باتت مستويات الدين العام في لبنان أكثر خطورة من أى وقت مضى مع بلوغها أكثر من 149% في عام 2018، وبما يهدد بشدة الاستقرار الاقتصادي والمالي للبلاد، ويأتي ذلك مصحوبًا بضغوط اقتصادية أخرى على غرار انخفاض النمو الاقتصادي نتيجة تباطؤ القطاعات الرئيسية مثل السياحة والعقارات. ولتفادي سيناريو التعثر في سداد أعباء الدين العام، تحتاج البلاد إلى جهود سياسية واسعة للإسراع في تشكيل حكومة توافقية يكون لديها القدرة على تطبيق الإصلاحات الاقتصادية اللازمة لاحتواء أزمة الدين والسيطرة على عجز الموازنة العامة.
تضخم الديون
يواجه الاقتصاد اللبناني مأزقًا شديدًا مع تجاوز مستويات الدين العام حوالي 149% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2018 وبقيمة تبلغ 83.3 مليار دولار في العام نفسه، فيما تعادل تكلفة خدمته حوالي نصف الإيرادات الحكومية، وهو ما يهدد بلا شك الاستقرار الاقتصادي والمالي برمته في الفترة المقبلة، علمًا بأن توقعات صندوق النقد الدولي تفترض بلوغه 172.3% بحلول عام 2023 ما لم تتخذ الحكومة الإجراءات المناسبة للسيطرة عليه.
وقد شهد تفاقم الدين العام زيادة كبيرة في الأعوام الماضية نتيجة الارتفاع المستمر للنفقات العامة من الأجور ودعم الكهرباء وخدمة الدين العام في مقابل ضعف الإيرادات العامة من الضرائب وغيرها، بما دفع عجز الموازنة العامة لأن يبلغ ذروته وبـ 10.6% من الناتج المحلي الإجمالي في العام الماضي وبزيادة من 7.3% في عام 2017، كما من المتوقع أن يصل إلى نحو 11% بنهاية عام 2018 بحسب توقعات صندوق النقد الدولي.
مجموع الدين العام اللبناني (% من الناتج المحلي الإجمالي)
المصدر: صندوق النقد الدولي
وبالتوازي مع ذلك، لا يزال النمو الاقتصادي منخفضًا وعند مستوى يتراوح بين 1 و1.5% في عامى 2017 و2018، ويرجع ذلك إلى تباطؤ تعافي القطاعات الرئيسية مثل السياحة والعقارات والبناء متأثرة، فيما يبدو، بتأخر تشكيل الحكومة وتعثر جهود الإصلاح الاقتصادي، فضلاً عن تحمل خسائر كبيرة نتيجة الصراع في سوريا.
وعلى ضوء هذه الظروف، خفضت وكالة موديز، في يناير الجاري، تصنيف لبنان للدين السيادي من B3 إلى Caa1 في مؤشر على تراجع قدرة البلاد على سداد ديونها، حيث لا تمتلك الحكومة، كما ترى موديز، أدوات مالية ونقدية كافية لاحتواء أعباء الدين العام المرتفع في الأجل المنظور.
وفي ظل تفاقم أزمة الديون، أثيرت مخاوف لدى الأوساط اللبنانية من إمكانية قيام البنك المركزي باستخدام احتياطيات النقد الأجنبي التي بحوزته (والبالغة 43.1 مليار دولار بنهاية أكتوبر 2018) لسداد التزامات الدين العام، ما قد يتبعه اتخاذ البنك قرارًا بفك ربط الليرة مع الدولار، أى تعويمها، وهو ما يقود بنهاية المطاف لتحرك سعر الدولار مقابل الليرة للأعلى، على نحو قد يدفع معدلات التضخم للارتفاع في ظل هذا السيناريو.
ظروف ضاغطة:
بشكل عام، تعود الأزمة الاقتصادية إلى اعتبارات مختلفة يتمثل أهمها في الخلافات القائمة بين التيارات السياسية، والتي حالت دون تشكيل حكومة توافقية حتى الآن. وقد انعكس الجمود السياسي على تقويض ثقة المجتمع الدولي في أداء الاقتصاد، بما حد من قدرته على تعبئة الموارد الخارجية من النقد الأجنبي وهو ما اتضح في تباطؤ حصول لبنان على أموال قروض واستثمارات مؤتمر المانحين الدوليين "سيدار" في أبريل 2018 والبالغ قيمتها 11 مليار دولار.
