أخبار المركز
  • د. أمل عبدالله الهدابي تكتب: (اليوم الوطني الـ53 للإمارات.. الانطلاق للمستقبل بقوة الاتحاد)
  • معالي نبيل فهمي يكتب: (التحرك العربي ضد الفوضى في المنطقة.. ما العمل؟)
  • هالة الحفناوي تكتب: (ما مستقبل البشر في عالم ما بعد الإنسانية؟)
  • مركز المستقبل يصدر ثلاث دراسات حول مستقبل الإعلام في عصر الذكاء الاصطناعي
  • حلقة نقاشية لمركز المستقبل عن (اقتصاد العملات الإلكترونية)

أموال معطلة:

مستقبل العملات المشفرة للشركات متعددة الجنسيات

15 نوفمبر، 2023


عرض: منى أسامة

في عام 2019، أنشأت شركة "ميتا" (فيسبوك) عملة مشفرة باسم "ليبرا" بهدف تزويد المستخدمين بوسيلة دفع رخيصة وسريعة وآمنة في جميع أنحاء العالم. وبالرغم من التخلي عن تلك العملة في عام 2022، فإن هذا النوع الجديد من العملات حظي باهتمام العديد من الشركات المتعددة الجنسيات كوسيلة لإتمام تعاملاتها المالية. ولم يقتصر هذا الأمر على شركات التكنولوجيا بل امتد أيضاً إلى شركات صناعية وتجارية وسياحية وخدمية. علماً أن هناك عشرات من العملات المشفرة، ليست جميعها قابلة للتداول بين الشركات التي قررت استخدام هذه العملات.

في هذا السياق، تأتي أهمية دراسة أصدرتها مؤسسة راند في عام 2023 لمجموعة باحثين، تحت عنوان "أموال معطلة: استكشاف مستقبل العملات المشفرة للشركات". إذ تناقش آفاق وآثار المستقبل الذي ترعى فيه الشركات المتعددة الجنسيات أنواعاً جديدة من العملات الرقمية. إذ تفترض الدراسة أن العملات المشفرة للشركات تُسهل المدفوعات عبر الحدود وإنشاء خطوط عمل جديدة بل وإلغاء الوساطة في الخدمات المالية، ما يعني إزاحة البنوك وتحويل أنشطة الدفع من بيئات شديدة التنظيم إلى أقل تنظيماً.

طبيعة العملات:

تُعد العملات المشفرة للشركات نوعاً جديداً من العملات الرقمية الخاصة التي يمكن تحويلها من النظير للنظير "P2P" وترعاها شركات متعددة الجنسيات. فتتسم العملات المشفرة للشركات بسمتين رئيسيتين: أولاً، الرعاية الخاصة من قبل الشركات التي يمكنها استغلال العلاقات التجارية الحالية وتأثيرات الشبكة والموارد، ثانياً، الاعتماد على تقنية "Ledger" الموزعة (DLT) لإدارة الرموز الرقمية وتمكين النقل من نظير لنظير (وبالتالي العملة المشفرة). 

هذا، وتختلف العملات الرقمية المشفرة للشركات عن العملات المشفرة السابقة، مثل "البيتكوين" في قدرتها على القيام بوظائف النقود التقليدية الثلاثة (مخزن القيمة، وحدة الحساب خاصة بالنسبة للسلع والخدمات التي يقدمها راعيها، وسيلة التبادل)، في حين أن العملات الرقمية المشفرة لا تؤدي ذات الوظائف بشكل جيد بعد. مع ذلك تختلف العملات الرقمية المشفرة للشركات عن النقود التقليدية من حيث المسؤولية، إذ إن الأخيرة تقع في نطاق مسؤولية البنك المركزي وتضمنها الدولة. 

وعلى الرغم من أن العملات المشفرة للشركات تختلف عن أموال البنك المركزي والعملات المشفرة السابقة، مثل "البيتكوين"، فإنها لا تُعد ظاهرة جديدة تماماً. فالعملات المشفرة للشركات تعكس التوترات التي استمرت عبر التاريخ عبر عدة مستويات:

-  المصالح العامة والمكاسب الخاصة، وتعني الجدل حول إمكانية تعزيز قبضة الكيانات الخاصة على النظام المالي على حساب السلطات العامة، لكن في الواقع، غالباً ما تتم إدارة الأموال بشكل مشترك من قبل الهيئات العامة والخاصة. 

