كما كان مُتوقَّعاً، أسفرت نتيجة الجلسة الخاصة التي عقدها البرلمان الياباني، يوم 11 نوفمبر 2024، عن احتفاظ رئيس الوزراء الحالي، شيجيرو إيشيبا، بمنصبه، والذي كان قد تولاه في الأول من أكتوبر الماضي بَعْدَ استقالة رئيس الوزراء السباق، فوميو كيشيدا.
هذه الجلسة جاءت بَعْدَ الانتخابات التي أُجرِيَت في 27 أكتوبر؛ إذ يتطلب القانون إجراء تصويت داخل البرلمان لاختيار رئيس الوزراء خلال 30 يوماً من إجراء الانتخابات العامة. وقد تغلَّب إيشيبا على زعيم المعارضة الرئيسي، يوشيهيكو نودا، بحصوله على 221 صوتاً مقابل 160 صوتاً.
ولقد استندت إعادة اختيار إيشيبا، الذي يتزعم الحزب الديمقراطي الليبرالي، في منصب رئاسة الحكومة القادمة، إلى عاملين رئيسيين، العامل الأول هو أن ائتلاف الأحزاب المعارضة له ضعيف ومُجزأ إلى الحد الذي لا يسمح بالتوافق على وتأمين عدد الأصوات اللازمة لاختيار مرشحه لرئاسة الحكومة. العامل الثاني هو أن مواقف إيشيبا المتشددة، فيما يتصل بقضايا الدفاع والأمن القومي، تتفق، في العموم، مع مواقف الأحزاب الأصغر التي قد يلجأ إلى التفاوض معها لتشكيل الحكومة القادمة.
إيشيبا وتحديات الداخل:
لن تكون رحلة إيشيبا في قيادة الحكومة الجديدة في الفترة المقبلة سهلة على الاطلاق؛ فمن ناحية، يشهد مجلس النواب الياباني، بعد الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي جرت يوم 27 أكتوبر 2024، انقساماً واضحاً بين قوى الائتلاف الحاكم لليابان، والمُكوَّن من الحزب الليبرالي الديمقراطي وحزب كوميتو، من جهة، وبين كتلة الأحزاب المعارضة والمستقلين من جهة أخرى؛ حيث انخفض عدد مقاعد الحزب الليبرالي الديمقراطي في هذا المجلس إلى 191 مقعداً بعدما كان يشغل 247 مقعداً قَبْل الانتخابات الأخيرة، وهي خسارة مذهلة قدرها 56 مقعداً. كما تكبَّد حزب كوميتو خسارة مدوية أيضاً؛ إذ خسر 8 مقاعد، ليصل عدد مقاعده إلى 24 مقعداً؛ ما يجعل المجموع الإجمالي لكلا الحزبين هو 215 مقعداً فقط، وهو ما يقل بنحو 18 مقعداً عن الحد الأدنى للأغلبية البرلمانية، وهو 233 مقعداً، من أصل 465 مقعداً هي مجموع مقاعد البرلمان.
وبالتزامن مع ذلك، أسفرت نتائج الانتخابات الأخيرة عن حصول أحزاب المعارضة والمستقلين على 238 مقعداً، وكان في مقدمة هذه الأحزاب كلٌ من: "الحزب الديمقراطي الدستوري"، وهو حزب المعارضة الرئيسي، والذي حصل على 148 مقعداً، بينما حصل حزب "نيبون إيشين" (حزب الابتكار الياباني) على 38 مقعداً، فيما حصل "الحزب الديمقراطي التقدمي" على 28 مقعداً، وحزب "ريوا شينسينغومي" على 9 مقاعد، و"الحزب الشيوعي الياباني" على 8 مقاعد، و"الحزب الديمقراطي الاجتماعي" على مقعد واحد فقط.
