أخبار المركز
  • فعاليات وإصدارات متنوعة لمركز "المستقبل" في معرض "القاهرة الدولي للكتاب" 2025
  • د. محمد بوشيخي يكتب: (سيناريوهان متعارضان: مستقبل داعش في سوريا بين التراجع أو المواجهة)
  • د. أحمد قنديل يكتب: (تعايش أم صدام؟! الترامبية الجديدة ومستقبل العلاقات الأمريكية الصينية)
  • صدور العدد السابع من "التقرير الاستراتيجي" بمشاركة أكثر من 30 خبيراً
  • إبراهيم الغيطاني يكتب: (ملاعب بيئية: فرص انتشار الطاقة المتجددة في صناعة الرياضة)

سيناريوهان متعارضان:

مستقبل داعش في سوريا بين التراجع أو المواجهة

28 يناير، 2025


بعد السقوط المفاجئ لنظام بشار الأسد في سوريا، ودخول البلد مرحلة حساسة من تاريخها الحديث منذ انطلاق احتجاجات 2011؛ اتخذت خريطة النفوذ، لأول مرة منذ نحو خمس سنوات، شكلاً جديداً حمل هيئة تحرير الشام إلى الإحلال محل النظام المنهار، فيما صارت قوات سوريا الديمقراطية "قسد" تصارع من أجل البقاء كجناح عسكري للإدارة الذاتية الكردية، تحت وطأة التهديدات التركية وحليفها الجيش الوطني السوري. فيما التزم تنظيم داعش طيلة هذه الفترة موقفاً "مزدوجاً"، اتسم على مستوى الخطاب بتصعيد التهديد، وعلى المستوى العملي بالتزام سقف منخفض. ويبقى السؤال؛ كيف يقرأ تنظيم داعش التطور الحاصل في منظومة الحكم في سوريا؟ وما السيناريوهات المُحتملة لشكل تفاعله مع مستجداتها؟

تحولات داعش: 

شكّل التدخل الأمريكي في العراق عام 2003 لإنهاء حكم صدام حسين بداية لانطلاق حرب طويلة الأمد ضد التنظيمات الجهادية ممثلة في "قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين"؛ فرع تنظيم القاعدة في العراق بقيادة أبو مصعب الزرقاوي الذي قُتل في يونيو 2006، وكان حينها التنظيم مسيطراً على ربوع واسعة في العراق شجعته على إعلان ما يُسمى "دولة العراق الإسلامية" في إبريل 2006. وبعد تفجر الأوضاع الأمنية في سوريا، قرر التنظيم الزحف على أراضٍ في الداخل السوري، فأعلن ما يُسمى بـ"الدولة الإسلامية في العراق والشام" في إبريل 2013، بقيادة أبو بكر البغدادي، وصار من حينها يُعرف باسمها المختصر "داعش".

بيد أن أبو محمد الجولاني (أحمد الشرع)، زعيم جبهة النصرة وممثل أبو بكر البغدادي في الجزء السوري من "الدولة" المُعلنة، قرر فك ارتباطه بتنظيم البغدادي والالتحاق بجماعة القاعدة عبر أداء ولاء البيعة لزعيمها أيمن الظواهري في إبريل 2013، فيما قرر التنظيم المُضي قدماً في بسط نفوذه وفرض قراره على من خالفه وعاداه، معلناً "الجهاد المسلح" ضد أتباع الجولاني في مختلف المدن السورية. كما أعلن تنظيم البغدادي ما يُسمى "الخلافة الإسلامية"، حسب مفهومه لأحكام السياسة الشرعية، في يونيو 2014، لنزع الشرعية عن كل تنظيم لا ينضوي تحت سلطة البغدادي.

لكن التحرك الدولي الحثيث الذي تُوج بإقامة "التحالف الدولي لمحاربة داعش" في سبتمبر 2014، سرعان ما قضى على مشروع "دولة الخلافة"؛ حيث أعلن العراق في ديسمبر 2017 طرد تنظيم داعش من أراضيه، وفي مارس 2019 أعلنت القوات الأمريكية وحليفتها "قسد" عن طرده من بلدة الباغوز؛ آخر معاقله في سوريا. وبهذا فقد تنظيم داعش سيطرته المكانية، ودخل مرحلة جديدة من المعارك عبر خلايا متفرقة ونشيطة اتسمت بعمليات الكر والفر أو ما يُعرف في الأدبيات الجهادية بـ"الشوكة والنكاية". وتركزت هذه العمليات، التي استهدفت إثبات الوجود وتحصيل الموارد، في البادية الخاضعة لسيطرة النظام السوري السابق، ومواقع محدودة في مناطق نفوذ "قسد". فيما نجحت هيئة تحرير الشام في إبعاد داعش من مواقعها وتأمين نفسها من اختراقاته، وإن عادت لترديد اسمه في إبريل 2024 حين اتهمته باغتيال أبو ماريا القحطاني، أحد أبرز قياداتها، بمناطق سيطرتها في محافظة إدلب. 

