزو روسي محتمل لأوكرانيا، ملمحاً إلى أن تحركات موسكو بالاعتراف باستقلال دونيتسك ولوهانسك تمثل انتهاكاً لاتفاقية مينسك، أما ممثل كينيا فقد دعا إلى الهدوء ومحاولة سلك المسار الدبلوماسي، مما يتطلب بلورة رؤية جديدة لهيكل أمني لأوروبا.
وحذر سفير كينيا لدى الأمم المتحدة، مارتن كيماني، من التداعيات السلبية للتشبث الروسي بإرث الاستعمار، وما يمكن أن يتمخض عنه من أشكال جديدة من الهيمنة والقمع، ويعد موقف كينيا متوقعاً، نظراً لأنها أحد حلفاء الولايات المتحدة والغرب في القارة الأفريقية.
4- موقف جنوب أفريقي مفاجئ: دعت جنوب أفريقيا إلى ضرورة الانسحاب الفوري للقوات الروسية من الأراضي الأوكرانية، ملمحة إلى أن النزاع يجب حله بالطرق السلمية، ومحذرة من الانعكاسات الإقليمية والدولية المحتملة لهذه التحركات التي أقدمت عليها موسكو.
ويعتبر موقف جنوب أفريقيا لافتاً كونها تعد أحد حلفاء موسكو في القارة، وتتمتع بعلاقات اقتصادية قوية معها، فضلاً عن التعاون الاستراتيجي بينهما في إطار عضويتهما في منظمة البريكس، حيث تمتلك جنوب أفريقيا استثمارات ضخمة في روسيا تتجاز حاجز الـ80 مليار راند (حوالي 5 مليارات دولار)، بينما يبلغ إجمالي الاستثمارات الروسية في جنوب أفريقيا حوالي 23 مليار راند (حوالي مليار دولار).
انعكاسات محتملة
ثمة ارتدادات عديدة يمكن أن تفرزها الأزمة الراهنة بين روسيا وأوكرانيا على دول القارة الأفريقية، وهو ما يمكن عرضه على النحو التالي:
1- ارتفاع أسعار النفط: شهدت أسعار النفط العالمية ارتفاعاً كبيراً خلال الأيام الأخيرة، حيث تجاوز سعر برميل النفط حاجز الـ 100 دولار للبرميل، في أعلى ارتفاع له منذ 2014، وهو ما يرجح أن يؤدي إلى ضغوطات كبيرة على الدول الأفريقية، خاصةً بالنسبة للدول التي تعتمد على استيراد الغاز والنفط من الخارج، على غرار جنوب أفريقيا.
وقد لا يختلف الأمر كثيراً بالنسبة للدول الأفريقية المنتجة للنفط أو الغاز، والتي يمكن أن يؤدي الارتفاع الراهن في الأسعار إلى تحقيقها مكتسبات اقتصادية، خاصةً أن الدول الأوروبية ربما تعمل على إيجاد بديل سريع للغاز الروسي. فعلى الرغم من أن أفريقيا تمثل أحد البدائل الأكثر موثوقية، بيد أن الجزء الأكبر من العائدات النفطية تذهب لصالح الشركات متعددة الجنسيات، مع نسبة أقل لصالح الدول الأفريقية.
كما أن الزيادة الحالية في أسعار النفط والغاز سيؤدي إلى ارتفاع معدلات التضخم العالمية، بالإضافة إلى ارتفاع تكلفة الواردات الأفريقية من السلع المختلفة، الأمر الذي سيزيد من تفاقم الأزمات الداخلية في مختلف الدول الأفريقية.
2- أزمة غذاء حادة: يتمثل الخطر الأكبر الذي يمكن أن تفرزه الأزمة الروسية – الأوكرانية على القارة الأفريقية، في الارتفاع المحتمل في أسعار المنتجات الغذائية، نظراً لكون روسيا وأوكرانيا تمثلان حوالي 30% من إجمالي الصادرات العالمية من القمح، بالإضافة إلى حوالي 14% من إجمالي صادرات الذرة، وأكثر من 58% من صادرات زيت عباد الشمس العالمية. ونظراً لأن الدول الأفريقية تعتمد كثيراً على روسيا وأوكرانيا في استيرادها لعدد من المنتجات الزراعية، وفي مقدمتها القمح وزيت عباد الشمس، وهو ما سيؤدي إلى ارتفاع في أسعار هذه السلع على المدى القريب، ومن ثم يمكنها التأثير على حالة الاستقرار في هذه الدول.
وتجدر الإشارة إلى أن حجم تجارة المنتجات الزراعية بين القارة الأفريقية وكل من روسيا وأوكرانيا يحظى بأهمية خاصة، فقد أستوردت الدول الأفريقية خلال عام 2020 منتجات زراعية من روسيا بحوالي 4 مليارات دولار، حوالي 90% منها كان يتمثل في القمح، و6% زيت عباد الشمس.
