أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية
  • مُتاح عدد جديد من سلسلة "ملفات المستقبل" بعنوان: (هاريس أم ترامب؟ الانتخابات الأمريكية 2024.. القضايا والمسارات المُحتملة)
  • د. أحمد سيد حسين يكتب: (ما بعد "قازان": ما الذي يحتاجه "بريكس" ليصبح قوة عالمية مؤثرة؟)
  • أ.د. ماجد عثمان يكتب: (العلاقة بين العمل الإحصائي والعمل السياسي)

توسع السلطات:

رؤى غربية لمستقبل أنظمة الحكم بعد وباء كورونا

28 مايو، 2020


عرض: د. إسراء إسماعيل - خبير في الشئون السياسية والأمنية

منذ تفشي جائحة (كوفيد-١٩) وتوالي تداعياتها على الاقتصاد العالمي، اهتمَّت الحكومات بتعبئة الموارد الطبية، وتنفيذ التدابير الاحترازية والاقتصادية لاحتواء الجائحة. وعلى الرغم من أن بعضًا من تلك السياسات الطارئة قد تُفيد مستقبلًا في إنشاء مؤسسات جديدة، أو ابتكار طرق لحل المشكلات في مرحلة ما بعد الوباء؛ إلا أن هناك وجهًا آخر لهذه الإجراءات، يعكس استغلال بعض الدول للسلطات والصلاحيات المكتسبة خلال فرض حالة الطوارئ، حيث تثور المخاوف من إساءة استخدام الإجراءات الصحية للتتبُّع والمراقبة، لترسيخ أنظمة الحكم، بما يتنافى مع مبادئ الديمقراطية.

وفي هذا الإطار، قامت مجلة "فورين بوليسي" باستطلاع آراء 10 مفكرين بارزين من جميع أنحاء العالم، وعرض رؤيتهم حول تأثير أزمة كورونا على توسيع نطاق السلطات الحكومية، وانعكاس الأزمة على أنماط الحكم مستقبلًا. وقد تضمَّن الاستطلاع آراء كل من: "جيمس كرابتري"، "روبرت د. كابلان"، "روبرت موجا"، "كومي نايدو"، "شانون ك. أونيل"، "آدم بوزن"، "كينيث روث"، "بروس شناير"، "ستيفن م. والت"، "ألكسندرا ريج".

استغلال الطوارئ

أكد "ستيفن والت"، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة هارفارد، أن الدول ذات النظم الديمقراطية وغير الديمقراطية على حدٍّ سواء قامت بإغلاق الحدود، وفرض الحجر الصحي، وإغلاق جزء كبير من الاقتصاد، وتطبيق مجموعة متنوعة من أنظمة الاختبار والتتبُّع والمراقبة؛ من أجل احتواء العدوى. وأشار إلى أن الدول التي تصرَّفت بشكلٍ أسرع، واعتمدت تدابير أكثر صرامة كانت الأكثر نجاحًا، أما الحكومات التي أنكرت وتأخرت في اتخاذ الإجراءات اللازمة، فهي مسئولة عن آلاف الوفيات.

وفي هذا الإطار، فرضت الحكومات في جميع أنحاء العالم إجراءات غير مسبوقة للرقابة والسيطرة على الحياة اليومية لمواطنيها. ويرجح "والت" أن الانتهازية السياسية والخوف من انتشار موجة جديدة من الفيروس، سيقودان عديدًا من الحكومات إلى استمرار تفعيل بعض السلطات المكتسبة حديثًا في ظل الأزمة، والتي تتضمن إجراءات مثل: مراقبة الهواتف المحمولة، والتقاط صور الأشخاص، وتتبُّع مواقعهم، مع عدم اقتصار استخدام هذه المعلومات على مسائل الصحة العامة.

من جانبه، أكد "كينيث روث"، المدير التنفيذي لمنظمة "هيومن رايتس ووتش"، أنه في أوقات الأزمات، يسمح القانون الدولي لحقوق الإنسان للحكومات بتقييد بعض الحقوق مؤقتًا، مثل القيود على السفر، وقواعد التباعد الاجتماعي، طالما كانت تلك القيود ضرورية، ومتناسبة مع الأزمة، وغير تمييزية. ولكنه يشير إلى أن بعض الحكومات تحاول استغلال هذه الإجراءات المؤقتة لإسكات منتقديها، وترسيخ حكمها.

