أخبار المركز
  • أسماء الخولي تكتب: (حمائية ترامب: لماذا تتحول الصين نحو سياسة نقدية "متساهلة" في 2025؟)
  • بهاء محمود يكتب: (ضغوط ترامب: كيف يُعمق عدم استقرار حكومتي ألمانيا وفرنسا المأزق الأوروبي؟)
  • د. أحمد أمل يكتب: (تهدئة مؤقتة أم ممتدة؟ فرص وتحديات نجاح اتفاق إنهاء الخلاف الصومالي الإثيوبي برعاية تركيا)
  • سعيد عكاشة يكتب: (كوابح التصعيد: هل يصمد اتفاق وقف النار بين إسرائيل ولبنان بعد رحيل الأسد؟)
  • نشوى عبد النبي تكتب: (السفن التجارية "النووية": الجهود الصينية والكورية الجنوبية لتطوير سفن حاويات صديقة للبيئة)

كوابح الداخل:

لماذا لا يستطيع النموذج الصيني فرض عولمة بديلة؟

06 سبتمبر، 2018


على مدار العقد الماضي تمكنت الصين من الحفاظ على وتيرة الصعود السريع لمكانتها الدولية من خلال معدلات استثنائية للنمو الاقتصادي، والتطور التكنولوجي، بالتوازي مع التوسع في الاستثمارات الصينية في مختلف أرجاء العالم، وتنفيذ مشروعات عالمية ضخمة، مثل "مبادرة الحزام والطريق" التي اعتبرها البعض "نسخة صينية جديدة من العولمة" وبداية هيمنة الصين على النظام الدولي.

وفي المقابل، فإن الصين تواجه عدة تحديات تهدد وتيرة صعودها، وتحد من قدرة بكين على القيام بالدور الذي انفردت به الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب الباردة حيث اعتمدت على الديمقراطية ورأسمالية السوق كداعمين أساسيين للعولمة ، وتتمثل أهم هذه التحديات في: تزايد ممارسات الفساد، وتدني مستوى الخدمات الأساسية، وتفاوت توزيع الدخول، وتهديدات أمن الطاقة، بالإضافة إلى تهديدات الاستقرار السياسي، واحتمالات التعرض لأزمات اقتصادية ممتدة.

تحديات الداخل:

لم يمنع تمكّن الصين من الحفاظ على النمو الاقتصادي المتسارع وتمدد أنشطتها الاقتصادية، من وجود تحديات داخلية اقتصادية واجتماعية وسياسية تتشابه مع تلك المنتشرة في الدول النامية بسبب اختلال توزيع عوائد التنمية، ويتمثل أهم هذه التحديات فيما يلي:

1- انتشار شبكات الفساد: يُعد الفساد على رأس التحديات التي تواجه النظام الصيني، ومن الجدير بالذكر أنه قبل الإصلاحات الاقتصادية التي جرت في الثمانينيات كان الفساد محدودًا نسبيًّا، لأن الحجم المحدود للسوق قيّد استشراء الفساد، بيد أنه مع الإصلاح الاقتصادي والانفتاح المتزايد للصين على العالم تزايدت نسب الفساد، وانتشرت كلمة (Guanxi) التي تعني بالصينية شبكات العلاقات بين الأفراد لتحقيق مصالحهم.

