أخبار المركز
  • أسماء الخولي تكتب: (حمائية ترامب: لماذا تتحول الصين نحو سياسة نقدية "متساهلة" في 2025؟)
  • بهاء محمود يكتب: (ضغوط ترامب: كيف يُعمق عدم استقرار حكومتي ألمانيا وفرنسا المأزق الأوروبي؟)
  • د. أحمد أمل يكتب: (تهدئة مؤقتة أم ممتدة؟ فرص وتحديات نجاح اتفاق إنهاء الخلاف الصومالي الإثيوبي برعاية تركيا)
  • سعيد عكاشة يكتب: (كوابح التصعيد: هل يصمد اتفاق وقف النار بين إسرائيل ولبنان بعد رحيل الأسد؟)
  • نشوى عبد النبي تكتب: (السفن التجارية "النووية": الجهود الصينية والكورية الجنوبية لتطوير سفن حاويات صديقة للبيئة)

نهج "بوكتشين":

رؤية طوباوية للمجتمع البيئي في عالم ما بعد الندرة

23 مايو، 2024


عرض: منى أسامة

على الرغم من هيمنة المنظور الرأسمالي على تخيل مستقبل المجتمعات استناداً إلى القوة والهيمنة والتنافس والتكنولوجيا، فإن المنظور المثالي يولد تصورات مضادة لمجتمعات أكثر تضامناً وإنسانية وانسجاماً مع البيئة الطبيعية. من بين تلك الرؤى، يبرز موراي بوكتشين –المفكر الاشتراكي الأمريكي، وأحد رواد الحركة البيئية في العالم- إذ يطرح تصوراً طوباوياً لمجتمع بيئي في عالم ما بعد الندرة، أي عالم تختفي فيه الرأسمالية والسوق، عندما تتوافر البضائع، والحد الأدنى من العمالة البشرية. 

تأثرت تصورات بوكتشين، الذي توفى عام 2006، بفكر هيغل، وكارل ماركس، وبيتر كروبوتكين؛ إذ كان من أبرز مناهضي الرأسمالية، ومدافعاً عن اللامركزية الاجتماعية على أسس بيئية وديمقراطية. كما ربط بين التاريخ والفلسفة والأنثروبولوجيا والدراسات الحضرية والبيولوجيا والبيئة؛ لخلق رؤية شاملة للتنمية البشرية والإمكانات البشرية، بما يجعله أحد العقول العظيمة للنظرية الاجتماعية مثل ماركس.

في هذا الإطار، يستعيد كتاب "نحو مجتمع بيئي"، الصادر في عام 2024، أفكار بوكتشين، التي قدمها في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، وهي أفكار تثير التأمل والجدال في ظل عالمنا الراهن الذي يولي أهمية كبيرة للقضايا البيئية؛ إذ تطرق فيها إلى أسس البيئة الاجتماعية الحقيقية، كمجتمع يقوم على اللامركزية، والاعتماد المتبادل، والإدارة الذاتية الديمقراطية، والمساعدة المتبادلة، والتضامن، وصاغ مقدمة الكتاب، دان شودوركوف، أحد علماء البيئة الاجتماعية، بناءً على عمله مع بوكتشين، في تأسيس معهد مختص بالإيكولوجيا الاجتماعية والأبحاث. 

عالم المدينة الفاضلة:

يؤمن بوكتشين بالطوباوية، كأحد أقدم أشكال النظرية الاجتماعية، التي تقدم نقداً للمجتمع الحالي وتطرح رؤية لعالم مختلف، من خلال النزعة إلى حياة مثالية؛ من ثم، ينطلق من سؤال: ماذا يجب أن يكون؟ مع ذلك، فإن إجابته تكون متجذرة في إمكانات حقيقية قائمة، ففي مقالاته حول "قوة التدمير، والقدرة على الإبداع"، و"نحو مجتمع بيئي"، يتساءل عن الافتراضات الأساسية للدولة والسوق والنظام البيئي، لافتاً إلى التقنيات الناشئة مثل: الطاقة الشمسية وطاقة الرياح والزراعة البيئية وتقنيات البناء الموفرة للطاقة؛ لتوفير أساس مادي لمجتمع بيئي. 

