أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

ما قبل الانزلاق:

هل يمثل تغيير "النظام الهجين" حلا لأزمة تونس؟

29 يونيو، 2021


ظلت الأزمة السياسية في تونس تتصاعد منذ أشهر من دون حلّ، ويرجع ذلك في جزء منه إلى الدستور، الذي أقرّ في العام 2014، نظاماً تتشابك فيه صلاحيات المؤسسات الدستورية، وانتهى الأمر إلى الصراع القائم اليوم بين الرئيس من جهة والبرلمان والحكومة من جهة أخرى. وأمام حالة الجمود الحالية، دعا الرئيس قيس سعيد في أكثر من مرة إلى التوجه نحو تغيير النظام السياسي القائم، فيما تخشى حركة النهضة الإسلامية وحلفاؤها خسارة الامتيازات الانتخابية التي حققها لها نظام تقاسم السلطات ونظام الاقتراع الحالي. آخر دعوات الرئيس سعيد كانت منذ حوالي أسبوع، وقد جاءت أكثر تفصيلاً من سابقاتها، وفي إطار أكثر وضوحاً، هو "الحوار الوطني". وتسعى هذه المقالة إلى إلقاء الضوء على مبادرة الرئيس التونسي لتغيّير النظام السياسي، والسياقات التي جاء فيها والتحديات التي تعترضها.

مبادرة الرئيس

قبل وصوله إلى قصر قرطاج، كان الرئيس التونسي، قيس سعيد، يطالب بتغييرات جذرية على النظام السياسي والنظام الانتخابي، معتبراً أن الديمقراطية التمثيلية الراهنة قد وصلت إلى طريق مسدود في الوفاء بتطلعات الناس وآمالهم. ثم ظهر موقفه جلياً بعد ذلك في توجيه نقد مباشر للمنظومة الحزبية، خاصة للعمل البرلماني بشكله الحالي، وتجاوزات النواب وقضايا الحصانة. 

وخلال لقاء جمعه برؤساء الحكومات السابقين، في 13 يونيو الماضي، أعلن سعيد صراحة عن دعوته لتغيرات جذرية تطال "التنظيم السياسي الحالي وطريقة الاقتراع المعتمدة"، والتي أدت إلى ما اعتبره "الانقسام وتعطّل السير العادي لدواليب الدولة". غير أنه قد وضع هذه المرة الإطار الواضح لهذه التغييرات المأمولة وهو "الحوار الوطني"، حيث كانت العديد من القوى والأصوات تخشى أن يذهب الرئيس نحو تغييرات قسرية يعتمد فيها على "إجراءات فوق دستورية" أو حتى دستورية استثنائية، مثل إعلان "حالة الخطر الداهم" كما يشير إليها الدستور التونسي في فصله الثمانين: "لرئيس الجمهورية في حالة خطر داهم مهدد لكيان الوطن أو أمن البلاد أو استقلالها، يتعذّر معه السير العادي لدواليب الدولة، أن يتخذ التدابير التي تحتمها تلك الحالة الاستثنائية".

وقد نجح سعيد هذه المرة في فرض شروطه على أجندة الحوار الوطني، التي انطلقت الدعوة له منذ أشهر بدعم من الاتحاد العام التونسي للشغل، حيث بدا واضحاً أنه لا يريد إعادة إنتاج نسخة الحوار الوطني للعام 2013، التي نجحت في فض الاشتباك مؤقتاً بين حركة النهضة والمعارضة العلمانية، ولكنها لم تعالج جذور الأزمة، وهو طبيعة النظام السياسي، سواء في صيغته المؤقته بين 2011 و2013، أو في صيغته الدائمة في أعقاب إقرار دستور 2014. وقد أشار الرئيس سعيد ضمنياً إلى ذلك في لقائه مع رؤساء الحكومة السابقين بالقول: "لن يكون الحوار محاولة يائسة لإضفاء مشروعية كاذبة ولن يتم إلا لحل مشاكل التونسيين ولن يكون كسابقيه".

