كيف تبدو معالم الحرب الأهلية الطويلة التي دمرت إثيوبيا منذ ما يقرب من عامين؟ بعيداً عن العيون ووسائل الإعلام، تجري أحداثها في جولة جديدة ربما تكون أكثر دموية من الأولى. وهو ما يثير مخاوف الأمم المتحدة والولايات المتحدة وغيرهما من الدول والمنظمات الدولية، والتي دعت جميعها إلى وقف التصعيد ليس فقط من أجل تجنب المذابح الجديدة، والتهجير الجماعي للسكان، ولكن أيضاً المجاعة والدمار الشامل، وهي التداعيات نفسها التي عصفت، بالجزء الشمالي من إثيوبيا بالفعل، منذ نوفمبر 2020. اندلع القتال مرة أخرى في 24 أغسطس الماضي بين الحكومة الفيدرالية والجبهة الشعبية لتحرير التيغراي، وهو ما يعني نهاية هدنة إنسانية استمرت خمسة أشهر منذ إعلانها في مارس. وقد تركزت معظم الاشتباكات في المنطقة الحدودية الجنوبية الشرقية من التيغراي، حيث توجد ولاية أمهرة المجاورة في بلدة كوبو. ويلاحظ تقدم جبهة دفاع التيغراي في منطقتي أمهرة وعفر المجاورتين. وثمة تقارير تفيد بمشاركة إريتريا بشكل متقطع في القتال ضد الجبهة الشعبية لتحرير التيغراي طوال فترة الحرب الأهلية في إثيوبيا. ومن المرجح أن يؤدي إضفاء الطابع الرسمي على دور إريتريا في الصراع إلى تعقيد أي مفاوضات محتملة لوقف إطلاق النار في المستقبل، حيث إن إريتريا تنظر دوما إلى منطقة التيغراي باعتبارها تهديداً وجودياً. ولعل أحد المؤشرات التي تعكس أهمية الدور الإريتري في الحرب الأهلية الأثيوبية تصريح مبعوث الاتحاد الأفريقي الرئيس النيجيري الأسبق أولسيغون أوباسانجو بضرورة دعوة إريتريا في أي مفاوضات سلام مقبلة.
انهيار الهدنة
على الرغم من اتهام كل طرف للآخر بإطلاق الشرارة الأولى في القتال، فإن ما هو واضح - من المعلومات التي تم الحصول عليها من الدبلوماسيين الغربيين - هو أن الجيش الإثيوبي وميليشيا الأمهرة المتحالفة معه، والمعروفة باسم فانو، حشدا قوة ضخمة عند بلدة كوبو خلال الأسابيع السابقة لاندلاع القتال. وفي الوقت نفسه قامت جبهة التيغراي بحملة تجنيد ضخمة في صفوفها وخصصت الكثير من مواردها للتدريب وإعادة التسليح، على الرغم من نفيها التجنيد الإجباري. استولت جبهة التيغراي على ترسانة ضخمة من الجيش الفيدرالي في قتال العام الماضي، وهناك شائعات بأنها اشترت أيضاً أسلحة جديدة من الخارج. وطبقاً لتقارير الجيش الإثيوبي فإنه أسقط طائرة كانت تنقل شحنات أسلحة إلى ماكيلي عاصمة التيغراي.
لقد تعلم التيغراي الدرس جيداً عندما حاولوا التوجه صوب العاصمة الإثيوبية وفشلوا فشلاً ذريعاً العام الماضي. ومن ثم فإن استراتيجيتهم الحالية تتمثل في تحصين الإقليم وفتح ممر آمن عبر السودان لوصول الإمدادات. ولذلك نجد المعركة تدور على جبهة ولكيت غرب التيغراي والتي تتميز بأراضيها الخصبة، ومن ثم استعادة السيطرة عليها وهذا هدف استراتيجي للتيغراي. ومن جهة أخرى التوغل في بعض قرى ومدن الأمهرة لتحقيق هدفين أولهما إضعاف معنويات الخصم وثانياً السيطرة على الطريق السريع من الشمال إلى الجنوب. ومن المرجح أن يعرض زحف التيغراي جنوباً قواتهم وخطوط الإمداد الخاصة بهم للخطر من قبل القوات الجوية الإثيوبية. كما أنه ليس لدى كثير من التيغراي الرغبة أو الإحساس بالانتماء للدولة الإثيوبية. ومن جهة ثالثة فإن الزحف باتجاه العاصمة والإطاحة بنظام آبي أحمد يعرضهم لمزيد من الضغوط الدولية بالإضافة إلى معضلة تشكيل حكم انتقالي في ظل واقع سياسي منقسم.
