بعد عودة رئيس مجلس الوزراء اللبناني "سعد الحريري" للبنان، في 22 نوفمبر الجاري (بعد نحو 3 أسابيع من تقديم استقالته في 4 نوفمبر الجاري من الرياض)، ولقائه رئيس الجمهورية "ميشال عون"، ورئيس مجلس النواب "نبيه بري"، أعلن استجابته للرئيس "عون" بالتريث في تقديم استقالته، إفساحًا للمجال أمام الحوار والمشاورات لتطبق الشروط الثلاثة التي طرحها لثنيه عن تقديم تلك الاستقالة، وهي كالتالي:
1- صون اتفاق الطائف (كشفت بعض المصادر أن المقصود بهذا البند هو تسليم "حزب الله" لسلاحه، وفقًا لما جاء في الاتفاق، والذي نص في مادته الثانية على حل جميع الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية، وتسليم أسلحتها إلى الدولة اللبنانية خلال 6 أشهر من التصديق على الاتفاق).
2- التطبيق الفعلي للنأي بالنفس، واعتبر "الحريري" أن النأي بالنفس عن كل ما يحصل حول لبنان هو السياسة الأساسية التي تحمي لبنان من أي مشكلات في المنطقة.
3- عدم الإضرار بالعلاقات مع الدول العربية، مشددًا على ألا تكون السياسة اللبنانية على حساب الأشقاء العرب، وإلا فسيكون له موقف آخر.
تيار الممانعة:
وقد تمثلت أهم ردود الفعل على شروط "الحريري"، على النحو التالي:
لقي إعلان "الحريري" تريّثه في الاستقالة، وطرحه شروطًا لعدم تقديمها، ردود فعل من المحور الإيراني وقوى "8 مارس"،على النحو التالي:
1- الموقف الإيراني: نقل التلفزيون الرسمي الإيراني عن قائد الحرس الثوري "محمد علي جعفري" (في 23 نوفمبر الجاري)، أن سلاح "حزب الله" ضروري لقتال عدو الأمة اللبنانية وهو إسرائيل، مضيفًا أنه بطبيعة الحال يجب أن يمتلك الحزب أفضل الأسلحة لحماية أمن لبنان، وبالتالي فإن نزع سلاح الحزب مسألة غير قابلة للتفاوض.
2- "حزب الله": اعتبرت كتلة "الوفاء للمقاومة" النيابية في بيان أخير لها أن عودة رئيس الحكومة "سعد الحريري" إلى البلاد، والتصريحات والمواقف المختلفة التي تبعتها؛ تبشر بإمكانية عودة الأمور إلى طبيعتها>
3- رئيس الجمهورية "ميشال عون": أكد أن لبنان اجتاز خلال الأيام الأخيرة الأزمة الحكومية عبر تحصين وحدته الداخلية، وتخطي الأزمة بجهد دبلوماسي كبير، وأن لبنان يتعامل مع غيره من الدول من باب المساواة والندّية وليس من باب الخضوع والإذعان.
4- التيار الوطني الحر: أكد وزير الخارجية اللبناني زعيم التيار "جبران باسيل" (خلال الجلسة الافتتاحية لمؤتمر الطاقة الاغترابية في المكسيك) أن لبنان تتبع سياسة خارجية قوامها المبادئ ومصلحة لبنان فقط، مشيرًا إلى أن رئيس الجمهورية تحرك بقوة، ورئيس الحكومة عاد حرًّا.
5- الإعلام التابع لحزب الله: نشرت صحيفة "الأخبار" الموالية للحزب العديد من المقالات التي تؤكد أن محاولة الضغط على محور المقاومة باءت بالفشل، وأن تيار المستقبل رحب بقرار التريث عن الاستقالة، مع توقع أن يسفر تريث الحريري عن استقالته عن صدع في قوى "14 مارس".
ضغوط دولية:
هناك ضغوط دولية مُورست على الحريري لثنيه عن تقديم استقالته، حفاظًا على استقرار الدولة، ودفعه إلى ممارسة دوره الرسمي كرئيس للحكومة وكخط الدفاع الأول للوقوف ضد هيمنة المحور الإيراني في لبنان، مع إعطائه ضمانة بدعمه خلال الفترة المقبلة، وذلك على النحو التالي:
1- الدور الفرنسي: برز التحرك الفرنسي بعد تقديم "الحريري" استقالته، في 4 نوفمبر الجاري، عبر الزيارات واللقاءات التي أجراها المسئولون مع أطراف الأزمة (لبنان، السعودية، إيران)، وقد أكد الرئيس الفرنسي للرئيس اللبناني التمسّك الجامع للمجموعة الدولية بوحدة لبنان وسيادته واستقراره، مشددًا على أن استقرار لبنان يشكِّل أولوية فرنسية، وهو هدف سامٍ لعمل فرنسا في الشرقين الأدنى والأوسط.
