بعد أن كان الصراع على كسب الوقت هو إحدى الآليات الرئيسية التي تبنتها كل من الولايات المتحدة الأمريكية وإيران من أجل ممارسة ضغوط متبادلة في إطار التصعيد الحالي بين الطرفين، بدأت الدول الأوروبية بدورها في الاستناد للآلية نفسها بهدف دفع كل من واشنطن وطهران إلى تغيير موقفيهما والاستجابة للجهود التي تبذل من أجل القبول بإجراء مفاوضات جديدة لتسوية الخلافات العالقة في الفترة الحالية حول الاتفاق النووي والبرنامج الصاروخي والدور الإقليمي. وربما يؤشر ذلك إلى أن الخيارات باتت محدودة أمام تلك الدول للعمل على تعزيز فرص مواصلة تطبيق الاتفاق النووي الذي يبدو أنه سوف يواجه أزمة قوية خلال المرحلة القادمة.
دلالات عديدة:
قال وزير الخارجية الفرنسي جان ايف لودريان، في 2 أكتوبر 2019، أن "نافذة زمنية من شهر واحد ما زالت مفتوحة أمام إيران والولايات المتحدة الأمريكية للبدء في محادثات بشأن البرنامج النووي والأمن في الشرق الأوسط"، مشيرًا إلى أن "المبادرات التي لم تفض إلى نتيجة حتى الوقت الحالي ما زالت مطروحة على الطاولة". وفي الواقع، فإن ذلك يطرح دلالات رئيسية أربع تتمثل في:
1- استباق طهران: تحاول فرنسا في الوقت الحالي ممارسة ضغوط على إيران تحديدًا من أجل الامتناع عن اتخاذ خطوة تصعيدية رابعة في البرنامج النووي، وهى الخطوة التي أعلنت إيران أنها قد تقدم عليها في 7 نوفمبر القادم. ومن دون شك، فإن باريس ترى أن هذه الخطوة ربما تكون الأكثر خطورة مقارنة بالخطوات الثلاث السابقة، لا سيما أنها قد تؤدي، في مرحلة لاحقة، إلى تسريع عمليات التخصيب ورفع مستواه، وهو ما سوف ينتج معطيات جديدة لن تتوافق مع الجهود التي تبذلها في الوقت الحالي.
2- "فرملة" العقوبات: بالتوازي مع ذلك، تسعى باريس إلى إقناع إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بعدم رفع مستوى العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران في الوقت الحالي، على أساس أن ذلك يضع حدودًا لقدرتها على وقف التصعيد الحالي وتعزيز فرص إجراء مفاوضات جديدة بين الطرفين. وكانت فرنسا قد حاولت خلال اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك في سبتمبر الفائت، إقناع الرئيسين الأمريكي دونالد ترامب والإيراني حسن روحاني بعقد لقاء ثنائي، إلا أن جهودها في هذا السياق اصطدمت بالشروط المسبقة التي تبناها الطرفان، حيث اشترطت طهران رفع أو تخفيف العقوبات الأمريكية، واشترطت واشنطن عدم تغيير السياسة الحالية قبل عقد هذا اللقاء.
3- الخيار الصعب: تكشف هذه الضغوط الفرنسية عن محاولات تبذلها الدول الأوروبية الثلاث، وهى فرنسا وبريطانيا وألمانيا، التي تقود وتدعم الجهود التي تبذل لإجراء مفاوضات بين واشنطن وطهران، من أجل تجنب الخيار الأصعب، وهو وقف العمل بالاتفاق النووي. فقد بدا جليًا لهذه الدول أن الاتفاق يقترب بالفعل من هذه المرحلة، في ظل إصرار كل من واشنطن وطهران على التمسك بسياساتهما الحالية، ووضع شروط مسبقة قبل التفاوض. وبالطبع، فإن هذا الاحتمال سوف يفرض تداعيات عديدة عملت تلك الدول على تجنبها في المرحلة الماضية، وتحديدًا بعد أن قامت طهران بتخفيض مستوى التزاماتها في الاتفاق النووي، بداية من زيادة كمية اليورانيوم المخصب لأكثر من 300 كيلو جرام، مرورًا برفع مستواه إلى 4.5% وانتهاءً بوقف العمل بالقيود المفروضة على عمليات البحث والتطوير.
