أخبار المركز
  • د. إبراهيم فوزي يكتب: (المعضلة الروسية: المسارات المُحتملة لأزمات الانتخابات في جورجيا ورومانيا)
  • إسلام المنسي يكتب: (جدل الوساطة: هل تخلت سويسرا عن حيادها في قضايا الشرق الأوسط؟)
  • صدور العدد 38 من دورية "اتجاهات الأحداث"
  • د. إيهاب خليفة يكتب: (الروبوتات البشرية.. عندما تتجاوز الآلة حدود البرمجة)
  • د. فاطمة الزهراء عبدالفتاح تكتب: (اختراق الهزلية: كيف يحدّ المحتوى الإبداعي من "تعفن الدماغ" في "السوشيال ميديا"؟)

مركزية ماكرون:

أربعة سيناريوهات لحل أزمة تشكيل الحكومة الفرنسية

27 أغسطس، 2024


منذ ظهور النتائج الرسمية للانتخابات التشريعية الفرنسية في 8 يوليو 2024؛ أي ما يقرب من الخمسين يوماً، تعيش البلاد دون حكومة رسمية تحظى بثقة الرئيس إيمانويل ماكرون والجمعية الوطنية (البرلمان). وقد اضطر ماكرون إلى قبول استقالة حكومة رئيس الوزراء، غابرييل أتال، في منتصف يوليو الماضي، وطلب منها البقاء كحكومة مكلفة بتسيير الأعمال حتى تشكيل حكومة جديدة.

وبدأ ماكرون يوم 23 أغسطس الجاري مشاوراته مع زعماء أحزاب سياسية مختلفة، في محاولة لإنهاء أزمة تشكيل الحكومة، لكن لم تؤد هذه المشاورات إلى أية نتائج ملموسة حتى يوم 26 أغسطس.

رؤية ماكرون:

لخص ماكرون رؤيته لتشكيل الحكومة الجديدة وتسمية رئيسها، في خطابه الموجه إلى الأمة الفرنسية والناخبين، في يوليو الماضي، بعد ظهور نتائج الانتخابات التشريعية. وأكد خلاله استبعاد تشكيل أية حكومة لا تستند إلى أغلبية في الجمعية الوطنية؛ لأنه لم تحصل أي قوة سياسية على الأغلبية الكافية، وأن الكتل والتحالفات كافة التي أسفرت عنها هذه الانتخابات هي "أقليات"، وطالب القوى السياسية ونوابها في الجمعية الوطنية بتشكيل "أغلبية قوية متعددة للبلاد".

جدير بالذكر أنه وفقاً للانتخابات الأخيرة، تتشكل الجمعية الوطنية من أضداد بين اليسار (193 نائباً)، والمعسكر الرئاسي واليمين الجمهوري (166)، واليمين المتطرف (142)؛ ما يصعب معه تأمين أغلبية من 289 مقعداً.

والمعنى الظاهر هنا أن الرئيس الفرنسي يرفض بوضوح تسمية رئيس للحكومة وتشكيلها من "الجبهة الشعبية الجديدة" أو من التيار الذي ينتمي إليه ماكرون مع اليمين الليبرالي الجمهوري والذين لا يمتلكون بدورهم أغلبية.

من ناحية أخرى، يطالب ماكرون بتشكيل تحالف يشمل على الأقل 289 نائباً في الجمعية الوطنية، يساندون الحكومة المقبلة. ولم يحدد الرئيس الأحزاب التي يجب أن تشكل هذه الجبهة، ولكنه في المقابل أوضح المعايير التي ينبغي أن تتوفر لمثل هذا التحالف، ومن بينها الاعتراف بالمؤسسات الجمهورية ودولة القانون والحياة البرلمانية والتوجه الأوروبي والدفاع عن استقلالية فرنسا.

وأشار ماكرون إلى أنه ينتظر تشكيل هذا الائتلاف دون أن يحدد تاريخاً معيناً، وحتى هذه اللحظة فإن الحكومة الحالية تقوم بتصريف الأمور. وأشاد الرئيس الفرنسي بموقف الناخبين الذين استبعدوا اليمين المتطرف، كما أوضح أنه ليس من الممكن أن يشكل حكومة من تيار واحد نجح بمساعدة ناخبين من منافسيه السياسيين.