ويُضيف "روث" أن الرقابة تُقيِّد التدفق الحر للمعلومات، التي تُعتبر ضرورية للغاية في التعرف على التهديدات الصحية والاستجابة لها بفعالية؛ حيث توضح أزمة فيروس كورونا أنه يجب احترام حقوق الإنسان ليس فقط من حيث المبدأ، ولكن لأسباب براجماتية أيضًا، مؤكدًا أن المراقبة التي تفشل في حماية الخصوصية لا تشجع التعاون الطوعي، وهو شرط مسبق لأي مبادرة ناجحة في مجال الصحة العامة. ويرى أنه لا يجب أن تؤدي الأزمة إلى توسع دائم في السلطات الحكومية؛ لأن ذلك قد يدفع بعض الحكومات لخدمة مصالحها السياسية الخاصة بدلًا من مصلحة المواطنين.

تعزيز الحكومات الرشيدة 

أوضح "ألكسندرا ريج"، رئيس مؤسسة "تريس إنترناشيونال" TRACE International، وهي مؤسسة معنية بتعزيز الشفافية التجارية في جميع أنحاء العالم؛ أنه في الوقت الذي يخصص العالم فيه تريليونات الدولارات لبرامج التحفيز الاقتصادي، والاستثمار في القطاع الطبي؛ ستتسع قاعدة الفساد في عديد من الدول ذات الأنظمة غير الديمقراطية. أما في تلك التي تتمتع بالحكم الرشيد، فستتسبب أزمة كورونا في زيادة التركيز على المساءلة، وبالتالي تحجيم الموارد المهدرة، والمعاملات الغامضة والمشبوهة، ومن ثمَّ سيتحول الوباء من نقمة إلى نعمة في نهاية الأمر.

ويُضيف أن خبرة الربيع العربي والحركات الاحتجاجية في الدول الأخرى، أوضحت أن المجتمعات التي تُعاني من أوضاع اقتصادية واجتماعية متدهورة، ليس لديها صبر على الفساد. وفي ضوء ذلك، من المرجَّح أن تواجه الحكومات غير الديمقراطية رد فعل مجتمعيًّا عنيفًا بسبب الفساد، وعدم التزام المصارحة والشفافية، وإخفاء الحقائق حول نطاق الأزمة.

عصر الحكومات الكبيرة

أشار "جيمس كرابتري"، أستاذ مشارك في كلية "لي كوان يو" للسياسة العامة في جامعة سنغافورة الوطنية، ومؤلّف كتاب "الملياردير راج"، إلى أنه من المقرر أن تؤدي جائحة (كوفيد-١٩) إلى إعلان عن عهد جديد من نمط الحكومات المتدخلة في كل الاقتصادات المتقدمة تقريبًا. ولكن هذا التغيير سيكون محسوسًا بشكلٍ كبير في الدول الآسيوية.

وأوضح أن معظم الدول الغنية، مثل الولايات المتحدة وألمانيا، تحركت لحماية مواطنيها وشركاتها، من خلال وضع خطط لدعم الأجور، والمدفوعات النقدية، وشمل هذا أيضًا دولًا مثل سنغافورة وماليزيا، التي طالما تجنَّبت توسيع نطاق الإنفاق الحكومي.

ويرى أن إدارة الأزمة ستتطلب في المستقبل حكومات أكبر؛ في ظل حاجة الدول لإنشاء أدوات جديدة للسيطرة على الأمراض، وإدارة أماكن العمل، والمراقبة الاجتماعية، على أمل الحد من تفشي الفيروس في المستقبل إلى أن يتم إنتاج لقاح له. وفي ضوء ذلك، من المرجّح أن تتولى الدول الآسيوية، مثل كوريا الجنوبية واليابان، زمام المبادرة، نظرًا لتمتعها بقدرات تكنولوجية متقدمة، ونهج مريح نسبيًّا في تنظيم إجراءات المراقبة والتتبُّع، أخذًا في الاعتبار احترام خصوصية الأفراد.

وباختصار، فإن عصر الحكومات الكبيرة سيعود، لكنه سيظهر بطرق مختلفة تمامًا عن الحقبة السابقة للحكومات المتدخلة خلال فترة الستينيات والسبعينيات من القرن المنصرم. وهذا النمط الجديد سيتشكَّل وتتحدَّد ملامحه في الشرق وليس في الغرب.

وفي هذا الإطار، أوضح "روبرت كابلان"، خبير في الشئون الخارجية، أنه بعد ثلاثة عقود من تكوين الثروات على نطاق لم يسبق له مثيل تاريخيًّا، قد نكون الآن على أعتاب فترة غير مسبوقة من إعادة توزيع الثروة في شكل ضرائب أعلى؛ لتمويل التوسُّع في الرعاية الصحية والخدمات الأخرى. مضيفًا أن الخصوصية ستصبح مشكلة على نحو متزايد في هذا العصر الجديد للحكومات، مع ظهور أنواع جديدة من الرقابة والتتبُّع، وذلك إضافة إلى مشكلة الدين الحكومي، الذي بدأ يتزايد بشكلٍ كبير.