تتوافق رؤية بوكتشين، مع عملية التطور نفسها، لكنه يميز بين النمو من أجل النمو، والتطور العضوي الحقيقي؛ إذ يرى أن هناك مجالاً للتطور نحو المدينة الفاضلة؛ عندما يصبح البشر أكثر وعياً بأنفسهم وعلاقتهم بالطبيعة. في هذا الإطار، يحذر من خطورة تطور التقنيات الناشئة في نظام رأسمالي، مفترضاً أنها ستؤدي إلى سيطرة مركزية للشركات العملاقة، كمصانع الرياح البحرية الضخمة ومزارع الطاقة الشمسية.

ففي مقال له يحمل عنوان "أسطورة تخطيط المدن"، يقدم بوكتشين، بعض مبادئ بناء المدينة الفاضلة: فهذه المدينة، يجب أن تكون غير هرمية، حجمها إنساني، لا مركزية، متجذرة في اقتصاد ما بعد الندرة القائم على المساعدة المتبادلة والتضامن؛ كما أن إدارتها يجب أن تكون ذاتية من خلال الديمقراطية المباشرة؛ إذ يعتقد أن البشر يمكنهم تحقيق مستوى من الوعي الذاتي يسمح بخلق مجتمع عقلاني حقيقي، هو من وجهة نظره، المجتمع البيئي.

نقد الرأسمالية:

تنطلق أفكار بوكتشين، من نقد المؤسسات القائمة ومعارضة العملقة والرأسمالية. فعارض فكرة المزج بين المجتمعات البيئية والمدن الكبرى المتنامية التي كانت تحل محل المدينة التقليدية. وأصر على أن التكنولوجيات البيئية مثل: الطاقة الشمسية وطاقة الرياح والطاقة الكهرومائية، مصممة بما يتناسب مع البيئات المحددة التي يتم نشرها فيها؛ ومن ثم يمكنها أن تحل محل مرافق الوقود الأحفوري والطاقة النووية. 

يركز بوكتشين، أيضاً على الحاجة إلى أشكال محلية لا مركزية لإنتاج الأغذية العضوية؛ لتحل محل الأعمال التجارية الزراعية الصناعية واسعة النطاق؛ إذ دعا إلى أشكال صناعية حرفية، تحل محل المصانع العملاقة. كما اعتبر أن اللامركزية ليست مجرد وسيلة لخلق وسائل أكثر سلامة بيئياً لتلبية الاحتياجات المادية للبشرية، وإنما توفر أساساً لسيطرة المجتمع على الموارد الحيوية عن طريقة إزاحة الأشكال الهرمية للقيادة والسيطرة، التي تمارسها الرأسمالية على الموارد الحيوية، وعليه، تتمكن المجتمعات من استعادة الأساس الذي يقوم عليه وجودها ويمنحها القدرة على اتخاذ القرار، من خلال وسائل ديمقراطية مباشرة تتعلق بتنظيم إنتاج وتوزيع تلك الموارد. إذ يرى بوكتشين، ضرورة تمكين الناس من المشاركة بنشاط في القرارات التي لها تأثير مباشر في حياتهم؛ مما سيسمح بحل البيروقراطية. 

وبرغم تأكيد بوكتشين، الاستقلال الفردي والإدارة الذاتية للمجتمع، فإنه اعترف بأهمية العلاقات المترابطة أو المتبادلة للأفراد والمجتمع. فسعى إلى تعظيم الاعتماد على الذات لكل مجتمع، لافتاً إلى حاجة البشر إلى وسائل لاتخاذ القرارات، لكنه دعا إلى توزيع هذه السلطة بالتساوي وبشكل ديمقراطي، وبناءً على اطلاعه على التاريخ الثوري (كالثورة الإنجليزية، وحراك كومونة باريس عام 1871، والثورة في إسبانيا خلال الحرب الأهلية)، وجد بوكتشين أن الإنسانية لديها القدرة على تنظيم الحياة الاجتماعية على أساس مختلف عما هو قائم. 