وأدى اضطراب الأوضاع الاقتصادية والسياسية إلى تراجع ملحوظ لتدفقات الودائع، لا سيما من قبل غير المقيمين لدى البنوك اللبنانية، علمًا بأن المغتربين اللبنانيين في الخارج يقومون بإجراء تحويلات مالية سنوية إلى لبنان بنحو 7 مليار دولار، وهو ما يمثل رافدًا أساسيًا لمساندة الاقتصاد وتعزيز القاعدة المالية للبنوك.
وبحسب وكالة موديز، استقبلت البنوك اللبنانية ودائع جديدة تتراوح بين 4 و5 مليار دولار في عام 2018 وهو ما تعتبره المؤسسة أقل من المستويات المطلوبة والتي تتراوح بين 6 و7 مليار دولار سنويًا واللازمة لتغذية البنوك بالأموال لشراء السندات الحكومية المقومة بالعملات الأجنبية وذلك دون الاعتماد على احتياطيات النقد الأجنبي.
وبجانب الأسباب السابقة، لا تزال لبنان تعاني من تبعات الصراع في سوريا على مختلف المستويات ومن بينها الاقتصادية، حيث تسبب في تكبد الاقتصاد خسائر بقيمة 15 مليار دولار وفق تصريح وزير الاقتصاد في حكومة تصريف الأعمال رائد خوري في سبتمبر 2018، تمثلت في تراجع حجم التجارة، وفقدان استثمارات، بجانب أعباء الموازنة العامة جراء استضافة حوالي 950 ألف لاجئ سوري بنهاية عام 2018.
سيناريوهات محتملة:
ربما يكون بإمكان الحكومة اللبنانية، في الأجل القصير، احتواء الدين العام بما يتوافر لدى النظام البنكي من العملات الأجنبية، والتي قد تساهم في تمويل عجز الموازنة العامة والالتزام بمستحقات الديون العامة، وهو ما تدعمه العلاقات التكافلية الممتدة لأعوام طويلة بين الحكومة والبنوك اللبنانية.
وفي الوقت نفسه، لدى البنك المركزي أدوات مالية، لكنها محدودة الأثر، قد تساعده في الأجل القصير على إدارة الدين العام منها عمليات مبادلة الديون مع وزارة المالية والمبادلة المالية مع البنوك لتمويل الموازنة العامة، وذلك على غرار قيام وزارة المالية، في مايو الماضي، بمبادلة ديون حكومية بقيمة 5.5 مليار دولار مع البنك المركزي، حيث تم إصدار سندات دولارية مقابل سندات خزينة بالليرة من البنك المركزي.
لكن على أية حال، لن تمكن الأدوات السابقة الحكومة اللبنانية من السيطرة على الدين العام في المدى الطويل، إذ أنه في ظل سيناريو استمرار ضعف نمو الاقتصاد والقطاع الخارجي، من المرجح أن تتفاقم أزمة الديون، بشكل سوف يفرض على الحكومة في الفترة المقبلة اتخاذ إجراءات عاجلة على المستويين السياسي والاقتصادي لدعم الاستقرار المالي للبلاد.
ولعل تشكيل حكومة توافقية لديها القدرة على تطبيق إصلاحات اقتصادية تدعم استقرار الاقتصاد الكلي وتعزز التدفقات المالية الخارجية من أهم العوامل التي قد تساعد لبنان على التعامل مع الاختلالات الاقتصادية الراهنة، حيث ستساهم في تعافي القطاعات الرئيسية مثل السياحة، وفي جذب مزيد من الاستثمارات الأجنبية والودائع الأجنبية لدى النظام المصرفي.
ورغم ذلك، لن يكون من السهل على أية حكومة جديدة تطبيق إصلاحات مالية واسعة ومفاجأة (مثل زيادة الضرائب أو تقليص الدعم) في ظل الاحتجاجات الشعبية التي شهدتها لبنان في الأشهر الماضية والتي تطالب بتحسين الأوضاع المعيشية، بما يستوجب عليها اتخاذ تدابير تدريجية للإصلاح الاقتصادي وبشكل يراعي الأبعاد الاجتماعية.