ومع تصاعد حدة التنافس بين الولايات المتحدة والصين في ظل الأزمة الراهنة؛ تلوح دعوات لزيادة الإنفاق الدفاعي الأمريكي. وهنا يثور التساؤل حول كيف يمكن مواجهة كل هذه التحديات والنفقات. وأكد "كابلان" أنه في مواجهة هذه التطورات، سيكون هناك اتجاه لتعزيز دور الحكومات الوطنية في عالم ما بعد كورونا.

إعادة النظر في السياسات الاقتصادية

أكد "شانون أونيل"، زميل أول لدراسات منطقة أمريكا اللاتينية في مجلس العلاقات الخارجية، أنه بينما تكافح الدول والشركات لمواجهة آثار فيروس كورونا المستجد على العمل والإنتاج، تعود السياسة الصناعية إلى الظهور، بعد عقود من زخم السوق الحر؛ حيث تبنَّت الحكومات في الدول المتقدمة والأسواق الناشئة -على حدٍ سواء- أدوارًا مؤثرة في الاقتصاد. وتضمَّن ذلك فرض تعريفات وتراخيص ومعايير للإنتاج، وحتى حظر التصدير المباشر، خاصة للمواد الغذائية والإمدادات الطبية، كما تضمنت الإجراءات دفع المليارات النقدية، وتقديم مزايا أخرى للشركات؛ بهدف "إعادة التصنيع" الذي يتم خارج حدودها إلى الداخل، مثل اليابان، التي قامت بدفع 2.3 مليار دولار لشركاتها لمغادرة الصين وعودة العمل والإنتاج بداخلها.

ومع تعثُّر منظمة التجارة العالمية، ستضع العديد من الدول خططًا لإعادة تشكيل الإنتاج، لضمان توفير السلع الاستراتيجية والخدمات الرئيسية، مع تجنُّب الاعتماد المفرط على الصين. وفي ضوء ذلك، من المرجَّح استمرار المفاوضات للحفاظ على حرية التجارة بين الدول، لكن العديد من هذه المباحثات سوف تتغاضى عن التدخلات الحكومية المباشرة في الأسواق.

ومن ناحية أخرى، أكد "آدم بوزن"، رئيس "معهد بيترسون للاقتصاد الدولي"، أن سياسات الاقتصاد الكلي السابقة ركزت على متغيرات رئيسية، هي: النمو، والتضخم، والبطالة، والديون، وقد سمح ذلك لمحافظي البنوك المركزية والمسئولين الاقتصاديين بالتركيز على الرفاهية العامة، غير أن أزمة الوباء الحالي وتداعياتها دفعت التكنوقراط الاقتصاديين لإعادة النظر في قرارات توزيع الموارد وتخصيصها، أي ما يتعلق باختيار الشركات التي تحصل على قروض سريعة، وترتيبات العمل التي تحصل على الدعم، والأصول التي يتم شراؤها. وهذا يجعل سياسات التعاطي مع الأزمات أكثر فاعلية، طالما كانت عمليات القروض والمشتريات أكثر خضوعًا لإجراءات الشفافية والمساءلة.

وأضاف "بوزن" أن البنوك المركزية، ووزارات المالية، والهيئات التنظيمية المالية، ستخرج من هذه الأزمة بأشكال جديدة من التدخل المباشر، فالاقتصاد العالمي الذي نعيش فيه اليوم يتطلب أيادي اقتصادية قوية، مرجحًا تلاشي الخطوط الفاصلة بين السياسة المالية والنقدية إلى حد كبير، وأن يتم استبدال القواعد التي كانت تمنع سابقًا تعاون الوكالات الحكومية مع بعضها بعضًا، للتعاطي مع الواقع الاقتصادي الجديد.

تنامي قوة الحكومات المحلية

أشار "روبرت موجاه"، مؤسس معهد Igarapé ومجموعة SecDev، إلى أن جائحة (كوفيد-١٩) تكشف عن مدى جودة أداء الحكومات في جميع أنحاء العالم، وقدرة قادة المناطق والمدن على مواجهة الوباء في الوقت الذي تجلى فيه فشل عديد من المسئولين بالحكومات المركزية الوطنية. ويضيف أن القادة المحليين أظهروا كفاءة أكبر في إدارة الأزمة، وكسبوا ثقة ناخبيهم؛ حيث ينصب تركيز المحافظين ورؤساء البلديات على إنقاذ الأرواح، وتقديم الخدمات الأساسية، والحفاظ على القانون والنظام، ودعم الانتعاش الاقتصادي، بما يعزِّز من سلطات المناطق والمدن.