مفاوضات من وراء الستار
قام رئيس الوزراء آبي أحمد بتفويض نائبه ديميكي ميكونين برئاسة لجنة السلام التي بدأت العمل في يوليو الماضي. وتردد عقد جلسات تمهيدية في كل من سيشل وجيبوتي. وتمثلت المطالب الخاصة بجبهة التيغراي في مطلبين أساسيين:
1- رفع الحصار المفروض على إقليم التيغراي: وقد أكد المبعوث الأمريكي الخاص مايك هامر ومبعوثو الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، أثناء زيارتهما لعاصمة التيغراي في 2 أغسطس، ضرورة استعادة سريعة للكهرباء والاتصالات والخدمات المصرفية وغيرها من الخدمات الأساسية ووصول المساعدات الإنسانية من دون قيود. ويبدو أنهما تلقيا موافقة ضمنية من قبل رئيس الوزراء الإثيوبي.
2- انسحاب القوات الاريترية بالكامل: ولعل ما يؤكد وجود القوات الإريتيرية أنه في صباح الأول من سبتمبر، زعمت الجبهة الشعبية لتحرير التيغراي أن المدفعية الإريترية بدأت بوابل من القذائف، بينما كانت القوات البرية الإثيوبية تستعد لهجوم بري عبر الحدود. ومع ذلك التزمت الحكومة الإريترية الصمت بشكل مريب. والمؤشر الثاني هو دعوة أوباسانجو- كما ذكرنا- إريتريا للمشاركة في مفاوضات حرب التيغراي.
ويبدو أن الاتفاق في هذه المفاوضات التمهيدية تضمن اختيار نيروبي لتكون مقراً للمفاوضات الرسمية برعاية الرئيس أوهورو كينياتا، وطبعاً يقف خلف هذه الجهود المبعوث الأمريكي الجديد للقرن الأفريقي. وربما تمثل الهدف الأكبر في إعلان وقف دائم لإطلاق النار. وهنا يمكن الإشارة إلى أن جبهة التيغراي لا تفضل وساطة الرئيس أوباسانجو وترى أنه منحاز ربما بسبب أنه ينتمي إلى الطائفة الخمسينية المسيحية نفسها التي ينتمي إليها رئيس الوزراء آبي أحمد. ولذلك يفضل التيغراي الوساطة الكينية بدعم من أطراف إقليمية ودولية. أما الحكومة الإثيوبية فهي دوما ترفع شعار حلول أفريقية لمشكلات أفريقية، وهو ما يؤكد تمسكها بوساطة الاتحاد الأفريقي. ومن الملفت للانتباه أن الرئيس أوباسانجو استنكر وجود وسطاء آخرين في أزمة التيغراي وأكد أنه هو المفاوض الوحيد في هذا الصراع.
تداعيات التصعيد
من المرجح أن تتجاوز التداعيات السلبية لحرب التيغراي الداخل الإثيوبي لتشمل الإقليم بأسره. ويمكن الإشارة إلى ما يأتي:
1- اتساع دائرة العنف والتمرد في الداخل الإثيوبي: لقد اتهمت الحكومة أعضاء في جيش تحرير أورومو، الذي انضم إلى الجبهة الشعبية لتحرير التيغراي، والذي يطالب بمزيد من الحكم الذاتي الإقليمي، بقتل مئات المدنيين. ويزعم هذا الجيش المتمرد، الذي يسيطر على عدد من البلدات والقرى في منطقة أوروميا الوسطى، أن الشرطة الفيدرالية كانت تستهدف وتقتل المواطنين من الأورومو والنوير. كما بدت مخاوف آبي أحمد من ميليشيات فانو، التابعة لجماعة الأمهرة والتي تقاتل إلى جانب القوات الفيدرالية ضد التيغراي وهي تعارض الهدنة وترغب في سحق التيغراي بالضربة القاضية، حيث ترغب في السيطرة على الأراضي المتنازع عليها. كما شنت حركة الشباب الإرهابية، المرتبطة بالقاعدة وتسعى لتوسيع نفوذها في القرن الأفريقي، هجوماً في الأراضي الإثيوبية في يوليو 2022. ولعل ذلك يدخل إثيوبيا في دائرة مفرغة من العنف.