مرحلة ما بعد الندرة:

بالرغم من أن أفكار بوكتشين، طُرحت قبل ثورة الاتصالات والتكنولوجيا، فإنه أولى اهتماماً بمسألة إحلال الآلات والحوسبة محل العمل اليدوي؛ إذ يعتقد أن التقدم التكنولوجي في القرن العشرين كان سعياً وراء ربح السوق، وعلى حساب احتياجات البشر والاستدامة البيئية، وأن البشر أصبح لديهم قدرات تكنولوجية تمكنهم من تلبية جميع احتياجاتهم المادية دون العمل الشاق الذي تفرضه العلاقات الإنتاجية للرأسمالية. 

فالتكنولوجيا التحررية -حسب تعبيره- تحرر البشرية من الصراع من أجل البقاء، وتطلق العنان لجوانب جديدة من الإمكانات البشرية. فالإدراك الكامل لمرحلة ما بعد الندرة (مصطلح اقتصادي نظري يفترض توافر البضائع بشكل كبير مع الحد الأدنى من العمالة البشرية) يعني إلغاء الرأسمالية، وحتى السوق نفسها. ويفترض بوكتشين، في مقال "فوضوية ما بعد الندرة" أن اقتصاد ما بعد الندرة يعتمد على البيئة الاجتماعية، والتحررية، ووفرة الموارد الأساسية، على أساس أن مجتمعات ما بعد الصناعة لديها القدرة على التطور الذي يتيح تحقيق الإمكانات الاجتماعية والثقافية الكامنة في تكنولوجيا الوفرة. 

نحو مجتمع بيئي:

يتصور بوكتشين أن إنشاء "مجتمع بيئي" سيتطلب المزيد من إجراءات الإدارة الذاتية واتخاذ القرارات الديمقراطية المباشرة من خلال تمكين الأفراد وتوسيع النزعة الفردية الحقيقية. ومن وجهة نظره، لا يمكن تحقيق ذلك إلا من خلال المواطنة النشطة، التي تتطلب مشاركة الفرد في الإدارة الذاتية لمجتمعه. وتُعد هذه العملية أساسية لتطوير الوعي الذاتي ومفتاحاً لأي تحرر حقيقي. فعلى سبيل المثال، ينظر بوكتشين إلى مجتمع المدينة في أثينا باعتباره نموذجاً للمشاركة المدنية؛ إذ شارك جميع السكان في القرارات السياسية التي تؤثر في مجتمعهم من خلال التجمع الديمقراطي المباشر. 

على جانب آخر، يُعد فهم بوكتشين للطبيعة هو الأساس الأخلاقي لأفكاره؛ إذ يفترض أن الطبيعة غير هرمية ومتبادلة ومتكاملة في جميع النواحي، وأن هناك وحدة في التنوع بين السلاسل الغذائية في أي بيئة معينة. فكلما زاد التنوع البيولوجي للنظام البيئي، كان أكثر صحة، كما أن التطور الطبيعي يميل نحو التنوع والتعقيد والتحرر. ومن أجل تحقيق المدينة الفاضلة، لا بد من إعادة الانسجام بين البشر وبقية الطبيعة من أجل الوصول إلى مجتمع بيئي.

وفي مقال آخر له بعنوان "البيئة والفكر الثوري"، يُشير بوكتشين، إلى الحاجة إلى التقنيات البيئية كالطاقة الشمسية وطاقة الرياح؛ لإنشاء مجتمع بيئي حقيقي، ولضمان استمرار بقاء البشرية على هذا الكوكب. ويدعو إلى خلق نظرة جديدة غير هرمية وديمقراطية مباشرة من أجل خلق هذا المجتمع. وهو ما يعني تحذير بوكتشين، من أزمات بيئية واجتماعية قد يواجهها البشر؛ إذا لم يصلوا إلى المجتمع البيئي الخالي من أية هيمنة أو تسلسل هرمي.