ويرى ماكرون أن نتائج الانتخابات التشريعية تشير إلى ضرورة التغيير وتقسيم السلطة؛ وهو ما يؤكد الحاجة إلى التوافق، كما أنه ليس بمقدور أي قوة سياسية أن تنفذ برنامجها كاملاً. واعتبر ماكرون أنه ضامن المصلحة الوطنية، ومن صلاحياته الحفاظ على مؤسسات الجمهورية، وأنه على القوى السياسية أن تأخذ الوقت اللازم وضرورة التوافق والائتلاف، للحفاظ على القيم الجمهورية والاستجابة لتطلعات الناخبين وإعلاء مصلحة الأمة فوق المصالح الحزبية، وأن الوقت قد حان لتشكيل ثقافة سياسية جديدة؛ يقصد بها ثقافة الائتلاف والتحالف، التي طبقتها العديد من الدول الأوروبية وسبقت فرنسا في هذا المجال.

ولا شك أن ثمة العديد من المعاني والرسائل المتضمنة في تصريحات ماكرون، والموجهة للقوى السياسية الفرنسية؛ إذ يتمثل أولها في أن مكانة الرئيس في النظام السياسي المنبثق عن الجمهورية الخامسة لا تزال كما هي؛ أي كضامن لعمل المؤسسات وراعٍ للمصلحة الوطنية وحكم بين السلطات، وأن هذه المكانة لم تتأثر بخسارة معسكره للأغلبية المطلقة، وبذلك يؤكد ماكرون مركزية ومحورية مكانته في قلب الحياة السياسية. 

أما ثاني هذه المعاني، فهو أن ماكرون يريد من خلال تشديده على الأغلبية المستقرة والمتعددة وأن أياً من الكتل البرلمانية لم يفز بأغلبية مطلقة، تأكيد ضرورة التوصل إلى حل وسط وتجنب تمسك كل معسكر ببرنامجه كاملاً؛ وهو ما يعني أن الرئيس الفرنسي يريد الحفاظ على ما يراه إنجازاً كبيراً لولايته الثانية؛ أي عدم إلغاء قانون التقاعد، والإبقاء على الضرائب كما هي دون ارتفاع. وهي رسالة موجهة بصفة خاصة إلى حزب "فرنسا الأبية" الذي يتصدر "الجبهة الشعبية الجديدة"، والذي يتضمن برنامجه إلغاء قانون التقاعد، ورفع الضرائب بالذات على أصحاب الثروات الكبيرة، وزيادة الحد الأدنى للأجور؛ وهو ما لا يريده ماكرون في إطار سياسته النيوليبرالية والإصلاحية المطبقة.

من ناحية أخرى، وعلى الرغم من مركزية الرئيس الفرنسي وصلاحياته في تسمية رئيس الحكومة؛ فإنه جعل منها مهمة مشتركة بينه وبين القوى البرلمانية والسياسية؛ فهو مستعد لتعيين رئيس الحكومة، وعبء تشكيل الأغلبية المطلقة يقع على عاتق هذه القوى الممثلة في الجمعية الوطنية؛ خاصةً أنه من الناحية الدستورية تكون الحكومة مسؤولة أمام الرئيس والجمعية الوطنية.

انتقادات التأخير:

تخللت الفترة اللاحقة على إجراء الانتخابات التشريعية في فرنسا، ما سُميت بـ"هدنة الألعاب الأولمبية"؛ أي تأجيل اختيار رئيس الحكومة إلى ما بعد انتهاء الدورة الأولمبية. ولكن فوجئ الناخبون والقوى السياسية باستمرار تأجيل تسمية رئيس الحكومة بالرغم من ترشيح "الجبهة الشعبية الجديدة"، الحائزة على أعلى عدد من المقاعد في الجمعية الوطنية، لوسي كاستيه، لشغل هذا المنصب، وذلك بتوافق القوى السياسية المنضوية تحت لواء هذه الجبهة (الحزب الاشتراكي والخضر وفرنسا الأبية والحزب الشيوعي). إلا أن الرئيس الفرنسي طالب بتغيير مرشح "الجبهة الشعبية الجديدة".

