أخبار المركز
  • أسماء الخولي تكتب: (حمائية ترامب: لماذا تتحول الصين نحو سياسة نقدية "متساهلة" في 2025؟)
  • بهاء محمود يكتب: (ضغوط ترامب: كيف يُعمق عدم استقرار حكومتي ألمانيا وفرنسا المأزق الأوروبي؟)
  • د. أحمد أمل يكتب: (تهدئة مؤقتة أم ممتدة؟ فرص وتحديات نجاح اتفاق إنهاء الخلاف الصومالي الإثيوبي برعاية تركيا)
  • سعيد عكاشة يكتب: (كوابح التصعيد: هل يصمد اتفاق وقف النار بين إسرائيل ولبنان بعد رحيل الأسد؟)
  • نشوى عبد النبي تكتب: (السفن التجارية "النووية": الجهود الصينية والكورية الجنوبية لتطوير سفن حاويات صديقة للبيئة)

مأزق التباطؤ:

مستقبل "الأفكار الكبيرة" في زمن التكنولوجيا الرقمية

12 مايو، 2022


عرض: رشا رفعت 

شهد العالم طوال الألفية الماضية، خاصة في القرنين الماضيين، أفكاراً غير عادية في أغلب المجالات الإنسانية من الطيران العابر للقارات إلى علاج السل، واختراع التلفزيون، وصناعة السيارات، والإضاءة الكهربائية، وميكانيكا الكم، والحقوق المدنية، وعلم الوراثة، والطاقة النووية، وموسيقى الجاز، وزرع الأعضاء، وعصر إطلاق القمر الصناعي، وغير ذلك الكثير. أما إذا نظرنا لواقعنا الآن، سنجد اختلافاً في طبيعة الأفكار، فاليوم الجميع يعتمد على الأفكار الاصطناعية من خلال التكنولوجيا الرقمية في مختلف المجالات. 

تساءل مايكل باسكار في كتابه "حدود البشرية: مستقبل الأفكار الكبيرة في زمن التفكير المحدود" عن أسباب تباطؤ وتيرة تدفق الأفكار الكبيرة التي تساهم في تقدم البشرية، ويعني الكاتب بالأفكار "الكبيرة"، أي تلك التي تمثل طفرة تغير حياة البشر، وتؤثر على المستقبل. تحدث الكاتب عن انحسار حدود البشر حالياً، موضحاً أن مفهوم الحدود البشرية يشمل أكثر بكثير من المعرفة وحدها، فهناك اكتشافات واختراعات استطاعت إحداث تقدم بشري هائل، كما قدم أيضاً تصوراً لكيفية إعادة تدفق الأفكار الكبيرة في المستقبل.

ثورة في الأفكار: 

لقد مرت البشرية بثورة كبيرة في الأفكار، لم يكن هناك حدود للإنسان، وكان تاريخ البشرية طوال الألفية الماضية مليئاً بالاكتشافات والإنجازات، وكأنها جزء طبيعي من النظام البشري. وقد أوضح الكاتب إن الأفكار الكبيرة تمر بعدة مراحل منفصلة، لتصبح في النهاية إنجازاً بشرياً تستمر أثاره على مر العصور، وتتمثل هذه المراحل فيما يلي:

- مرحلة التصور: مثلما حدث مع نيوتن، عندما كان يراقب شجرة التفاح، حتى توصل إلى قانون الجاذبية.

- مرحلة التنفيذ: وهي المرحلة التي يتم بها تفعيل الفكرة وعرضها وإظهارها للعالم، فإذا ظل التصور في الرأس، فلن يكون اختراعاً.

- مرحلة التسويق: ترجع أهمية هذه المرحلة في انتشار الفكرة أو التبني أو القبول على نطاق واسع.

لم ينكر الكاتب الدور الذي تلعبه الصدفة في معظم الاكتشافات، على سبيل المثال ابتكر روبرت كوخ مزارع بكتيرية بعد أن ترك بطاطس بالخارج لتتعفن، كما اكتشف كولومبوس أمريكا عن طريق الصدفة. 