لذلك ظل تنظيم داعش خلال هذه الفترة عُرضة لضربات نظام الأسد، مدعوماً بقصف الطيران الروسي من جهة ولحملات "قسد" وحلفائها في التحالف الدولي من جهة أخرى؛ وكانت الحصيلة استنزافاً كبيراً لقدراته، فقد معه أربعة من زعمائه في غضون أربع سنوات فقط، أولهم أبو بكر البغدادي في أكتوبر 2019 وآخرهم أبو الحسين الحسيني القرشي في إبريل 2023. 

لكن التحول الجيوسياسي المهم الذي حصل بعد 7 أكتوبر 2023، وامتداد تداعياته لتعم المنطقة؛ حمل مستجدات أثرت في قدرة القيادة الإيرانية على الحفاظ على موازين القوى بالإقليم، وأثرت في توازنات المشهد السوري بعد دخول حزب الله اللبناني في حرب شاملة ومباشرة مع إسرائيل؛ الأمر الذي استغلته المعارضة السورية ممثلة أساساً في هيئة تحرير الشام بقيادة زعيمها أحمد الشرع، للزحف إلى دمشق التي سيطرت عليها بعد نحو 12 يوماً فقط، حيث أجبرت بشار الأسد على الهروب إلى موسكو في 8 ديسمبر 2024. 

ودفعت هذه التطورات تنظيم داعش إلى استشراف انعكاسات التطورات المتسارعة والعميقة على مستقبله، بعد أن صارت هيئة تحرير الشام، المتهمة من قيادات داعش بقتل زعميه الرابع، قوة محورية في سوريا ومركز اهتمام إقليمي ودولي لضمان الانتقال السياسي وخاصةً لتشديد الحرب على الإرهاب؛ لذلك فإن أهم مستجد بالنسبة لداعش خلال المرحلة المقبلة سيتمثل في تصميم التحالف "الـهجين"، المشكل من الفصائل المحلية والقوى الإقليمية والدولية، على استئصاله.

محددات السيناريوهين:

وجد تنظيم داعش نفسه أمام تغيير مفاجئ لخريطة النفوذ في سوريا، وإجماع داخلي وخارجي على توفير الشروط لإعادة إعمار البلاد؛ ما يعني جعل مكافحته على رأس الأولويات؛ ومن ثم سيكون أمامه الحسم بين سيناريوهين متعارضين، أولهما سيناريو "الحشد والمواجهة" الذي يراهن على احتفاظ التنظيم بموقع قدم في سوريا وتغذية أمله بالانتقال من مرحلة "الشوكة والنكاية" إلى مرحلة "التمكين" لاستعادة "خلافته" المزعومة، والثاني سيناريو "التراجع والمغادرة" الذي يراهن على مراعاة داعش لحجم التغيير الحاصل وإمكانية خضوع سوريا لسلطة مركزية واحدة مدعومة إقليميا ودولياً؛ ومن ثم تجنب أي مواجهة غير متكافئة تقضي على وجوده.

1- سيناريو "الحشد والمواجهة": يرتكز هذا السيناريو على مجموعة من المؤشرات والمعطيات، يمكن توضيحها على النحو التالي:

أ- صعوبة الانتقال السياسي: تواجه سوريا تعقيدات ربما تعرقل مسارها نحو إنجاح الانتقال السياسي وبناء دولة المؤسسات؛ نظراً للارتباطات التنظيمية السابقة لهيئة تحرير الشام بالقاعدة وأيديولوجيتها، وصعوبة تعميم نموذج مذهبي واحد على الواقع الطائفي للمجتمع السوري، وكذلك احتمالية تعزيز الشرع سلطته بقرارات من شأنها أن تثير حفيظة المعارضة المدنية وتشجع باقي الفصائل على التمسك بأسلحتها. وهكذا قد يؤدي انعدام الثقة إلى إرباك المرحلة الانتقالية في سوريا؛ الأمر الذي ربما يساعد تنظيم داعش على إيجاد بيئة ملائمة لتجميع قوته، بحشد عناصره في دول الجوار على الجبهة السورية، والتهيؤ لمواجهة المعارك المُحتملة باستقطاب الشباب الغاضب.