إذ أن ذلك سوف يعزز من احتمالات عودة الأزمة النووية برمتها إلى المربع الأول من جديد، بكل ما يعنيه ذلك من تنشيط البرنامج النووي الإيراني مرة أخرى ووصوله إلى المستوى السابق الذي كان عليه قبل الإعلان عن الاتفاق النووي. وقد وجهت إيران أكثر من مرة تهديدات بأنها مستعدة بالفعل لهذا الخيار، سواء عبر رفع مستوى التخصيب وزيادة كميته أو من خلال التلويح باستخدام أجهزة طرد مركزي أكثر تطورًا على نحو سوف يؤدي إلى تسريع عمليات التخصيب. وربما يؤدي ذلك في النهاية إلى نشوب حرب جديدة في المنطقة تبدو الدول الأوروبية حريصة على تجنب ارتداداتها التي ترى أنها سوف تصل إلى حدودها سريعًا.
واللافت في هذا السياق، هو أن الدول الأوروبية بدأت بالفعل في تحذير طهران من هذا الخيار، حيث وجهت فرنسا وبريطانيا وألمانيا، بحسب ما نشرته صحيفة "الجارديان" البريطانية، في 27 سبتمبر الفائت، تحذيرًا لإيران بأنها سوف تنسحب من الاتفاق النووي، في حالة ما إذا أصرت الأخيرة على مواصلة تخفيض التزاماتها في الاتفاق النووي في نوفمبر القادم، وأشارت إلى أن تلك الخطوة المحتملة من جانب طهران سوف تدفعها إلى الاستناد لآلية فض المنازعات التي نصت عليها المادة 36 من الاتفاق، والتي قد تمهد المجال في النهاية أمام نقل الملف إلى مجلس الأمن من جديد.
4- توسيع الملفات: لم تعد الدول الأوروبية، وفي مقدمتها فرنسا، ترى أن المشكلة الحالية تكمن فقط في الاتفاق النووي، رغم أهميته بالطبع، وإنما تتجاوز ذلك بشكل كبير، وهو ما يبدو واضحًا من المهلة الأخيرة التي منحتها فرنسا إلى إيران والولايات المتحدة الأمريكية، والتي أرفقتها بالدعوة إلى التفاوض حول "البرنامج النووي والأمن في الشرق الأوسط"، وهى خطوة لها مغزاها وتوحي بأن العواصم الأوروبية تقترب، بسبب التصعيد الإيراني، إلى حد كبير، من السياسة الأمريكية القائمة على أن الاتفاق النووي يمثل عنوانًا رئيسيًا للخلافات مع طهران، لكنه ليس العنوان الوحيد، في ظل وجود ملفات خلافية أخرى لا تقل أهمية، على غرار الدعم الإيراني للفواعل من غير الدول، وبرنامج الصواريخ الباليستية.
هنا، يمكن القول إن الإجراءات التصعيدية المتواصلة من جانب طهران ربما تفرض أزمة حقيقية في علاقاتها مع الدول الأوروبية في المرحلة القادمة، بعد أن كانت تلك الدول حريصة على تبني إجراءات لمواصلة تعاملاتها الثنائية مع إيران في الفترة الماضية، وهو ما سوف يزيد من حدة الضغوط التي تتعرض لها في الوقت الحالي، وهى الضغوط التي سوف تدخل مرحلة جديدة في حالة ما إذا أقدمت طهران على خطوتها التصعيدية الرابعة في نوفمبر القادم.