ويرى أن الموارد المالية المحدودة ستعمل على تحديد السياسات التي سيتم تطبيقها، من حيث التكلفة التي تولد فوائد متعددة، بما في ذلك اختيار أفضل الطرق لتوفير الرعاية الصحية لأكثر الفئات ضعفًا، وتعزيز سياسات الاقتصاد الأخضر. ويرجّح "موجاه" أن تكون الخدمات الحكومية المستقبلية أكثر رقمنة، وأن تتمتع بمرونة أكبر.

على مدار التاريخ، كان لتفشي الأمراض المعدية تأثير عميق على الحكم المحلي؛ حيث أدى "الطاعون الدبلي" في القرن الرابع عشر إلى إعادة التفكير في المناطق الحضرية الفقيرة، ودفع تفشي "الكوليرا" في القرن التاسع عشر لوضع خطط لإعادة تطوير المناطق الحضرية، وبناء أنظمة الصرف الصحي. وبالمثل، ستؤدي جائحة (كوفيد-١٩) إلى إحداث تحولات في الحوكمة، بدءًا من تقنيات المراقبة لتتبُّع العدوى، وإنفاذ الحجر الصحي، إلى اتساع نطاق الإنفاق على الرعاية الصحية؛ لإبقاء هذا المرض والأمراض المستقبلية تحت السيطرة.

وفي هذا الإطار، أوضح "كومي نايدو"، الأمين العام السابق لمنظمة العفو الدولية، أن تقييم الاقتصادات على أساس الناتج المحلي الإجمالي فقط هو قصور يجب معالجته إذا أردنا الحصول على فرصة لخلق عالم أكثر إنصافًا. موضحًا أن الجائحة أظهرت أن العالم بحاجة إلى إعادة تفكير جذري في إنتاج وتوزيع المواد الغذائية، والسلع الأساسية الأخرى في المجتمعات، للعيش في صحة جيدة وسلام ورخاء، داعيًا إلى أهمية التوجه نحو اللا مركزية، ومشاركة الأقاليم والبلديات في إنتاج السلع وتقديم الخدمات الاجتماعية، وضرورة التأكد من أن التراجع الراهن للحقوق المدنية بسبب الإجراءات المرتبطة بالأزمة، هو تراجع مؤقت، ولا يمثل ركيزة دائمة للحياة في عصر ما بعد كورونا.

الخصوصية مقابل الصالح العام

لفت "بروس شناير"، زميل ومحاضر في كلية كينيدي بجامعة هارفارد، الانتباه إلى الجدل المثار في المجتمعات الغربية حول حقّ استخدام البيانات الشخصية. واصفًا الموقف بالمعركة التي تضع حق الأفراد في الخصوصية في مواجهة أهمية بياناتهم لصالح المجتمع. فعلى سبيل المثال، تُظهر لنا خرائط جوجل حركة المرور في الوقت الفعلي، ولكنها تفعل ذلك من خلال جمع بيانات الموقع من كل شخص يستخدم الخدمة. مضيفًا أنه حتى الآن تركز معظم النقاش على "رأسمالية المراقبة" surveillance capitalism.

ويضيف أن جائحة كورونا طرحت موضوعًا ملحًّا للنقاش، يتضمن انخراط جهات فاعلة جديدة، مثل سلطات الصحة العامة والقطاع الطبي، إذ لا يقتصر الأمر على تطبيقات الهواتف الذكية، التي تتعقب جهات الاتصال مع الأشخاص المصابين، والتي يتم طرحها حاليًّا من قِبل الشركات والحكومات حول العالم، ولكن من المرجح أن تضغط سلطات الصحة العامة من أجل فرض مزيد من إجراءات المراقبة؛ للحصول على إنذار مبكر للأوبئة في المستقبل، وبالتالي يجد العالم نفسه في موقف المفاضلة بين احترام الخصوصية الفردية، وأهمية نشر البيانات لتحقيق أمن وسلامة المجتمع.

وأوضح "شناير" أن حل هذه المعضلة يتطلب التفكير الدقيق في كل حالة، والتحليل الأخلاقي لكيفية تأثير هذه القضية على القيم الأساسية، مؤكدًا أنه بينما نتحرك نحو فرض مزيدٍ من إجراءات المراقبة، نحتاج إلى معرفة كيفية الحصول على أفضل النتائج. بمعنى كيفية تصميم أنظمة تستفيد من بيانات الأفراد لصالح المجتمع ككل، وفي الوقت نفسه حماية خصوصية الأشخاص بشكل فردي.

المصدر: 

James Crabtree, Robert D. Kaplan, Robert Muggah, Kumi Naidoo, Shannon K. O'neil, Adam Posen, Kenneth Roth, Bruce Schneier, Stephen M. Walt, Alexandra Wrage, How the Coronavirus Pandemic Will Permanently Expand Government Powers, Foreign Policy, May 16, 2020.