وقد يرجع انتشار الفساد إلى عدة أسباب، لعل من أبرزها عدم وجود مبدأ الفصل بين السلطات، فالقضاة يتلقون التوجيه من الحزب الحاكم والحكومة، كما أن الحكومات المحلية تُعيِّن القضاة وتقوم بدفع رواتبهم مما قد يدفعهم إلى اتخاذ قرارات متحيزة، ناهيك عن وجود معاملة تفضيلية لبعض الشركات المملوكة للدولة، وتسعى الصين لمواجهة هذه المشكلة، حيث إنها قد تؤدي إلى انخفاض معدلات النمو الاقتصادي في المستقبل. وفي هذا الإطار، تم الإعلان في ديسمبر 2012 عن "نظام النقاط الثمانية" الذي قدم مجموعة من الإرشادات الواضحة للحزب والمسئولين الحكوميين للقضاء على الفساد، كما تمت معاقبة ما يزيد عن 1.3 مليون شخص متورطين في قضايا فساد. كذلك تم التحقيق مع ما يزيد عن 70 ألف مسئول صيني في أكتوبر 2017. وفي مارس 2018 تم الإعلان عن إنشاء "هيئة الإشراف الوطنية" (NSC) بحيث تكون لها سلطات أعلى من المحكمة العليا، وتقوم بالإشراف على جميع الموظفين العموميين الذين يُمارسون السلطة العامة.

وعلى الرغم من كافة هذه الجهود، فإن نسب الفساد لا تزال مرتفعة بشكل كبير في الصين، فقد احتلت الصين المركز الـ77 وفقًا لمقياس الفساد الصادر عن منظمة "الشفافية الدولية" في عام 2017، وذلك بفارق مركزين فقط عن ترتيبها عام 2016، كما أنه في نهاية يوليو الماضي حدثت واقعة فساد كبرى هزت الثقة في الحكومة الصينية بأكملها، حيث تم إعطاء 360 ألف طفل لقاحات فاسدة ضد الدفتريا والسعال الديكي والتيتانوس، وأُعلن أن المسئول عن هذه الواقعة شركة لقاحات كبرى تُدعى "شانجشينج بيو تكنولوجي" (Changsheng Bio-Technology)، كما تم كشف النقاب عن أن الشركة نفسها باعت أكثر من 650 ألف لقاح لـ3 مقاطعات في الصين، مما أثار موجة غضب شعبي واسعة على وسائل التواصل الاجتماعي الصينية، وذلك بالرغم من الرقابة الشديدة التي تُمارَسُ على هذه الشبكات.

ولم تكن هذه هي قضية الفساد الأولى في القطاع الصحي، ففي عام 2008 تم الكشف عن إضافة مادة الميلامين إلى مسحوق حليب الأطفال، مما أدى إلى وفاة ستة أطفال وإصابة 300 ألف آخرين بالإعياء. وفي عام 2016 أيضًا تم الكشف عن قضية لقاحات أطفال فاسدة تسببت في مقتل عدد كبير من الأطفال في مقاطعة "شاندونج". وفي العام نفسه، تم اكتشاف أن الصين تستخدم في التطعيمات غير الإلزامية ملايين الجرعات المنتهية الصلاحية، أو أخرى يتم تخزينها بصورة سيئة.

2- ضعف الخدمات الأساسية: تواجه الصين ضعفًا واضحًا في الخدمات الأساسية وعلى رأسها المياه، حيث وصفها البنك الدولي بأنها "مشكلة ستكون لها عواقب كارثية على الأجيال القادمة في الصين"، كما أشار إلى أن ثلثي سكان الريف الصيني يعتمدون على المياه الملوثة، فحزام التصنيع الساحلي في الصين يتسبب في تلوث المياه، على الرغم من إغلاق آلاف المصانع الملوثة. كما أن معظم المناطق الريفية في الصين تفتقر إلى نظام لمعالجة مياه الصرف الصحي، ومع عدم إيجاد حل لهذه المشكلة وصل التلوث إلى المياه الجوفية، وتشير الإحصائيات إلى أن ما يقدر بحوالي 9% من المياه الجوفية في الصين لم تعد صالحة للاستخدام حتى لأغراض الصناعة والري.