ب- تصاعد عمليات داعش: رفع تنظيم داعش، خلال عام 2024، عملياته بشكل ملحوظ في سوريا؛ إذ بلغت 491 عملية، حسب المرصد السوري الذي أشار في 30 ديسمبر الماضي إلى استغلال داعش للاضطرابات السياسية والعسكرية لتحقيق أهدافه وإعادة تنظيم صفوفه. فيما قدَّر مركز "صوفان"، في 18 ديسمبر الماضي، تضاعف هجمات داعش في سوريا ثلاث مرات مقارنةً بعام 2023. هذه التقديرات تعزز تفسير القيادة الأمريكية، في 17 يوليو الماضي، لتبني داعش 153 هجوماً في العراق وسوريا خلال النصف الأول فقط من 2024، بسعي التنظيم إلى مضاعفة عدد هجماته التي أعلنها في 2023، معتبرة الزيادة في الهجمات مؤشراً على محاولته "إعادة تشكيل نفسه بعد عدة سنوات من انخفاض قدراته".

وبالنظر إلى الخط التصاعدي لهذا النشاط وفي ظل ظروف أمنية مريبة؛ فإن تنظيم داعش قد يكون قادراً على زيادة عملياته والتصدي لهيئة تحرير الشام، مستغلاً في الوقت ذاته، حداثة تجربتها في الحكم وإنهاكها بالضربات المباغتة لإثارة مشاعر انعدام الأمن، في أفق تشتيت جهودها وتأليب الفصائل والشعب السوري ضدها.

ج- قابلية "التخادم": بالرغم من تشدد تنظيم داعش في قناعاته الأيديولوجية؛ فإنه أظهر في أكثر من مناسبة مرونة ميدانية بإجازة "التخادم" مع أعداء أعدائه، بغض النظر عن انتماءاتهم العقدية والمذهبية؛ وهو ما حصل بين زعاماته في سوريا وعناصر من حزب الله اللبناني والحرس الثوري الإيراني؛ ومن ثم فإن استمرار الاستقطاب الإقليمي والدولي في سوريا من شأنه أن يُبقي داعش كورقة للتوظيف في يد الخاسرين من التطورات الأخيرة لإعادة تشكيل التوازنات بالساحة السورية. والأمر هنا لا يقتصر على إيران؛ إذ يُحتمل إقبال "قسد"، في حال تعرض مناطق سيطرتها لتدخل عسكري تركي، على رفع رقابتها عن السجون والمخيمات التي تحوي 9 آلاف معتقل داعشي و40 ألفاً من أقاربهم، مقابل قيام التنظيم بـ"أدوار وظيفية" ضد تركيا التي أعلنت قتل زعميه الأخير واعتقلت المئات من عناصره خلال السنوات الأخيرة؛ وهو الأمر الذي يتيح لداعش هامشاً للمناورة وفرصاً للحشد والمواجهة.

2- سيناريو "التراجع والمغادرة": يقوم هذا السيناريو على قراءات مناقضة للمعطيات السابقة تجعل تنظيم داعش يراهن على التخفي وإيجاد ملجأ بديل لضمان بقائه، حيث يُرجحه ما يلي:

أ- دعم الانتقال السياسي: تلقى سوريا الجديدة اهتماماً إقليمياً ودولياً يسهم في تحفيز الفصائل على تسليم أسلحتها والتحول إلى أحزاب سياسية تتنافس على السلطة ببرامج انتخابية؛ إذ إنه ليس من مصلحة الغرب وتركيا فضلاً عن الدول العربية وحتى إسرائيل انهيار أسس السلم في سوريا وانعطافها نحو الفوضى. 

فالغرب يريد شرق أوسط جديد تكون فيه اليد الطولى لإسرائيل؛ وهو ما تحقق أهم شروطه برحيل نظام الأسد؛ ومن ثم سيسعى إلى التهدئة لتجنب خلط الأوراق لصالح إيران وروسيا؛ لذلك بادرت القوات الأمريكية، التي رفعت عددها من 900 إلى 2000 حسب ما أعلنته في ديسمبر الماضي وسط مؤشرات على سعيها لخلق تمركز عسكري في عين العرب، بقصف مواقع لتنظيم داعش عقب سقوط النظام، توجت في 20 ديسمبر الماضي، بقتل زعيمه في سوريا، تلتها عمليات فرنسية في 31 ديسمبر. أما تركيا فلن تتردد في ترجيح التفاوض مع الولايات المتحدة بشأن نزع سلاح "قسد"، وأن تكون أنقرة المحاور الموثوق للسلطة الحالية في دمشق والشريك النافذ في تأمين البلاد من الإرهاب. في حين ستدعم الدول العربية المرحلة الانتقالية في سوريا لمزاحمة المشروعات الأجنبية ومحاورة قيادتها الجديدة لإعادتها للصف العربي.