عواقب التباطؤ: 

تساءل الكاتب ما نوع البيئات الاجتماعية التي تؤدي إلى ظهور الأفكار أو تمنعها، وما هي الحوافز والمؤسسات التي تشكلها؟ هناك العديد من الشعوب شهدت انهيار حضارتهم، لتنتهي إلى الأبد، وذلك عندما اعتقدوا أن الحياة مستقرة، فتوقفوا عن التفكير والتطوير، حينئذ تراكمت المخاطر والأزمات؛ وتغير المناخ للأسوأ، وتدهورت التربة وتآكلت، وتم استغلال الموارد إلى حد تناقص العوائد قبل الانهيار. وفي هذه الأثناء كانوا محاصرين ثقافياً، غير قادرين على التعرف بشكلٍ كامل على المشاكل أو التعامل معها. لم يكن الأمر أنهم لم يكونوا أذكياء أو لم يروا المشكلات التي كانت تتشكل؛ بل كانوا مجردين من الحلول.

تأسيساً على ما سبق، ظهرت مؤخراً مجموعة مخاطر تهدد البشرية، منها تغير المناخ العالمي، ومقاومة الفيروسات للمضادات الحيوية، ونضوب الموارد الطبيعية من المياه العذبة والمعادن الأرضية النادرة والتربة السطحية الخصبة، وتوقف النمو الاقتصادي، واستمرار انتشار مرض السرطان. ففي الدول المتقدمة يتم تشخيص أكثر من 17 مليون مريض بالسرطان كل عام، ومن المتوقع أن يرتفع هذا الرقم إلى 27.5 مليون بحلول عام 2040 ومع ذلك، حتى وقت قريب، لم يكن لدى علم الأورام سوى ثلاثة علاجات رئيسية، الجراحة والإشعاع والعلاج الكيميائي- أي "الجرح والحرق والسم"، كما أن العديد من الأدوية باهظة الثمن لها سجل سيئ، وكل العلاجات لها آثارها الجانبية.

على الجانب الآخر، ظهر شكل من أشكال العلاج المناعي، والذي يعتبر من العلاجات الواعدة بإحداث ثورة في "الحرب على السرطان"، حتى أن بعض الباحثين يقارنونها باكتشاف البنسلين، واعتباره نقطة تحول ستغير المجال إلى الأبد وتغير حياة البشر. ولكن يرى الكاتب أن العلاج المناعي ليس اختراعاً مفاجئاً مثل قصص النجاح الأخرى، فقد استغرق الأمر عقوداً وعقوداً من المحاولات البائسة، ناهيك عن الكميات الهائلة من تمويل البحوث وجهودها. 

الأفكار الاصطناعية: 

تعد الحوسبة الكمومية فناً ناشئاً لكنه سريع التطور، حيث تستثمر مؤسسات مثل Google وIBM المليارات لتحقيق "التفوق الكمي"، وهي النقطة التي تبدأ فيها أجهزة الكمبيوتر الكمومية في إجراء حسابات مستحيلة على الأجهزة الكلاسيكية. وللحوسبة الكمومية تداعيات في مجالات متنوعة مثل الكيمياء، والتشفير، والمواد، والمستحضرات الصيدلانية، والمالية، واللوجستية.

لم يغفل الكاتب عن ذكر بعض الأفكار الحديثة التي ظهرت مؤخراً مثل Google map وZoom وMinecraft وSpotify، والتي اعتمدت بشكل أساسي على التكنولوجيا الرقمية. ويعتقد الكاتب أن ما يحدث الآن يمثل ثورة من التحديث والابتكار الهامشي. فعلى سبيل المثال في مجال السياسة، لا يوجد تصور جديد جذري أو طموح للعالم يطور من المفاهيم السياسية الحالية، فمعظم البرامج والسياسات والأيديولوجيات تهدف إلى تكييف أو تحسين النظام الحالي. 