2- ارتفاع التكلفة الإنسانية للحرب: حصيلة هذه الحرب المميتة غير معروفة. لكنها شردت أكثر من مليوني شخص وقذفت بمئات الآلاف من الإثيوبيين إلى هاوية قريبة من المجاعة، وفقاً لتقديرات الأمم المتحدة. كما حُرمت التيغراي من الكهرباء والاتصالات والخدمات المصرفية والوقود لنحو عامين متتاليين. ومن جهة أخرى فإن معدل النمو الاقتصادي في إثيوبيا يتباطأ إلى أقل من 4٪ في عام 2022 وفقاً لتقديرات البنك الدولي. وفي ظل أجواء الحرب الأهلية، أعلنت الحكومة الإثيوبية في عام 2021 أنها تريد إعادة هيكلة ديونها الخارجية البالغة 28.4 مليار دولار. لكن الولايات المتحدة حثت المقرضين متعددي الأطراف على وقف تعاملهم مع إدارة آبي أحمد، ومن الممكن أن يؤدي حظر تمويلهم إلى عرقلة إصلاح الديون. كما أن صندوق النقد الدولي لم يبدأ بعد برنامجاً جديداً لإثيوبيا، وهو مطلب رئيسي لإعادة هيكلة الديون.
3- توتر مناطق الحدود القلقة مع السودان: في ديسمبر 2020، استغل الجيش السوداني الوضع في التيغراي لاستعادة السيطرة على أراضيه في الفشقة، وهي منطقة حدودية خصبة متنازع عليها منذ فترة طويلة. وثمة مناوشات متقطعة بين الجانبين. وعلى الرغم من دعوات المجتمع الدولي لوقف التصعيد، لا يزال الوضع اليوم متوتراً للغاية. كما اشتكت السلطات الإثيوبية من استخدام مخيمات اللاجئين التيغراي كقواعد خلفية من قبل المتمردين. في هذه الحالة، يمكن لأديس أبابا أن ترى في الخرطوم داعم حقيقي للتمرد، مما سيزيد من توتر العلاقات بينهما. وقد بدا ذلك واضحاً من إعلان الجيش الإثيوبي عن اسقاط طائرة محملة بالسلاح كانت قادمة عبر السودان إلى التيغراي.
4- تجميد مفاوضات سد النهضة: تجدر الإشارة إلى أن الوضع يتدهور على خلفية فشل المفاوضات الخاصة بسد النهضة بعد اكتمال الملء الثالث للخزان بقرار أحادي الجانب من قبل إثيوبيا. لم يتم التوصل بعد إلى اتفاق ملزم مع الحكومة الإثيوبية، التي أدى خطابها القومي منذ بدء الصراع في التيغراي إلى تقليل فرص التوصل إلى حل وسط. ولا تستبعد القاهرة والخرطوم اللجوء إلى وسائل أخرى للدفاع عن أمنهما المائي.
5 -تهديد السلام مع إريتريا: إذا سقط النظام في أديس أبابا أو تم تقويضه، يمكن التشكيك في اتفاق السلام لعام 2018 بين إثيوبيا وإريتريا. وثمة حرب وجودية بين اريتريا بزعامة أسياس أفورقي والجبهة الشعبية لتحرير التيغراي.
6- التهديد بزيادة عدم الاستقرار في الصومال: يعاني الصومال بالفعل من وضع سياسي وأمني معقد يمكن أن تؤدي الحرب في إثيوبيا إلى تفاقمه. بينما يكافح الجيش الوطني الصومالي لإعادة البناء، ذكرت الأمم المتحدة أن آلاف الجنود الصوماليين، الذين تدربوا في إريتريا، قاتلوا في التيغراي ولم يعودوا إلى الصومال بعد.