 تنطلق مبادرة قيس سعيد من ركيزة أساسية مفادها أن الأزمة الهيكلية والسياسية التي تمر بها تونس سببها الجذري هو طبيعة النظام السياسي الهجين، شبه البرلماني – شبه الرئاسي، القائم على تقاسم الصلاحيات الدستورية بشكل معقد، حيث ينتهي إلى شلّ عمل السلطة التنفيذية عن أداء وظائفها من حيث إدارة الدولة وتحقيق التنمية، وتقسيمها بين رئيس منتخب من الشعب مباشرة ورئيس حكومة مُعين، وكذلك النظام الانتخابي القائم على "نظام القائمة النسبية مع اعتماد أكبر البواقي"، والذي يكرس تشتت الحاصل الانتخابي، حيث يريد الرئيس تكريس نظام التصويت على الأفراد، وتغيير الدوائر الانتخابية نحو شكل من أشكال الديمقراطية المباشرة.

تحديات متعددة

يوجد شبه إجماع في تونس على ضرورة إدخال تغييرات على النظام السياسي والانتخابي القائمين. لكن الجدل والاختلاف يقعان ضمن دائرة حدود هذه التغيرات وشكلها وأدواتها، حيث يذهب الرئيس قيس سعدي بعيداً في الدعوة للتغيير الجذري وفاءً لفكرته التي دافع عنها منذ الحملة الانتخابية وهي "الديمقراطية المباشرة"، فيما يؤيد قطاع واسع من الطبقة السياسية الحزبية، يساراً ويميناً إرادة التغيير هذه، شرط أن تعدل النظام السياسي الهجين إلى نظام رئاسي كامل أو برلماني كامل للخروج من معضلة تقاسم الصلاحيات وتشابكها.

بيد أن اقتناع جزء من الأحزاب بوجاهة التوجه الرئاسي نحو إدخال تغيرات، جذرية كانت أو جزئية، على النظام السياسي الدستوري ليس كافياً، حيث يحتاج الرئيس لتحقيق مبادرته إلى جانب الإطار التشاوري، وهو الحوار الوطني، واحترام الإجراءات الدستورية التي تتم فيها هذه التغييرات، كما ينص عليها باب "تعديل الدستور" في الدستور التونسي، والذي يعطي لمبادرة رئيس الجمهورية أولوية النظر، لكنه يشترط موافقة ثلثي أعضاء مجلس نواب الشعب، ثم عرض التعديل على الاستفتاء العام، ويتم قبوله في هذه الحالة بأغلبية المقترعين. 

وإذا كان الرئيس يمتلك في الوقت الراهن شعبية واسعة نسبياً، وفق أغلب استطلاعات الرأي تمكنه من ضمان نتيجة أي استفتاء لتعديل النظام، إلا أنه قطعاً لا يملك موافقة ثلثي أعضاء البرلمان، الذي تحوز فيه حركة النهضة وحلفاؤها على الأغلبية. كما أن جزءاً من النواب، غير المنتمين لإتلاف الأغلبية داخل البرلمان لديهم تحفظات على مواقف الرئيس بشكل عام، وعلى توجهاته لتغيير النظام السياسي القائم، حيث يدافع الحزب الحر الدستوري، بزعامة عبير موسى مثلاً عن ضرورة تغيير النظام السياسي الحالي، لكنه يرى أن الحلّ في العودة للنظام الرئاسي الكامل، وليس التوجه نحو "نوع جديد من الديمقراطية" بالشكل الذي يريد الرئيس سعيد تكريسه. 

وثمة تحدٍ آخر يعترض مبادرة أو سعي الرئيس لتغيير النظام السياسي والقانون الانتخابي، وهو الضبابية التي يتميز بها هذا السعي حتى الآن، حيث لم يطرح الرئيس طيلة هذه المدة أي مقترحات أو خطوط واضحة لشكل هذا التغيير وحدوده، لذلك مازلت العديد من القوى السياسية تمتنع عن إبداء مواقفها حول "المبادرة". ويبدو أن الرئيس سعيد يريد أن يكون الحوار الوطني هو الإطار الذي تناقش فيه هذه المقترحات أو التوجهات. وكان ذلك واضحاً في اجتماعه برؤساء الحكومة السابقين عندما قال: "لندخل في حوار جدي... يتعلق بنظام سياسي جديد وبدستور حقيقي، لأن هذا الدستور قام على وضع الأقفال في كل مكان، ولا يمكن أن تسير المؤسسات بالأقفال والصفقات"، الأمر الذي يوحي بأن سعيد لديه النية لتقديم تنازلات للتوافق على مسألة تغيير النظام السياسي.