وتفاءل الكاتب بأن تطبيق الذكاء الاصطناعي يمكن أن يحقق تقدماً حاسماً في السنوات القادمة، وبشكل عام، يركز المجال الآن على مناهج Machine Learning في حل المشكلات الأساسية. ومع التطور وازدهار القدرة الحسابية، تزداد أيضاً القدرة على رؤية أشياء جديدة في البيانات، بما يتجاوز حدود الإدراك البشري.

وأوضح الكاتب أن البشرية في منعطف تاريخي خطير، فهناك اكتشافات وإنجازات جديدة غير عادية؛ من علم الأحياء الكمي، والتكنولوجيا النانوية، والهندسة المعمارية البارامترية، وعلم فلك الكواكب الخارجية إلى حوكمة وحدة الدفع، وblockchain والعوالم الافتراضية. ولكن بعد هذه الاكتشافات والاختراعات المتلاحقة أصبحنا نعاني حالة ركود. وهنا أبرز الكاتب بعض آراء العلماء والنقاد التي تلخصت في إننا حالياً نعيش وسط "مجاعة فكرية كبيرة".

مسارات محتملة:

أشار الكاتب إلى أن مستقبل الأفكار الكبيرة مازال مجهولاً، لكنه وضع ثلاثة مسارات محتملة لما قد يكون:

• مسار الشفق الطويل: وهو المسار الأكثر تشاؤماً، الذي يسبق المغيب والانهيار. فقد أصيبت الحضارات مراراً وتكراراً بالنكسات من خلال الصدمات الخارجية مثل المجاعة أو المرض أو الغزو. وقد تكون البشرية فريسة لأي من هؤلاء، حتى لو كانت الأدوات الموجودة لمكافحتها أفضل بكثير. ودلل على ذلك بسقوط الإمبراطورية الرومانية على يد البرابرة، عندما سارت الإمبراطورية منحطة ومختلة وظيفياً بشكلٍ متزايد، مما جعلها فريسة يسيرة للبرابرة الشماليين، وبذلك أُنهى العصر الكلاسيكي وبشر بما كان يُعرف سابقاً باسم العصور القديمة المتأخرة.

ووضع الكاتب سيناريو افتراضي لما قد يحدث في حال استمرار حالة الركود وعدم قدرة الأدوات الجديدة الوفاء بالمطلوب لإنقاذ البشرية، فيتصور أن تستمر إنتاجية البحث في الانخفاض، وتؤخر الصعوبات الأدوات الجديدة إلى أجل غير مسمى، وأن تصبح الأفكار الجديدة الكبيرة باهظة الثمن، وتتعاظم الثقافة، أما التجربة السياسية فتصبح محفوفة بالمخاطر للغاية، كما يتقلص عدد السكان، ويقترب الاقتصاد العالمي من الصفر خاصة مع التغير المناخي. 

• اليوتوبيا الجديدة: وهو المسار الأكثر تفاؤلاً، حيث افترض الكاتب أن تسير الأمور بشكل مثالي، حيث لا يوجد من الناحية النظرية سبب يمنعنا من رؤية تحسينات في نمط الحياة تعادل تلك التي حدثت في القرون الأخيرة. مع الأخذ في الاعتبار أن العالم النامي منشغل في سد الفجوة بينه وبين الاقتصادات المتقدمة، وتعمل جميع الحضارات الكبرى في حدود المعرفة. فيمكن أن نكون على أعتاب ثورة جديدة في الأدوات والتكنولوجيا مثلما حدث في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين مثل الذكاء الاصطناعي، والحوسبة الكمومية، والطباعة ثلاثية الأبعاد، والبيولوجيا التركيبة، وواجهات الرابط العصبي التي تربط أجهزة الكمبيوتر والأدمغة البشرية. 

كما أشار الكاتب إلى أن ما يدعو للتفاؤل، ما أسفرت عنه جائحة كورونا، حيث أدت إلى اندماج سلاسل الإمداد حول العالم لتوفير اللقاحات لمواجهة الجائحة والحفاظ على البشرية.