-  المنافسة بين البنوك والمؤسسات غير المصرفية، إذ تتيح العملات المشفرة للشركات للمؤسسات خارج القطاع المصرفي القدرة على التداول بأشكال العملات الخاصة بها، وبالتالي تجنب اللوائح التنظيمية التي تنطبق على البنوك. ومن ثم، سيتعين على الشركات متعددة الجنسيات غير المصرفية الراغبة في إنشاء عملاتها المشفرة الخاصة، التغلب على تحديات قابلية التوسع المرتبطة بالأصول الرقمية. 

- جدل بين العولمة والمصالح المحلية، أي الاختلافات في السياسات الوطنية فيما يتعلق بتباين متطلبات السيولة أو تحديد العقوبات، فعلى الشركات الراعية للعملات المشفرة أن تكون على دراية بالمكان الذي تدير فيه أنشطتها لأنها ليست محصنة ضد التوترات المحلية والعالمية.

- عدم المساواة الاقتصادية، وهو ما يعني أن تؤدي ديناميكيات العملة والابتكار المالي إلى تفاقم التفاوت في الثروة والدخل.

مخاطر محتملة: 

بالرغم من الفرص التي تقدمها العملات المشفرة للشركات مثل: سهولة المدفوعات والتحويلات عبر الحدود، وانخفاض تكاليف ممارسة الأعمال التجارية، فإن هناك مخاطر متوقعة مثل عدم الاستقرار المالي، وعدم فعالية التنظيم والإشراف والافتقار إلى حماية المستهلك واختلالات في توازن العملة واحتماليات غسيل الأموال وتمويل الإرهاب أو إساءة استخدام البيانات وأيضاً تآكل الخصوصية.

وتعمل عملات الشركات على تطوير أسواق جديدة أو تغيير الأسواق الحالية عن طريق تغيير سلوك المستهلك، فضلاً عن الاستغناء عن وسطاء مقدمي الخدمات المالية، كالبنوك والمؤسسات المالية الأخرى، وهو ما يمثل تحدياً مباشراً لأدوار المؤسسات المالية التقليدية والقطاع المصرفي المنظم، وهو ما يترتب عليه مخاطر مالية وتنظيمية وبيئية. إذا تمكنت البنوك وغيرها من الوسطاء الماليين من تطوير شبكة من العلاقات جعلتهم جزءاً لا يتجزأ من التجارة العالمية؛ وفي المقابل يُحتمل أن يتسبب رعاة العملات المشفرة من غير البنوك في تعطيل هذه الشبكة وإعادة تشكيلها فيما يحقق مصالحهم. لذلك، تحتاج العملات المشفرة التي ترعاها المؤسسات غير المصرفية إلى ابتكار طرق لحماية المستخدمين من الخسارة. 

فعلى سبيل المثال، أفادت تقارير بأن العملات الرقمية الخاصة ستنشئ طبقة مؤسسية قوية من السيطرة النقدية بين البنوك المركزية والأفراد، وستضع هذه المؤسسات مصالحها الخاصة قبل المصالح العامة. وبالتالي، سيتم ربط مصداقية أي عملة مشفرة خاصة بشركة وقدرتها على الاستمرار بمصداقية وجدارة الشركة التي ترعاها. بناءً عليه، يُرجع البعض فشل عملة "ليبرا" بسبب عدم ثقة الجهات التنظيمية الحكومية في فيسبوك من حيث إساءة استخدام البيانات. 

في سياق متصل، قد يتسبب التحول السريع إلى عملات مشفرة خاصة في إضعاف السياسة النقدية وزعزعة الاستقرار، ولاسيما في الدول النامية وفي فترات الضغوط الاقتصادية. فمن الممكن أن تؤدي العملات المشفرة للشركات إلى زيادة حركة رأس المال عبر الحدود وبالتالي إمكانية استبدال الأصول المحلية والأجنبية، ومن ثم تضخيم استجابة أسعار الفائدة المحلية لأسعار العملات الأجنبية وتقليل الرقابة النقدية المحلية.

