تجدد القتال في الداخل الإثيوبي، منذ 24 أغسطس 2022، بين قوات جبهة تحرير تيجراي من ناحية، والقوات الإثيوبية وميليشيات الأمهرة التابعة لها، لتنتهي بذلك فترة وقف إطلاق النار التي استمرت لعدة أشهر، وتهدد بنسف جهود الوساطة ومحادثات السلام بين الجانبين، وهو ما ينذر بتأجيج المشهد، وعودة الحرب الشاملة مرة أخرى.
استئناف الصراع
عادت المعارك والمواجهات المسلحة بين جبهة تيجراي والقوات الإثيوبية، وهو ما يمكن تفصيله على النحو التالي:
1- انهيار الهدنة الهشة: أنهارت الهدنة التي استمرت لنحو خمسة أشهر في إقليم تيجراي، وذلك مع تصاعد الأعمال العدائية منذ 24 أغسطس 2022، وحتى الآن. وترتكز الاشتباكات بين الجانبين في محورين رئيسيين: أولهما، المناطق المتاخمة للحدود السودانية، حيث قامت القوات الحكومية بشن أربع هجمات موسعة ضد الجبهة، بيد أن الأخيرة تمكنت من صد هذه الهجمات حتى الآن، بل وعمدت إلى القيام بهجمات معاكسة ضد معسكرات للقوات الإثيوبية، في محاولة لفتح منافذ للإقليم على السودان.
أما ثانيهما، فيتمثل في القتال في جنوب إقليم تيجراي المتاخم لإقليم الأمهرة، إذ تمكنت جبهة تيجراي من التقدم داخل منطقة أمهرة، بعمق يصل إلى 50 كيلومتراً، حيث شهدت الأيام الأخيرة اندلاع معارك عنيفة في "جبال زبل" بجنوب شرق منطقة "كوبو" بإقليم الامهرة، إلى جانب تقدم عناصر تيجراي نحو منطقة العفر، بجنوب شرق تيجراي.
وأكدت جبهة تيجراي تمكنها من السيطرة على مساحات واسعة داخل إقليم الأمهرة، وإلحاق خسائر فادحة بالجيش الإثيوبي، حيث سيطرت الجبهة على 8 مدن داخل الإقليم، فيما أشارت تقارير غير مؤكدة إلى أن الجبهة تمكنت من تحقيق انتصار حاسم في معركة "كوبو" على قوة هائلة من الجيش الإثيوبي يتكون من 20 فرقة، وأن قوات تيجراي تمكنت من الاستيلاء على ترسانة هائلة من الأسلحة، فيما نفت أديس أبابا ذلك.
ومن ناحية أخرى، بدأت المدفعية الإريترية، في مطلع سبتمبر 2022، في إطلاق وابل من القذائف ضد جبهة تيجراي، بالتزامن مع رصد استعداد الجيش الإثيوبي لشن هجوم بري. كما أشارت تقارير أخرى إلى شن القوات الإثيوبية والأريترية هجوماً مشتركاً في منطقة أدايابو بشمال غرب تيجراي، من خلال أربعة محاور.
2- اتهامات متبادلة بخرق الهدنة: نفي الطرفان مسؤوليتهما عن استئناف الأعمال العدائية، حيث اتهمت الحكومة الإثيوبية جبهة تيجراي بانتهاك وقف إطلاق النار، فيما اتهمت الأخيرة القوات الإثيوبية ومقاتلي الأمهرة بشن هجوم مكثف في منطقة "ألاماتا" بجنوب تيجراي.
كما اتهمت أديس أبابا جبهة التيجراي بسرقة المساعدات الإنسانية، وذلك بعدما أشار برنامج الأغذية العالمي إلى أن قوات التيجراي سيطرت على 12 شاحنة تابعة لها تحتوي على 570 ألف لتر من الوقود الذي كان سيتم استخدامه لتوزيع المواد الغذائية.
3- اتهامات بتورط أطراف إقليمية: وجهت الحكومة الإثيوبية اتهامات لأطراف إقليمية بدعم تحركات جبهة تيجراي، فقد أعلن مستشار الأمن القومي لرئيس الوزراء الإثيوبي، رضوان حسين، أن قوات أديس أبابا أسقطت طائرة تحمل أسلحة لقوات تيجراي قادمة من الأجواء السودانية، وهي الادعاءات التي نفتها جبهة تيجراي عبر المتحدث الرسمي لها، غيتاتشو رضا، فيما استدعت الخرطوم السفير الإثيوبي للاعتراض على هذه التصريحات.
4- مناشدات دولية بوقف القتال: حذرت الخارجية الأمريكية من التداعيات الكارثية لعودة القتال، مطالبة بضرورة العودة للمفاوضات للوصول إلى وقف دائم لإطلاق النار. فيما دعا الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو جوتيريش، إلى ضرورة استئناف مباحثات السلام، بينما طالب رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي، موسى فكي محمد، إلى ضرورة خفض التصعيد واستئناف الحوار.