ب- نسبية التقارير حول داعش: بغض النظر عن مصداقية التقارير التي تحدثت عن ارتفاع عمليات داعش خلال عام 2024؛ فإنه لا يمكن البناء عليها للحكم على مستقبله، ما دام الارتفاع المسجل صادف المرحلة الأكثر عنفاً في تاريخ المنطقة الحديث جراء الحرب الإسرائيلية على غزة وامتداداتها الإقليمية؛ الأمر الذي وفر للتنظيم فرصة لمضاعفة جهوده القتالية من أجل تحقيق طموحه بالسيطرة على جزء من الأراضي السورية لأول مرة منذ طرده من الباغوز عام 2019.

كما أن التقارير الأمنية تُحاط بملابسات تفرض التعامل معها بـ"نسبية"؛ لهذا أخفقت في تقدير حجم الاختلال في موازين القوى عقب الضربات الإسرائيلية ضد جيش النظام السوري، ولم تتوقع سيطرة هيئة تحرير الشام على البلاد، فضلاً عما يروجه البعض من احتمال توظيف الأرقام لخدمة قرارات سياسية معينة كتبرير استمرار الوجود الأمريكي. ويُضاف إلى ذلك، خبرة السلطة الجديدة في دمشق في التعامل مع داعش والدعم الإقليمي والغربي لها؛ الأمر الذي يعينها على رصد ومتابعة تحركات التنظيم مثل إحباطها محاولة تفجير مقام السيدة زينب جنوب دمشق في 11 يناير 2025.

ج- تجنب المعارك الخاسرة: استفاد تنظيم داعش، خلال السنوات الماضية، من توزع النفوذ في سوريا بين القوى المتصارعة؛ الأمر الذي أتاح له فرصاً لـ"التخادم" مقابل تحصيل الدعم من جهة أو أخرى، بما يسمح له بالتطلع للسيطرة على الأرض مجدداً والترويج في دعايته بأن خلافته المزعومة "باقية وتتمدد"؛ وهو الأمر الذي صار أصعب في ظل وجود سلطة مركزية ممثلة في هيئة تحرير الشام، تسعى لإحكام قبضتها على سوريا، ووجود مؤشرات على تفاعل إقليمي ودولي متزايد لصالحها، وذلك بشكل يُذكر بتجربة العراق الذي نجح في تأمين أراضيه بعد أن حقق توافقات سياسية وحشد دعماً دولياً لها. 

ومن ثم لم يعد من مصلحة تنظيم داعش، في ظل غياب حوافز فعلية، ولاسيما أمام جهود واشنطن لإعادة أعضاء التنظيم المحتجزين بالمخيمات السورية إلى بلدانهم، الدخول في معارك خاسرة مسبقاً، يكون أقصى ما تحققه خدمة طرف ضد آخر.

ويُرجح سيناريو "التراجع والمغادرة" الذي وجد مصداقيته في أفغانستان بعد سيطرة حركة طالبان على كابول في 2021، خلافاً للقراءات التي كانت ترجح عودة قوية لداعش خراسان؛ ومن ثم، ما لم يتحقق أحد سيناريوهات "البجعة السوداء" مثل شيوع الانشقاقات داخل هيئة تحرير الشام؛ فإن تنظيم داعش لن يستطيع حشد عناصره بسبب التطويق الأمني لحدود سوريا خاصةً مع العراق الذي أرسل وفداً أمنياً إلى دمشق، كما يُستبعد مبادرة التنظيم بالمواجهة بالرغم مما قِيل عن حيازته لما تبقى من أسلحة النظام السابق والجماعات الإيرانية، لوعيه بمحدودية قدراته مقارنةً بالغرب المصمم أكثر من أي وقت مضى على خنق الأصوات المزعجة لاستراتيجيته في الشرق الأوسط؛ ومن ثم قد تقتصر عمليات داعش على ضربات متباعدة تنتهي حتماً، ومهما كانت مؤلمة، باضطرار مقاتليه لمغادرة سوريا والمنطقة. 

وعلى الرغم من مركزية الشام في الخطاب الجهادي؛ سيختار تنظيم داعش -الذي لن تزيد عمليات "مستلهميه" من "الذئاب المنفردة" في أوروبا والولايات المتحدة، السياسة الغربية إلا تشديداً- الرحيل بدلاً من النفير؛ ومن ثم انتقال مقاتليه المُقدر عددهم بنحو 2500 في سوريا والعراق، على الأرجح إلى إفريقيا وخاصةً منطقة الساحل، حيث الأنظمة هشة واحتمال سقوطها أكبر والاهتمام الغربي بمصيرها أقل، بينما فروعه أقوى وفرص إعادة البناء فيها أكثر وأضمن. وهذا ما لمَّح إليه تقرير أممي، منذ يناير 2024، بترجيحه انتقال داعش إلى الساحل؛ نتيجة الضغوط التي يواجهها في العراق وسوريا.