علاوةً على ما سبق، هناك مخاطر تشغيلية مرتبطة بالاعتماد على العملات المشفرة، فعلى سبيل المثال، يمكن أن يؤدي الفشل التكنولوجي في نظام الدفع إلى خسائر ائتمانية أو بعض الصدمات المالية الأخرى، التي من شأنها أن تؤثر في نطاق واسع على استقرار النظام المالي. كما أن الاعتماد الكامل على التكنولوجيا يعرض آليات العملات المشفرة لمخاطر الهجمات الإلكترونية والاختراقات والاحتيال.

أما المخاطر البيئية للعملات المشفرة فترتبط باستهلاكها للكثير من الطاقة والموارد وحتى إن عملت الشركات على استخدام نموذج أقل استهلاكاً للطاقة، فليس من الواضح ما إذا كان التأثير البيئي سيكون أقل مقارنة بالعملات المشفرة الأخرى أو البنى التحتية المالية الحالية، خاصة إذا كانت تعمل على مستوى العالم.

فرص متعددة: 

على الرغم من وجود مخاطر محتملة، لا تزال الشركات متعددة الجنسيات تعمل على تجارب للعملات المشفرة للشركات من أجل تعزيز الفرص للشركات المتعددة الجنسيات وللمستخدمين ولصانعي السياسات وللنظام المالي العالمي ككل.

بالنسبة للمستخدمين، تعمل العملات الرقمية على نقل الأموال إلى أي مكان بسهولة وسرعة وبتكلفة زهيدة أشبه بإرسال بريد إلكتروني. ومن ثم توفر العملات المشفرة للشركات للمستخدمين -سواءً عملاء أم موردين- فوائد كخفض رسوم المعاملات. أما الشركات التي ترعى العملات المشفرة فتستفيد بالطبع من انخفاض التكاليف المرتبطة برسوم الخدمات المالية وتأخير التسوية بالإضافة إلى الأرباح العائدة من رسوم سك العملات.

فيما يتعلق بالفرص المتاحة لصانعي السياسات، فمن الممكن أن تساعد العملات المشفرة للشركات على إدارة الأموال من خلال توفير الخدمات المصرفية وخدمات الدفع وتوسيع الوصول إلى هذه الخدمات. كما يمكن لأدوات المراقبة والتحليل المدمجة أن تساعد وكالات التنفيذ على تأمين أنظمة الدفع. أخيراً، بالنسبة للفرص العالمية إذا كانت العملات المشفرة للشركات تدعم مدفوعات أرخص وأسرع عبر الحدود، فيمكن أن تُسهل التحويلات المالية والتجارة الدولية. ومن الممكن أن تعمل العملات المشفرة للشركات أيضاً على تعزيز الابتكار المالي الإضافي، بما في ذلك الخدمات المالية الأكثر شمولاً والأقل استهلاكاً للطاقة.

مستقبل العملات: 

نظم مؤلفو الدراسة ورشة عمل مع 18 خبيراً باستخدام طريقة تُعرف بالاستبصار التشاركي، عن طريق تخيل مستقبل العملات المشفرة للشركات في عام 2032. وقد تم التوصل إلى مجموعة نتائج تعكس آراء المشاركين خلال ورش العمل:

- قد تكون العملات المشفرة للشركات ليست ملائمة ولا مرغوباً فيها. إذ اختلف الكثيرون حول السرعة التي ستُحدث بها العملات المشفرة للشركات تغييراً أوسع نطاقاً ودرجة ذلك والفئات المستفيدة.

- يمكن أن تصبح العملات المشفرة للشركات مرغوبة في حالة اشتمال التصميم على ميزات (مثل الاستقرار المالي وانخفاض التكلفة) وقيم محسنة (مثل الشفافية واحترام الخصوصية والشمول). كما أن التنسيق بين القطاعين العام والخاص في إصدار وإدارة النقد سيدعم الاستقرار النقدي ويحد من الغموض المحيط بتنظيم العملات المشفرة. علاوةً على ضرورة تقليل عدد نقاط الدخول المحتملة للوصول غير المصرح به إلى هذه العملات الرقمية من أجل حماية البيانات.