3- تفاوت توزيع الدخل: على الرغم من انخفاض معدل الفقر في الصين من 10.2 % في عام 2012 إلى 3.1% في عام 2017، ليصبح بذلك أول بلد يستكمل الأهداف الإنمائية للألفية للأمم المتحدة، إلا أنه لا يزال هناك تفاوت شديد في مستوى الدخول بين طبقات المجتمع المختلفة، حيث يشير معامل جيني لقياس المساواة في الدخل إلى ارتفاع مستوى عدم المساواة إلى 0.465 عام 2016 بعدما كان يقدر بحوالي 0.462 في عام 2015. وتؤكد الأمم المتحدة أن تسجيل معامل جيني لمعدلات أعلى من 0.4 يعد علامة على تفاوت حاد في الدخول، كما أن البيانات الرسمية لمكتب الإحصاء الوطني الصيني تشير إلى أن متوسط دخل الفرد السنوي في الحضر يبلغ 33616 ألف يوان، أي أعلى بـ2.72 مرة من سكان المناطق الريفية الذين بلغ متوسط دخلهم السنوي 12363 ألف يوان. وقد توصلت دراسة أجرتها جامعة بكين عام 2016 إلى أن 25% من الأسر الصينية تمتلك 1% فقط من ثروة البلاد الإجمالية، في حين أن 1% من الشعب يملك ثلث الثروة.

ويرتبط ذلك بالتنمية غير المتوازنة بين المقاطعات الصينية، فالمقاطعات الأكثر فقرًا تقع في الغرب، وتقع المقاطعات الأوفر حظًّا من حيث مستوى التنمية في الشرق، وهو ما يؤدي إلى عدد من المشكلات من بينها الهجرة من الغرب للشرق للبحث عن فرص عمل بدخل أفضل، وهو ما يترتب عليه ضغط على البنية التحتية للمقاطعات الشرقية، فضلًا عن تزايد نسب التفكك الأسري بشكل كبير نتيجة اضطرار الوالدين للانتقال إلى المقاطعات الشرقية دون وجود فرص لنقل أبنائهم معهم.

4- تهديدات أمن الطاقة: تُعد الصين أكبر مستهلك للطاقة في العالم، فمنذ عام 2000 ازداد استهلاك الصين للطاقة بشكل كبير، ومن المتوقع أن يستمر في الارتفاع في العقود القليلة القادمة بسبب النمو الاقتصادي المستمر، وتشير إحصاءات وكالة الطاقة الدولية إلى أن استهلاك الطاقة في الصين قد ارتفع من 131 مليون طن من النفط المكافئ (Mtoe) في عام 1965 ليصل إلى 3014 مليون طن في عام 2015، وتكمن المشكلة الكبرى في اعتماد الصين بشكل مكثف على الفحم الملوث للبيئة. وصحيح أن الصين تحاول تقليل الاعتماد على الوقود القائم على الكربون، وخاصة الفحم، من خلال التوسع في استخدام الطاقة النظيفة، إلا أن هذا سيؤدي لتكبدها مبالغ ضخمة، حيث استثمرت ما يقدر بأكثر من 100 مليار دولار في الطاقة المتجددة المحلية، وهو الرقم الذي يعد ضعف مستوى الاستثمار الأمريكي في الطاقة المتجددة المحلية، وأكثر من الاستثمار السنوي المشترك للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، ومن ثم يمكن القول إن هذه التكلفة الكبيرة قد تحمل بعض الفرص في داخلها حيث ستؤهلها لممارسة دور قيادي على مستوى العالم في هذا الصدد.

تهديدات الصعود:

تنعكس التحديات الاقتصادية والاجتماعية سالفة الذكر على الدور العالمي للصين نتيجة تصاعد الضغوط الداخلية على النظام الصيني، والتي قد تدفع النظام الحاكم للتركيز على مواجهة المشكلات الداخلية وتحجيم مشكلات الداخل. وتتمثل أهم هذه الانعكاسات على الدور العالمي للصين فيما يلي: 

1- احتجاجات المجال الافتراضي: يستمد الحزب الشيوعي الصيني شعبيته من النمو الاقتصادي المتصاعد، بيد أنه مع تزايد فضائح الفساد التي أُثيرت مؤخرًا، وخاصة في قطاع الصحة، تزايدت حالة الغضب والاستنكار على مواقع التواصل الاجتماعي التي يعلم المواطنون أنها مراقبة من قبل الحكومة الصينية، ورصدت بعض الصحف بعض المنشورات الأكثر انتشارًا التي تعبر عن هذه الحالة من الغضب، ومنها على سبيل المثال: "كيف أثق في حكومة تعطي لقاحًا فاسدًا لأطفالنا؟".