2- الدور الأمريكي: تلقّى رئيس مجلس الوزراء "سعد الحريري"، في 24 نوفمبر الجاري، اتصالًا هاتفيًّا من مستشار الأمن القومي الأمريكي الجنرال "هربرت مكماستر"، الذي أكّد له تمسّك الإدارة الأمريكية باستقرار لبنان ودعمها للدولة ومؤسّساتها الشرعيّة، كما أبرق الرئيس الأمريكي لسعد الحريري، في 23 نوفمبر الجاري، مشددًا على أن بلاده ستواصل دعم جهود لبنان لحماية استقراره واستقلاله وسيادته.
الموقف العربي:
تمثّل الموقف العربي، قبل قرار تريّث "الحريري" في تقديم استقالته، في البيان الختامي للاجتماع الطارئ لوزراء الخارجية العرب (عُقد في القاهرة يوم 19 نوفمبر الجاري)، والذي أدان الدور الإيراني وميليشياته المسلحة في المنطقة. ولكن لبنان والعراق تحفظتا على بعض بنوده (البنود رقم: 4، و6، و7، و8)، وهي المتعلقة بدور إيران في بث الفتنة الطائفية ودعم الجماعات المسلحة، ووصف "حزب الله" بأنه منظمة إرهابية، وفي الوقت نفسه شريك في الحكومة اللبنانية.
وبعد الاجتماع، زار الأمين العام لجامعة الدول العربية "أحمد أبو الغيط" لبنان، لعقد لقاءات مع رئيسي الجمهورية ومجلس النواب اللبنانيين، حيث أكد أن الجميع يعترف بخصوصية الوضع اللبناني، وأنه لا يمكن أن تكون الأرض اللبنانية مسرحًا لأي صدام عربي-إيراني، ولا أحد يتهم الحكومة اللبنانية بالارهاب، بل الإشارة تأتي إلى أن أحد شركاء الحكومة متهم بالإرهاب.
انكشاف لبنان:
كشفت التفاعلات الداخلية والخارجية التي أعقبت تقديم "الحريري" استقالته من السعودية، انكشاف لبنان على الأدوار الإقليمية والدولية، بما يُرجِّح دخول لبنان خلال الفترة المقبلة مرحلة تذبذب ما بين إحداث التهدئة وتصعيد الأزمة، وذلك للأسباب التالية:
1- البعد الدولي: عكست الأزمة حرية في مجال الحركة للمحور الإيراني مدعومًا من روسيا، ويُذكر في هذا الشأن تأكيد السفير الروسي في لبنان (في حديثه إلى "إذاعة لبنان" في 19 نوفمبر الجاري) أن بلاده تَعتبر المعادلة اللبنانية الحالية مناسبة لهذه المرحلة (المقصود بالمعادلة تشكيل الحكومة الحالية وتولي الرئيس عون سدة الرئاسة)، وأن موضوع نأي لبنان بنفسه عن الأزمة السورية كان يجب أن يحدث منذ البدء قبل دخول موسكو وطهران و"حزب الله" في حرب مع الإرهاب، وبالتالي فانسحاب "حزب الله" من سوريا أمر ليس واردًا، وتأتي تلك التصريحات للتأكيد على علاقة تطورات الأزمة السورية بالوضع الداخلي في لبنان.
2- السياق الإقليمي: أسفرت تطورات الفترة الماضية عن إحداث صدع في العلاقات العربية اللبنانية الرسمية، خاصة بعد قرار وزراء الخارجية العرب بإدانة حزب الله كمنظمة إرهابية، ويتضح من الأزمة الراهنة أنه لا يمكن الاتكال على التسوية الإقليمية في تقويض نشاط "حزب الله" وإيران في منطقة الشرق الأوسط، حيث إن الأزمة اللبنانية لا ترتبط بانتهاء الأزمة السورية لاستمرار الفاعلين في الأزمة في أداء دورهم، خاصة "حزب الله"، وهو ما يُرجِّح استمرار اتخاذ التجاذبات الإقليمية لبنان كمسرح لها، وذلك حتى أفول أحد الأطراف وفوز الطرف الآخر بجميع المكاسب.
3- الإطار الداخلي: يُثار تساؤل عن مدى جدية مطلب "الحريري" بشأن نزع سلاح "حزب الله"، وفي التقدير أنه أراد رفع السقف للحصول على مكاسب أخرى تتعلق بالمطلبين الآخرين (النأي بالنفس، وحسن العلاقات مع الدول العربية)، لأنه من المحال أن يقدم "حزب الله" على هذه الخطوة، ومن دلالات ذلك قطع قائد الحرس الثوري الإيراني الطريق أمام أي تساؤلات حيال قبول إيران التفاوض على مصير سلاح "حزب الله"، لأن سلاح الحزب لا يتعلق بلبنان فقط بل بكل دول المنطقة.
كما أن المشاورات الداخلية في لبنان لحلحلة الموقف الحالي لا ترتبط بسقف زمني، وهو ما يشير إلى دخول لبنان في أزمة مفتوحة حتى التوصل إلى صيغة توافقية في كيفية التعاطي خارجيًّا مع دول المنطقة، وإن كان هذا التعاطي سيرتبط بالمواقف الرسمية فقط.