- الأفكار الكبيرة هي أساس تحقيق هذه الرؤية المرغوبة، وتتضمن هذه الأفكار: إنشاء نظام مالي دولي (فالمشكلات ذات طبيعة عالمية تستلزم استجابة عالمية)، مواءمة المعايير (العمل على تبني وتنسيق المعايير المعترف بها دولياً على المستوى الوطني)، إعطاء الأولوية للخصوصية (تعزيز وكالة المستخدمين المطلعة على نشر المعلومات)، الاستفادة من التكنولوجيا من أجل الخير (توجيه التطور التكنولوجي نحو الغايات التي تخدم الرؤية).

- هناك قيود تتعلق بالتغير التكنولوجي والاجتماعي المستمر والذي يصعب التنبؤ به، فضلاً عن القيود البيئية. 

- فوائد التعاون المتعدد الأطراف تفوق تكاليفه، إذ تتوقف جدوى فكرة "مواءمة المعايير" على رغبة كيانات القطاع الخاص في الموافقة طوعاً على مجموعة أساسية من المعايير المشتركة. 

- الإجماع حول المفاهيم الأساسية المتعلقة بالعملات المشفرة للشركات، مثل الخصوصية واللامركزية. وتتطلب مثل هذه المساعي تطوير فهم مشترك وقبولاً فيما يتعلق بالعناصر الأساسية للمستقبل المرغوب فيه.

- ضرورة أن تكون البيانات متاحة بكمية ونوعية وتوقيت كافيين حتى تعمل الأدوات التنظيمية بفعالية. 

إن فشل أي من النتائج السابقة سيكون له آثار مباشرة على الاستقرار المالي وفعالية السياسات. فعلى سبيل المثال، فإن فشل التعاون المتعدد الأطراف، أو عدم كفاية أنظمة السياسات، من الممكن أن يجعل النظام المالي العالمي عرضة للعدوى. فالافتقار إلى الإجماع بين أصحاب المصلحة أو عدم كفاية المعلومات من شأنه أن يترك صناع السياسات في حالة من الجهل بشأن الحجم المحتمل للمشكلة وحلها. وعليه، يحتاج أصحاب المصلحة إلى التوصل إلى توافق في الآراء حول معنى الخصوصية والأمن فيما يتعلق بالنقد الإلكتروني الصادر من القطاع الخاص، كما أن هناك حاجة إلى تطوير حلول تكنولوجية وسياسية جديدة (كمعايير الاعتماد الرقمي، والقدرات التحليلية).

لذلك، توصي مؤسسة راند بضرورة تيسير حوار منتظم بين أصحاب المصلحة (المنظمون وواضعو السياسات والمطورون والمستخدمون والمستثمرون) من أجل تقليل عدم اليقين، والتأكد من أن الابتكار يخدم المصلحة العامة. إذ إن إضفاء الطابع المؤسسي على هذه المناقشات يساعد على التطوير والتنسيق خاصة حول المفاهيم المتنازع عليها مثل الخصوصية واللامركزية. 

وفي سياق متصل، ثمة أهمية لتطوير الأنظمة الاجتماعية والمادية كالأسواق، والبنية التحتية السيبرانية، وأنظمة تحديد الهوية، والتحول الناشئ، وكيفية تفاعلها مع العملات المشفرة للشركات، مما سيوفر فرصاً مختلفة لاتخاذ إجراءات سياسية. أخيراً، لا بد من توعية المستهلك بشكل كافٍ حتى لا يكون عرضة للاحتيال والسرقة.

ختاماً، بالرغم من الأزمات الدائمة المرتبطة بأسواق العملات المشفرة وأهمها الاحتيال وغسيل الأموال، فإنه لا بد من تطوير مجال العملات المشفرة للشركات من خلال بناء علاقات مثمرة بين أصحاب المصلحة. ومن الأهمية بمكان، اللجوء إلى تطبيق أساليب "الاستبصار التشاركي" والذي يوفر مكاناً آمناً ومنظماً لمجموعة متنوعة من أصحاب المصلحة لاستكشاف وتجربة الموضوعات المثيرة للجدل وتقليل حالة عدم اليقين، مما يترتب عليه بالضرورة تطوير أفكار وحلول جديدة.

المصدر: 

Jim Mignano and others. Disruptive Money Exploring the Future of Corporate Cryptocurrency. RAND. 2023.