2- تظاهرات المحاربين القدامى: تزايدت تظاهرات المحاربين القدامى في عام 2016 وأوائل عام 2017، حيث قام ما يزيد عن 1000 شخص من المحاربين القدامى بالاعتصام مرتين، المرة الأولى خارج مقر قيادة جيش التحرير الشعبي، والثانية خارج وكالة مكافحة الفساد التابعة للحزب، وذلك للتعبير عن سخطهم من أوضاعهم المعيشية المتردية، كما قام عدد من المحاربين القدامى بتنظيم تظاهرات في مايو 2018 احتجاجًا على احتجاز السلطات الصينية في بكين لزوجة أحد المحاربين التي انضمت للتظاهرات المطالبة بتحسين أوضاعهم المعيشية، كما خرج الآلاف منهم في تظاهرة في شرقي الصين للاعتراض على قيام السلطات المحلية بالاعتداء على أحد المحاربين القدامى عندما طلب المساعدة من الحكومة نتيجة تردي أحواله المعيشية.

3- تراجع الاستثمار الأجنبي: يؤدي انتشار الفساد إلى تراجع المستثمرين الأجانب عن ضخ مزيد من الاستثمارات في السوق الصينية بسبب تزايد مخاوفهم من المحاباة وانتشار الرشاوى وعدم وجود منافسة شريفة، وهو ما سيعرقل جهود النظام الصيني الرامية إلى زيادة نسبة الاستثمارات الأجنبية، والتحول من الاعتماد على التصدير إلى الاعتماد بشكل أكبر على الاستثمارات الأجنبية، وبالتالي إذا توقف التوسع في الاستثمار، فإن معدل النمو في الصين سيتباطأ بشكل كبير.

ويرى بعض المحللين أن الفساد لن يعوق معدلات تدفق الاستثمار الأجنبي في الصين، وذلك لأن حجم السوق الصينية ضخم للغاية، وهذه خاصية جذابة بالنسبة للعديد من المستثمرين، والدليل على ذلك هو البيان الصادر في أوائل عام 2018 من قبل وزارة التجارة الصينية الذي يفيد بأنه تم إنشاء 35.652 ألف شركة ذات تمويل أجنبي في الصين عام 2017، وذلك بزيادة 27.8٪ عن عام 2016. وبلغ الاستثمار الأجنبي المباشر في 11 منطقة للتجارة الحرة حوالي 16 مليار دولار أمريكي في عام 2017، إلا أن استمرار الفساد سيجعل من الصعوبة الاستمرار في تحقيق نفس المعدلات المرضية للنمو الاقتصادي وتدفق الاستثمارات بدون إجراء المزيد من الإصلاحات الهيكلية لنظام فرض الضرائب والمراقبة المالية للشركات.

ختامًا، يمكن القول إن تضخم مشكلات الفساد تتداخل مع التفاوت والاختلال الاقتصادي والاجتماعي الذي تعاني منه الصين، وتتحول من ثم إلى تحديات معقدة تؤثر على النموذج التنموي الصيني، وبالتالي إذا لم تقم الحكومة الصينية باتخاذ إجراءات حاسمة تجاه هذه المشكلات، ولا سيما الفساد، فإن الاقتصاد والمجتمع الصيني سيتعرض لعدة أزمات تحد من قدرة الصين على الهيمنة على النظام الدولي، لاسيما وأن نموذج الهيمنة الغربية وأن ظهرت فيه ثغرات متعددة إلا أن الشفافية وقدرته على التأقلم تساعد على الحد من التحديات التي تواجهه.