وتعد مصر أبرز الدول الأفريقية المستوردة من روسيا، بحوالي نصف إجمالي الإيرادات الأفريقية، بالإضافة إلى السودان ونيجيريا والجزائر وكينيا وجنوب أفريقيا وتنزانيا. كذلك، بلغ إجمالي الصادرات الأوكرانية من المنتجات الزراعية للقارة الأفريقية حوالي 2.9 مليار دولار خلال عام 2020، مثل القمح حوالي 48% منها، و31% للذرة.
3- طبيعة التحالفات القائمة: أشارت بعض التقديرات إلى أن الحرب الراهنة في أوكرانيا وتصاعد حدة التوترات بين روسيا من ناحية والولايات المتحدة والغرب من ناحية أخرى، ستمثل اختباراً مهماً لشبكة التحالفات الراهنة في القارة الأفريقية، خاصةً في ظل النفوذ المتصاعد لموسكو في القارة الأفريقية خلال السنوات الأخيرة.
وفي هذا السياق، ربما تعمد أطراف الصراع الراهن للضغط على الدول الأفريقية لتحديد موقف واضح إزاء الأزمة، غير أنه نظراً لأن هناك تقديرات أمريكية عديدة رجحت وجود استراتيجية أمريكية تستهدف تقليص الوجود الأمريكي في القارة الأفريقية بنحو 10% خلال الفترة المقبلة، بل أن هناك تقارير غربية توقعت أن تقوم واشنطن بسحب وحدات مكافحة الإرهاب كافة في القارة الأفريقية، فإن هذا الأمر قد يفتح المجال أكبر أمام توسيع النفوذ الروسي في أفريقيا.
وفي هذا السياق، ربطت بعض التقارير بين الزيارة التي قام بها نائب رئيس مجلس السيادة السوداني، محمد حمدان دقلو (حميدتي) إلى موسكو بعد بدء الحرب في أوكرانيا، وأنها عكست دعماً ضمنياً سودانياً للموقف الروسي. ومن ناحية أخرى، أعلن السفير الروسي لدى الكونغو الديمقراطية أن بلاده مستعدة لتقديم الدعم للكونغو في مواجهة التهديدات الإرهابية المتصاعدة، في إشارة مهمة بشأن إستمرار التحركات الروسية لتوسيع نطاق نفوذها في أفريقيا.
4- انعكاسات أمنية محتملة: أشارت بعض التقديرات إلى أن الحرب الراهنة في أوكرانيا ستؤثر كثيراً على مدى الاهتمام الدولي بالأوضاع الأمنية في القارة الأفريقية، مع تصاعد احتمالات أن تؤثر هذه الأزمة على حجم التمويل والمساعدات الغربية التي يتم بها دعم عمليات مكافحة الإرهاب في القارة الأفريقية، خاصةً في منطقة الساحل والصحراء، وهو ما يمثل تهديداً لعلمليات الدعم العسكري للقوى الدولية في القارة وجهود حفظ السلام في أفريقيا.
ومن ناحية أخرى، أشارت بعض التقارير الغربية إلى أن الأيام الأخيرة قد شهدت انسحاب العشرات من عناصر شركة فاجنر الروسية شبه العسكرية من القارة الأفريقية، من أجل إرسالهم إلى أوروبا الشرقية، في ظل التحركات الروسية في أوكرانيا، وهو ما أشارت إليه بعض التقديرات في أفريقيا الوسطى، حيث ألمحت هذه التقديرات إلى أن هناك عدداً غير مسبوق من عناصر فاجنر الروسية قد غادر بانغي خلال الفترة الأخيرة، كما يستعد المزيد منهم للمغادرة خلال الفترة المقبلة.
وعلى الرغم من عدم ترجيح أن تغادر كافة عناصر فاجنر الموجودة في روسيا، وأن موسكو لن تتخلى عن حضورها المتزايد في أفريقيا، بيد أن انخفاض عدد عناصر فاجنر الداعمة لبعض الحكومات الأفريقية في مواجهة الجماعات الإرهابية ربما يترك فراغاً نسبياً تسعى هذه الجماعات إلى استغلاله عبر تكثيف عملياتها الإرهابية.
وفي الختام، تعد القارة الأفريقية أحد ساحات التنافس الغربي – الروسي، وهو ما يجعلها أحد أكثر المناطق تأثراً بالحرب الراهنة في أوكرانيا، خاصةً في ظل اعتماد دول القارة في غالبية استهلاكهم على الاستيراد من الخارج، وهو ما سيؤدي إلى ارتفاع حاد في أسعار هذه السلع، خاصةً السلع الغذائية كالقمح الذي يتم الاعتماد فيه بشكل مباشر على روسيا وأوكرانيا، فضلاً عن الانعكاسات السياسية والأمنية المحتملة على الدول الأفريقية.