نقد الرؤى المعاصرة: 

يعتقد بوكتشين، في مقال آخر له حول "اليوتوبيا والمستقبلية" في الستينيات أن كل "السيناريوهات" و"الرؤى" المستقبلية تقريباً تُعد امتداداً للحاضر، سواء التي تناقش ما سيحدث عام "2000"، أم حول الفضاء، أم في المحيطات، أم تحت الأرض، فتلك الرؤى، من وجهة نظره، توسع الوضع الراهن بدلاً من تحديه، حتى من قبل المستقبليين الذين يزعمون أنهم يفضلون "التصغير" و"اللامركزية". 

أي أن الباحثين المستقبليين -في نظر بوكتشين- نادراً ما يفحصون افتراضاتهم التقليدية مثل، عادات المجتمعات القديمة، وكأن العادات لا تتغير مع مرور السنين. فالمستقبلية ألغت المستقبل من خلال استيعابه في الحاضر. لذلك، فهو يرى أن المستقبلية هي "المدينة الفاضلة" التي تحمي البيئة. 

على جانب آخر، يُعد المجتمع الحالي -وقت مقالات بوكتشين- هو الأكثر تشرذماً في التاريخ؛ لأنه استبدل الوسائل بالغايات، والحقيقة بالاتساق، والفضيلة بالتقنية، والكمية بالنوعية، والموضوع بالذات، فهو مجتمع لم يتم تصميمه حرفياً لأي غرض آخر سوى البقاء على قيد الحياة بأية شروط. 

وبناءً على طبيعة مجتمعات البقاء، يمكن للطاقة الشمسية التعايش مع النووية، والتكنولوجيا المناسبة مع المتقدمة، والبساطة الطوعية مع البذخ الذي تظهره وسائل الإعلام، واللامركزية مع المركزية، والنمو المحدود مع التراكم غير المحدود. فهو مجتمع بيروقراطي يركز السلطة السياسية في مؤسسات الدولة المركزية، مجتمع يحتفظ بالسائد من افتراضات حول الاقتصاد، والسياسة، والتراث العرقي للبشرية. 

لذا؛ يرى بوكتشين أننا أصبحنا محاصرين إيديولوجياً وأخلاقياً في الافتراضات المسبقة التي بنيت في تفكيرنا الطبيعي دون وعي مثل التنفس. إن قوة التفكير الطوباوي، الذي يُنظر إليه على أنه رؤية لمجتمع جديد يشكك في جميع الافتراضات المسبقة لمجتمع اليوم، هي قدرته المتأصلة على رؤية المستقبل من حيث الأشكال والقيم الجديدة بشكل جذري. 

كلمة "جديد"، لا تعني فقط "التغيير" (المتعلق بالكم والمادة وإصلاح القصور فقط) لكنه "جديد" من حيث التطور والعملية. وتحت عنوان "المدينة الفاضلة" يضع بوكتشين الرؤى الجديدة لمستقبل ناشئ، نتاج عمليات عميقة الجذور تتضمن إعادة بناء جذرية للشخصية، والإدارة الاجتماعية، والتقنيات، والعلاقات الإنسانية، والسياسية مع الطبيعة. 

إن غاية نهج بوكتشين، هو تقديم رؤية طوباوية مستقبلية لعالم ما بعد الندرة من خلال نقد الواقع والرؤى المعاصرة له، والتي لم تحاول تقديم أي تحدٍّ لأسس الوضع الراهن. فمن أجل المستقبل، يرى بوكتشين، ضرورة التخلص التدريجي من التجمعات الحضرية التي لا شكل لها، وتحويلها إلى مجتمعات بيئية تتناسب مع الأبعاد البشرية، ومصممة بحساسية من حيث الحجم والسكان والاحتياجات والهندسة المعمارية بما يتناسب مع الأنظمة البيئية المحددة، كما يدعو إلى الاعتماد على الشمس والرياح والماء والنفايات المعاد تدويرها لخلق تكنولوجيا شعبية مفهومة وتحويل مؤسسات الدولة إلى مؤسسات قائمة على التعاون المتبادل والتضامن الإنساني من أجل خلق مجتمعات بيئية في المستقبل.

المصدر:

Murray Bookchin. Toward an Ecological Society. AK Press. 2024.