7- توقف التعاون الأمني مع صوماليلاند: تعتبر صوماليلاند التي أعلنت استقلالها من طرف واحد عام 1991 شريكاً موثوقاً به في الحرب ضد الإرهاب، وتتمتع منذ فترة طويلة بشراكة مميزة مع إثيوبيا. ومع ذلك، فإن تحالف آبي أحمد مع جمهورية الصومال في ظل رئاسة فرماجو منذ عام 2018 قلل من مستوى التعاون مع صوماليلاند. كما أدت الحرب في التيغراي إلى تقليصها أكثر، لا سيما فيما يتعلق بالأمن.
نحو وساطة قادرة!
تطالب الجبهة الشعبية لتحرير التيغراي برفع الحصار - الذي تطلق عليه جريمة حرب - كشرط مسبق لأي محادثات. وباتت الحكومة الفيدرالية تستخدم وصف الجماعة الإرهابية عند الحديث عن جبهة التيغراي وهو ما يعني أن الحرب الأهلية الإثيوبية وصلت إلى طريق مغلق. وهو ما يجعل الدخول في العملية التفاوضية مطلباً ملحاً. في ظل حالة الوهن والجمود التي أصابت مساعي الاتحاد الأفريقي من خلال مبعوثه الرئيس أوباسانجو لا توجد حالياً عملية وساطة قادرة وموثوقة وتحظى بموافقة جميع الأطراف. كما أن المبادرة الأمريكية-الكينية تعثرت في منتصف أغسطس بعد حالة الجدل السياسي المرتبطة بالانتخابات الكينية وإعلان فوز وليام روتو بمنصب الرئاسة. كما أن الولايات المتحدة المنهمكة في الحرب الأوكرانية ليست لديها خطط بديلة سوى تصريحات أنطوني بلينكن بضرورة العودة على التفاوض من دون قيد أو شرط.
وعليه يصبح السؤال عن توقيت وقف إطلاق النار وبدء المفاوضات وقوة الوساطة أو الطرف الثالث أسئلة مهمة في السياق الإثيوبي لأنه كما يقول أليكس دي وال فقد أثبتت معاناة الإثيوبيين منذ بداية الحرب الأهلية أنه لا يوجد حل عسكري للحرب في التيغراي.
إن القاعدة السائدة في هذه الحالة هي أننا أمام نموذج مثالي للمباراة الصفرية السالبة التي يخسر فيها جميع الأطراف. بعد فشل جهود الوساطة الأفريقية دعا كثير من الكتاب إلى تبني خيار مفاوضات دايتون التي أنهت الحرب الدموية في البوسنة. واستناداً إلى هذه الحالة يمكن القول إن نجاح وقف إطلاق النار يعتمد بشكل أكبر على قوة الوسيط لفرض مثل هذه الهدنة على الأطراف أكثر مما يعتمد على وصول الخصوم إلى حالة من الجمود السلبي المتبادل أو صيغة عامة لتسوية خلافاتهم. في الواقع، وفقاً لهذه الحجة، في حين أن أي وسيط يقبله الطرفان يجب أن يكون قادراً على إقناعهم بوقف الأعمال العدائية لفترة من الوقت، فإن استمرار التوقف يعتمد بشكل أساسي على قدرة الوسيط على إبقاء الأطراف المتحاربة في حالة من الالتزام وعدم خرق الهدنة. قد تستند سلطة الوسيط إلى قدراته العسكرية أو نفوذه السياسي أو نفوذه الاقتصادي، بما يمنحه سلطة كافية لتحفيز الخصوم على الانصياع لتوصياته. وفي الواقع لا يتمتع كل الوسطاء بهذه القوة. ولا ينبغي أن ينتقص هذا من جهود الوساطة، ولكن التمييز بين الوسيط القادر على إنفاذ وقف إطلاق النار والوسيط الذي لا يقدر على ذلك، قد تكون له عواقب حقيقية على احتمالية نجاح الوساطة.
وعليه فإن عجز الاتحاد الأفريقي وانشغال الأطراف الدولية الكبرى بالحرب الأوكرانية قد يعطي القوى الإقليمية الصاعدة والمقبولة من أطراف الصراع الفرصة لفرض وقف إطلاق النار والبدء في العملية التفاوضية. ولعل الخبرة السابقة لدولة الإمارات العربية المتحدة في الوساطة بين إثيوبيا وإريتريا ودورها المحوري في القرن الأفريقي يجعلها وسيطاً مقبولاً ولديه القدرة على إقناع جميع الأطراف المتحاربة بالجلوس على مائدة التفاوض.