وتعرض موقف ماكرون لانتقادات عديدة، خاصةً من قِبل حزب "فرنسا الأبية" اليساري الراديكالي، الذي يعتقد زعيمه جان لوك ميلانشون أن "الجبهة الشعبية الجديدة" أحق باختيار مرشحها لرئاسة الحكومة؛ بسبب مكانتها المتقدمة في نتائج الانتخابات؛ بل وهدد بالبدء في إجراء إقالة الرئيس ماكرون وفقاً للمادة 68 من دستور الجمهورية الفرنسية؛ وهي المادة التي تحدد إجراءات إقالة الرئيس في حالة تخليه عن أداء واجباته الدستورية وتعطيل عمل المؤسسات. ولم يحظ هذا الاقتراح بموافقة حلفاء "فرنسا الأبية" من الاشتراكيين والخضر وغيرهم؛ إذ رفضوا ذلك ولم ينضموا إلى تلك الدعوة؛ بل اعتبروا أن الحديث عنها يضر بموقف مرشحتهم لشغل منصب رئيس الوزراء.

ويفتقر التهديد بإقالة ماكرون إلى الواقعية؛ لأن مثل هذا الإجراء، فضلاً عن أنه لم يحظ بموافقة الشركاء في "الجبهة الشعبية الجديدة"؛ فإنه كذلك يفترض الحصول على موافقة ثُلثي أعضاء البرلمان (الجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ). كما أنه من الناحية الدستورية والقانونية لا يلتزم الرئيس بتعيين شخص معين مرشح من قِبل القوى السياسية الأخرى؛ إذ إن صلاحياته في تعيين رئيس الحكومة تتوقف على تقديره للمصلحة العامة، حتى في حالة اتفاق الأغلبية الفائزة في الانتخابات على ترشيح شخص بعينه.

من ناحية أخرى، ووفقاً لنتائج استطلاع رأي أُجري في 21 أغسطس 2024 على عينة من الناخبين تجمع بين فئات مختلفة في العمر والحالة المهنية، أيد 54% منهم ضرورة أن يقوم ماكرون بتعيين رئيس للحكومة حتى دون انتظار تشكيل الأغلبية المطلوبة، في حين أيد 39% منهم انتظار ماكرون تشكيل هذه الأغلبية قبل تسمية رئيس الحكومة. 

بالإضافة إلى ذلك، ثمة انتقادات من بعض أعضاء اليمين الجمهوري لماكرون، بشأن عدم تسمية رئيس الحكومة؛ بحجة توفير أغلبية مطلقة لها. وفي نظر هؤلاء، فإن تأخير تشكيل الحكومة لا يضمن بالضرورة توفير أغلبية لها، ويلمّحون إلى أنه يكفي قيام ماكرون بالحل المفاجئ للجمعية الوطنية، وهم ليسوا بحاجة إلى تأخير تشكيل الحكومة وتحمُل مفاجآت أخرى. كما أنه يمكن لأعضاء الجمعية الوطنية تفهُّم الحاجة الوطنية لحكومة أقلية، ومنحها فرصة البقاء؛ نظراً لاقتراب موعد إقرار الميزانية الجديدة في الأول من أكتوبر المقبل والوفاء بالوعود الفرنسية للاتحاد الأوروبي بخفض العجز، وهي استحقاقات لا يمكن تجاوزها أو تأخيرها.

سيناريوهات الحكومة:

يربط ماكرون تسمية رئيس الحكومة بالمفاوضات والمشاورات التي قرر عقدها مع الكتل البرلمانية المختلفة بدايةً من يوم 23 أغسطس الجاري، ومن المتوقع أن يصدر قرار تسمية الحكومة بعد هذه المشاورات، ولم يتم تحديد موعد أو تاريخ لهذا القرار. وفي ضوء التعقيدات والمشاورات والتوازنات السياسية التي كشفت عنها أزمة تشكيل الحكومة الفرنسية المقبلة، يمكن تصور سيناريوهات هذه الحكومة كالتالي:

1- حكومة ائتلافية مستقرة: يمكن أن تسفر المشاورات بين الرئيس ماكرون والقوى السياسية، عن تشكيل أغلبية واضحة ومستقرة للحكومة؛ بحيث لا تسقط في أول تصويت برلماني لحجب الثقة، كما يريد الرئيس، وأن تكون هذه الأغلبية متعددة وتسترشد بالمبادئ العامة التي حددها ماكرون. وقد يبدأ تشكيل هذه الحكومة باختيار الرئيس لشخص يحظى بثقة الأطراف كافة وقادر على قيادة مفاوضات تكوين هذه الأغلبية، وثمة مرشحون كُثر لتولى هذا المنصب من الوسط واليمين.