عوائق النهضة

في المقابل تقف حركة النهضة وحيدةً في الدفاع عن النظام القائم باعتبارها أكبر المساهمين في صياغته عندما كانت تملك الأغلبية في المجلس الوطني التأسيسي (2011 - 2014)، وأيضاً كونها أكبر المستفيدين منه، كما تلعب الاعتبارات التاريخية دوراً مهماً في هذا الموقف، حيث خاضت الحركة الإسلاموية صراعاً كبيراً مع الدولة تحت حكم النظام الرئاسي المطلق خلال أربعة عقود، ولديها خشية من تكريس نظام رئاسي جديد يمكن أن ينهي وجودها، خاصة في ظل توتر العلاقة مع الرئيس قيس سعيد.

لكن الأزمة الخانقة التي تعيشها البلاد، اقتصادياً وسياسياً، جعلت حركة النهضة، باعتبارها الداعم الأساسي لحكومة هشام المشيشي، تسعى بكل جهدها نحو أي جولة جديدة من "الحوار الوطني" لإنقاذ نفسها من ورطة تحمل مسؤولية فشل الحكومة، كما حدث في العام 2013، في أعقاب موجة الاغتيالات السياسية التي طالت رموز المعارضة العلمانية، لذلك تلقفت مبادرة الاتحاد العام التونسي للشغل مبكراً منذ طرحها أوائل العام الحالي، فيما اصطدمت بشروط الرئيس سعيد حول مضمون الحوار وأهدافه. وعلى الرغم من مواصلة شبكاتها الإعلامية والسياسية الهجوم على الرئيس وسياساته بشكل عنيف، فإنها في الوقت نفسه بقيت تبحث عن صيغة للتسوية معه من دون جدوى، في محاولة لإعادة إنتاج توافقات جديدة كما حدث في السابق مع الباجي قائد السبسي، لكن معضلة النهضة أنها وقعت في صراع مع شخصية قادمة من خارج الأطر التقليدية للطبقة السياسية التونسية ولا تعترف بالمساومة.

مسارات مستقبلية

يبدو الوضع في تونس غائماً، في ظل الاستقطاب الشديد، والتوتر بين الرئيس وحركة النهضة من خلفها البرلمان والحكومة، وذلك من شأنه أن يحد من إمكانية تحليل المسارات المستقبلية للأزمة الراهنة التي تعيشها البلاد، والمآلات التي يمكن أن تلقاها دعوات الحوار الوطني، وتوجهات الرئيس نحو تغيير النظامين السياسي والانتخابي. ويمكن هنا طرح عدد من السيناريوهات المستقبلية المحتملة:

- سيناريو قبول جميع الأطراف بالجلوس على طاولة الحوار والتوافق على المضي في تغييرات جزئية للنظام السياسي وتغيير النظام الانتخابي، ولا يبدو هذا المسار مستحيلاً، خاصة في ظل تأزم الأوضاع التي تنذر بسقوط مؤسسات الدولة، وفي ظل مؤشرات تقارب بين الرئيس سعيد ورئيس البرلمان راشد الغنوشي بوساطة من القيادي السابق في حركة النهضة لطفي زيتون.

- سيناريو التوجه نحو انتخابات تشريعية سابقة لأوانها للخروج من الأزمة، وهي انتخابات يمكن أن يختبر كل طرف شعبيته فيها، ويمكن أن تتغير فيها قواعد اللعبة الحالية تماماً في ظل صعود قوي لشعبية الحزب الحر الدستوري وزعيمته عبير موسي وتراجع واضح لشعبية حركة النهضة.

- سيناريو تفعيل الإجراءات الدستورية الاستثنائية، حيث يمكن للرئيس قيس سعيد أن يعتبر الركود والجمود اللذين تمر بهما الدولة "خطراً داهماً" كما يفسره الدستوري في فصل الثمانين ويعلن عن تدابير استثنائية.

- سيناريو بقاء الوضع على ما هو عليه، وهو أخطر مسار يمكن أن تسلكه الأزمة، حيث تعاني البلاد أزمات متعددة، اقتصادية ووبائية وسياسية، يمكن أن تقود القطاعات الأكثر تضرراً، من الطبقات الفقيرة والوسطى وصغار الكسبة إلى الخروج مرة أخرى إلى الشوارع وربما إعادة سيناريو العام 2011 بشكل أكثر عنف وجذرية.