• المسار الضبابي أو المحايد: يُشير هذا المسار إلى وجود توليد للأفكار ولكن بمعدل بطيء، وأن نتائج هذه الأفكار مجهولة العواقب. وتتمثل الفكرة المركزية لهذا الكتاب في أن الغرب ينفق حالياً كثيراً ويحقق القليل، لأنه يفعل الأشياء نفسها بالطريقة نفسها، مراراً وتكراراً، وقد يكون مزيجاً عالمياً من الأفكار سيكسر هذا الركود لإنتاج مجموعة جديدة من الأدوات، والتي بدورها يمكن أن تؤدي إلى تسارع أوسع في إنتاج الأفكار الكبيرة. 

مقترحات للمستقبل:

طرح الكاتب بعض المقترحات لإعادة تدفق الأفكار الكبيرة وتحقيق مستقبل أفضل:

• أولاً: تحديد المهام: توحيد الجهود في جميع عمليات البحث والتطوير مهما كانت محفوفة بالمخاطر والتحديات. مثلما حدث في بداية الخمسينيات عندما قررت الولايات المتحدة الأمريكية تخصيص جزء من الناتج القومي لتأسيس ناسا، والتي بدورها اكتشفت نظام تحديد المواقع العالمي GPS، واخترعت الأطراف الصناعية، وساعدت في دخول الإنترنت، جاء ذلك نتيجة تعاظم الجهود والأبحاث.

• ثانياً: تعدد التجارب: إجراء المزيد من التجارب، وخلق مساحة تنظيمية للتجارب المحفوفة بالمخاطر، وليس سحقها من قبل العديد من اللجان أو من خلال الاحتياط الزائد أو ثقل المصالح المكتسبة.

• ثالثاً: إحداث ثورة في التعليم: لا يوجد مجال للانتظار والاكتفاء بتقديم الحقائق، يجب الحرص على تدريس العلوم التي تساعد الطلاب على التعلم والاستكشاف بأنفسهم، وتأهيلهم إلى التفكير المستقل، بما يسمح للطلاب بتجميع الخيوط بشكل استباقي. ومن المهم أيضاً اتباع منهج مجموعات العمل، بحيث يساعد الطلاب بعضهم البعض مما يضاعف مكاسبهم المعرفية ثلاث مرات أكثر. 

• رابعاً: تحفيز جميع الأفكار: وهو ما يعكس فكرة قيام الحكومات بتقديم مكافئات تحفيزية للمؤسسات التي تستطيع حل المشاكل التي تواجه المجتمع.

• خامساً: كن مقداماً: إن الابتكار دائماً محفوف بالمخاطر، فعلى سبيل المثال، السيدة ماري ورتلي مونتاجو -التي أدخلت التلقيح ضد الجدري إلى بريطانيا- جربته أولاً على ابنها. وأيضاً رائد الطيران أوتو ليلينثال، والذي كان مصدر إلهام رئيسي للأخوين رايت لاتخاذ قرارات متعلقة لعمل أول رحلة طيران – الذي توفي إثر حادث بإحدى طائراته.

وختاماً، يؤكد الكاتب أن الاضطرابات الحالية في العالم وانتشار الوباء، يجب الاستفادة منهما في إعادة التفكير الطموح، حيث إن من المخاطر تولد الحلول، فالتقدم البشري جاء نتيجة تصور الأفكار الكبيرة وتنفيذها بوتيرة متسارعة، حيث توسعت آفاق المعرفة وأصبحت القوى الأساسية، مثل الطاقة والتطور قابلة للتتبع، وبدأ لغز المرض في الانهيار. فبعد نهاية القرن العشرين، حول ألبرت أينشتاين الفئات الأساسية مثل الزمان والمكان إلى فئات قابلة للقياس، وخضعت الثقافة لثورة، وأصبح الترفيه الجماهيري، من التلفزيون والبرامج الإذاعية حقيقة واقعة، في حين تمت إعادة تعريف طبيعة الفن بشكل تدريجي، من الانطباعية إلى التعبيرية التجريدية.

المصدر:

Michael Bhaskar, Human Frontiers: The Future of Big Ideas in an Age of Small Thinking, The MIT Press Cambridge, Massachusetts, London, England, 2021.