2- حكومة أقلية: في حالة الفشل في تكوين أغلبية مستقرة تضمن استمرار الحكومة القادمة في عملها، قد يكون ثمة احتمال لتشكيل حكومة أقلية من معسكر ماكرون واليمين الجمهوري، وسوف تلجأ هذه الحكومة للمادة 49.3 من الدستور لإقرار أي تعديلات مهمة دون التصويت عليها في الجمعية الوطنية. وفي جميع الأحوال، فإن هذا السيناريو يبدو الأقل احتمالاً؛ لأنه لا يضمن الاستقرار الذي ينشده ماكرون، فضلاً عن تجاهله لإرادة الناخبين الذين يريدون أغلبية متعددة الأوجه.

3- حكومة تكنوقراط: يمكن تشكيل حكومة فرنسية من الخبراء وكبار البيروقراطيين غير المنتمين للقوى السياسية، وهو احتمال ليس مستبعداً، وإن كان غير مؤكد؛ نظراً لأنه سيكون بمثابة إعلان عن إفلاس الطبقة السياسية وعجزها عن حل المشكلات القائمة، والتي تتعلق بتشكيل أغلبية قوية، وعدم التمسك ببرامجها السياسية، والعجز عن توفير حلول وسط تحفظ التوازن والاستقرار وتحقق رغبات الرئيس ورغبات المواطنين على حد سواء.

4- حكومة تصريف أعمال: هذا الاحتمال غير مرجح، ويتعلق باستمرار حكومة تصريف الأعمال لمدة عام من ظهور نتائج الانتخابات التشريعية، حتى يقرر ماكرون حل الجمعية الوطنية مرة أخرى، بما أنه لا يحق له حل هذه الجمعية الآن. ووفقاً للدستور الفرنسي؛ فإنه لم يُحدد مدة معينة لاستمرار عمل مثل هذه الحكومة؛ إذ قد تمتد لأسابيع أو شهور أو أكثر من ذلك. لكنها ستبقى حكومة محدودة الصلاحية، لا تسن قوانين جديدة، ولا تستطيع إقرار الميزانية. 

وضع جديد:

على أية حال؛ فإن هذه الاحتمالات لا يمكن الجزم بتحقق أي منها؛ لأن الوضع الفرنسي معقد، والطبقة السياسية تتناقض في أفكارها وبرامجها. كما أن هذا الوضع يُعد جديداً وغير مألوف في الحالة الفرنسية؛ إذ إن دستور الجمهورية الخامسة تم تصميمه على أساس الانقسام بين اليمين واليسار في ذلك الوقت وقدرة أي منهما على الحصول على الأغلبية المطلقة اللازمة لحكم البلاد. ولكن هذا الوضع طرأ عليه تغير كبير؛ يستلزم أساليب وإجراءات مختلفة، قد تتعلق بنظام الانتخابات أو مكانة الرئيس في الحياة السياسية. وهذه قضايا مؤجلة خلال المرحلة الراهنة التي يستحوذ فيها تشكيل الحكومة على اهتمامات النخبة والجمهور.

من ناحية أخرى، كشفت الأزمة الراهنة عما يُسمى بـ"توازن الضعف" الذي وصف به الفقيه الدستوري الفرنسي، موريس دوفرجيه، التعايش بين اليمين واليسار منذ النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي، وتبادل المواقع بينهما في الحكومة والرئاسة. وتوازن الضعف الحالي ناجم عن ضعف الأحزاب الفرنسية وتضاؤل أهميتها، وتراجع تأثير التنظيمات النقابية، وتطبيق سياسات الإصلاح النيوليبرالي، وظهور ما يسميه البعض بـ"الأيديولوجية الرخوة"؛ أي تلك التي لا تعبأ بالفوارق بين اليمين واليسار، وتركز على الكفاءة في إدارة الموارد وحقوق الإنسان وسيادة النموذج الليبرالي. بالإضافة إلى ذلك؛ فإن دستور الجمهورية الخامسة يجعل الحكومة محور تجاذب بين الجمعية الوطنية والرئيس، فهي مسؤولة أمام كليهما وعليها ألا تفقد ثقة الطرفين، ولا تستطيع الحفاظ على هذا التوازن في ظل استمرار غياب الأغلبية اللازمة لاستقرارها وممارسة عملها.