تفسيرات متعددة:
شهدت الأشهر الأخيرة مؤشرات إيجابية لتسوية الأزمة بين الحكومة الإثيوبية وجبهة تيجراي، أبرزها الهدنة المعلنة في مارس 2022، ووصول المساعدات الغذائية للمناطق المحاصرة داخل إقليم تيجراي، وإفراج أديس أبابا عن عدد من زعماء المعارضة التابعين للتيجراي، وانسحاب الجبهة من منطقة العفر، مما يثير تساؤلات بشأن أسباب عودة الصراع مرة أخرى، وهو ما يمكن عرضه على النحو التالي:
1- تعثر المبادرة الأمريكية – الكينية: شهدت الفترة الماضية مباحثات سرية بين الحكومة الإثيوبية وجبهة تيجراي في سيشل وجيبوتي، وتم الاتفاق خلالها على قيام القوات الإثيوبية برفع الحصار عن إقليم تيجراي، مع قيام أريتريا بسحب قواتها من شمال أثيوبيا، وأن يبدأ الجانبان محادثات شاملة بالعاصمة الكينية، وقد جاءت هذه اللقاءات في إطار المبادرة الأمريكية – الكينية لحلحلة الأزمة.
ويبدو أن هذه المباحثات انهارت بسبب اتهام الجبهة للحكومة الإثيوبية بالتخلي عن التزاماتها، فيما تنفي الأخيرة عقد أي اجتماعات مع الجبهة من الأساس، بينما التزم المبعوثون الدوليون الصمت إزاء هذه التصريحات المتضاربة.
2- حشود عسكرية متبادلة: شكلت الحكومة الاثيوبية لجنة السلام للتفاوض مع جبهة تيجراي، برئاسة نائب رئيس الوزراء، ديميكي ميكونين، وذلك بهدف التوصل إلى اتفاق دائم لوقف إطلاق النار، بيد أن هذه التحركات اتسمت بالبطء، كما أنها اقترنت بتحركات عسكرية لأديس أبابا لدعم تحركات ميليشيات الأمهرة.
وسبق تجدد القتال بين أديس أبابا وميكيلي تبادل الاتهامات بين الجانبين بشأن وجود تعبئة عسكرية لكل طرف استعداداً لشن هجمات مباغتة. وشهدت الأيام السابقة على اندلاع المواجهات بين الجانبين تعبئة عسكرية لقوات الأمهرة وميليشيات "فانو" إلى جانب عناصر الجيش الإثيوبي بمحيط بلدة "كوبو".
3- استمرار وجود القوات الاريترية والأمهرة: كانت المنطقة الغربية في إقليم تيجراي لا تزال تخضع لسيطرة قوات الأمهرة، حيث تسيطر الأخيرة على منطقة "ولقيت"، فيما تتمسك جبهة تيجراي باستعادة السيطرة على أراضي الإقليم كافة، ناهيك عن استمرار القوات الإريتيرية في شمال إثيوبيا، مما يزيد الحصار المفروض على إقليم تيجراي.
4- إشكالية الشروط المسبقة: تتمسك الجبهة بضرورة إعادة الخدمات الأساسية لسكان تيجراي، والتي لا تزال تعاني حالة من العزلة والحصار، حيث أشارت الأمم المتحدة إلى أن نحو 90% من السكان بحاجة حالياً إلى مساعدات، في الوقت الذي رفض فيه مستشار الأمن القومي في الحكومة الإثيوبية، رضوان حسين، ذلك متعللاً بأنها لن تستجيب لأي شروط مسبقة لبدء المحادثات.
5- الخلاف بشأن الوساطة: برز خلاف آخر بين ميكيلي وأديس أبابا بشأن الطرف المنوط به قيادة عملية الوساطة، حيث اعترضت جبهة تيجراي على تولي الاتحاد الأفريقي هذه المهمة، بسبب تحيزه لأديس أبابا، كما تعترض الجبهة على المبعوث الأفريقي، أولسيغون أوباسانجو، لاسيما بعد اقتراحه ضرورة انضمام إريتيريا إلى المفاوضات المقبلة بين الحكومة الإثيوبية والجبهة، فيما تطالب الأخيرة بضرورة الاعتماد على وساطة من الحكومة الكينية، إلى جانب القوى الدولية.
6- تدهور الأوضاع الإنسانية في تيجراي: أشار تقرير صادر عن برنامج الغذاء العالمي في أغسطس 2022، إلى أن نحو نصف سكان تيجراي، الذين يبلغ تعدادهم حوالي 5.5 مليون نسمة، يعانون سوء التغذية. ومن المتوقع أن ترتفع هذه النسبة حتى موعد الحصاد في أكتوبر 2022. ووصف رئيس منظمة الصحة العالمية، أدهانوم غيبريسوس، الوضع الانساني في تيجراي بأنه "أسوأ كارثة في العالم" في الوقت الراهن، لاسيما مع حالة الجفاف الحادة التي تعانيها إثيوبيا.
7- تراجع فاعلية الجهود الغربية: فشلت الجهود التي تبذلها الإدارة الأمريكية لتسوية الصراع في إثيوبيا، ففي مطلع أغسطس الماضي، بدأ المبعوث الأمريكي الجديد لمنطقة القرن الأفريقي، مايك هامر، إلى جانب مبعوث الاتحاد الأوروبي، أنيت ويبر، مساعي لتسهيل بدء المحادثات وعودة الخدمات الأساسية لمنطقة تيجراي، بيد أن هذه الجهود لم تسفر عن أي تقدم في هذا الشأن. واتهم المتحدث باسم جبهة تحرير تيجراي، غيتاشو رضا، المجتمع الدولي بعدم القدرة على ضبط التحركات الإثيوبية، في انتقاد واضح للدور الأمريكي.
8- قلق آبي أحمد من تصدع تحالفاته: يتخوف آبي أحمد، رئيس الوزراء الإثيوبي، من احتمالية تصدع تحالفاته التقليدية جراء أي محاولة للتفاوض مع جبهة تيجراي، وهو ما أعاد طرح الحل العسكري للواجهة من جديد، في ظل تمسك الأمهرة وإريتريا بعدم الحوار مع الجبهة، والإصرار على الحل العسكري لإضعافها.
مسارات محتملة:
في إطار التطورات الأخيرة، يمكن رصد جملة من المسارات المحتملة للصراع خلال الفترة المقبلة على النحو التالي:
1- تضييق الخناق على جبهة التيجراي: يمكن أن تتمكن القوات الإثيوبية وميليشيات الأمهرة والقوات الإريتيرية من محاصرة جبهة تيجراي عبر شن هجمات عليها من عدة جبهات، ما قد يشتت الجبهة. وتسعى القوات الإثيوبية وحلفاؤها لشن هجمات برية داخل إقليم التيجراي، في محاولة لإلحاق هزيمة ساحقة بالجبهة، بما يمكن أديس أبابا من فرض شروطها في أي حوار سلام مقبل.
وربما يتسق مع هذا الطرح وجود تقييمات تؤكد أن تلويح آبي أحمد بالتسوية السلمية للصراع خلال الفترة الماضية كان يستهدف بالأساس كسب الوقت لإعادة بناء قوات الجيش الإثيوبي، استعداداً لشن هجمات جديدة حاسمة ضد الجبهة.
2- اتساع نطاق الصراع: يستند هذا السيناريو إلى فرضية استمرار ضعف القدرات العسكرية الإثيوبية وعدم قدرتها على حسم المعركة بمفردها، وتمكن جبهة تيجراي من بناء قدراتها العسكرية خلال الفترة الماضية، خاصة أنها قامت بفرض التجنيد الجماعي وتخصيص الكثير من مواردها للتدريب واعادة التسليح، خاصة مع حصولها على صفقات تسليح جديدة من الخارج، ناهيك عن ترسانات الأسلحة التي كانت الجبهة قد غنمتها من الجيش الفيدرالي.
وبالتالي، يمكن في إطار هذه السياقات أن تشهد الأيام المقبلة توسيع نطاق المواجهات بين الجانبين، مع إمكانية انضمام بعض المجموعات لدعم جبهة تيجراي، على غرار جبهة تحرير غامبيلا وجيش تحرير أورومو في الصراع. وتشير تقارير محلية إلى أن جيش تحرير أورومو قد بدأ بالفعل في شن هجوم موسع على منطقة العفر، بالتنسيق مع جبهة تحرير تيجراي التي تهاجم المنطقة من الغرب، وهو ما يفتح الباب أمام تكرار تقدم جبهة تيجراي مرة أخرى نحو أديس أبابا.
3- حرب استنزاف: يقوم هذا السيناريو على إخفاق القوات الإثيوبية في حسم الصراع عسكرياً، وهو ما يؤدي إلى إطالة أمد الحرب مع عودة التعبئة العامة مرة أخرى، وتفاقم حالة الاستقطاب الداخلي وانخراط العديد من الأطراف الداخلية في الصراع، وهو ما يؤدي في النهاية إلى حرب استنزاف تفضي في النهاية للتوصل مرة أخرى إلى وقف إطلاق للنار.
وفي الختام، يبدو أن ثمة قناعة باتت راسخة لدى طرفي الصراع بأن الحل العسكري أضحى هو الحل للصراع، خاصةً أن الجانبين قد عمدا خلال الاشهر الماضية إلى استغلال وقف اطلاق النار لتعزيز قدراتهما العسكرية والاستعداد لجولة جديدة من الصراع، التي ربما يكون للعامل الخارجي دوراً محورياً بها، خاصة إذا ما صدقت الاتهامات الإثيوبية بتورط دول إقليمية في دعم جبهة تيجراي عسكرياً.