في ظل هذه النتائج، فإن هناك سيناريوهيْن محتمليْن أمام رئيس الوزراء الياباني، شيجيرو إيشيبا، لتشكيل الحكومة الجديدة. السيناريو الأول هو تشكيل "حكومة أقلية" مع محاولة القيام بـ"تحالف جزئي" مع حزب أو أكثر من أحزاب المعارضة، حسب مشروعات القوانين المطروحة للنقاش، مِثْل مقترحات الميزانية والمعاهدات الدولية؛ ومع ذلك، فإن مثل هذه الوضعية قد لا تُحقِّق الاستقرار المأمول لحكومة إيشيبا القادمة. فوفق هذا التصور، ستكون الحكومة الجديدة عُرضةً للانهيار إذا ما فشل إيشيبا في تلبية مطالب معارضيه.
أما السيناريو الثاني، فهو توسيع الائتلاف الحاكم الحالي ليشمل حزباً جديداً، حيث من الممكن أن يتحالف الحزب الليبرالي الديمقراطي وحزب كوميتو، مع أحد الأحزاب الصغيرة لتشكيل الحكومة الجديدة. وفي هذا السياق، تم طَرْح حزب "نيبون إيشين"، ثاني أكبر حزب معارض، و"الحزب الديمقراطي التقدمي"، ثالث أكبر حزب، كشريك صغير مُحتمَل للائتلاف الحاكم. لكن بعض المسؤولين من كلا الحزبين عبَّروا عن رفضهم الانضمام إلى الائتلاف الحاكم، خاصة وأنهم كانوا قد انتقدوا الحزب الليبرالي الديمقراطي بسبب الفضائح المالية الأخيرة بين صفوفه، مشيرين إلى أن هذا الانضمام سيكون بمثابة "خيانة" للناخبين الذين أدلوا بأصواتهم لهم.
ويشار في هذا السياق، إلى أن رئيس الوزراء الياباني ما يزال يُواجِه بعض الانتقادات الشعبية نتيجة الخسارة الكبيرة التي مُنِيَ بها الحزب الليبرالي الديمقراطي في الانتخابات الأخيرة؛ بسبب عدم قيامه باتخاذ الإجراءات الكافية لمواجهة الفضائح المالية التى طالت عدداً من قادة أجنحة الحزب الكبار، والذين لم يبلغوا عن نحو أربعة ملايين دولار من التبرعات السياسية، بل قاموا بوضعها في صناديق غير خاضعة للمساءلة؛ وهو الأمر الذي دفع إلى استقالة رئيس الحكومة السابق فوميو كيشيدا من منصبه كزعيم للحزب الليبرالي الديمقراطي.
من ناحية أخرى، من المُتوقَّع أن يُواجِهَ رئيس الحكومة القادمة أيضاً تحدياً اقتصادياً صعباً، يتمثل في ضرورة تغيير السياسات الاقتصادية، التي طبقها كيشيدا، والتي كانت تُعرَف بـ"الرأسمالية الجديدة"؛ حيث ما تزال هذه السياسات تُواجِه انتقادات شعبية شديدة لفشلها في تحفيز الأنشطة الاقتصادية وتقليص التفاوت المتزايد في الدخل بين المواطنين اليابانيين.
وكان الاقتصاد الياباني، الذي كان مُثقلاً بالفعل بتقلص القوى العاملة وشيخوخة السكان، قد تعرَّض لمزيد من الضغوط، في ظل الحكومة اليابانية السابقة؛ بسبب ارتفاع معدلات التضخم وضعف قيمة الين، الذي ظل واحداً من أسوأ العملات أداءً على المستوى العالمي؛ مما دفع البنك المركزي الياباني إلى رفع أسعار الفائدة لأول مرة منذ 17 عاماً خلال الأسابيع الأخيرة. وقد ترتب على ذلك "فقدان الثقة" من جانب قطاعات واسعة من المواطنين اليابانيين، الذين تأثروا سلبياً بارتفاع أسعار المواد الغذائية والوقود المُستورَد؛ نتيجة ارتفاع فاتورة الواردات بسبب ضعف قيمة العملة، فضلاً عن اضطراب سلاسل التوريد العالمية؛ مما تسبب في تآكل قدراتهم الشرائية.
تحديات أمام توجهات إيشيبا الخارجية:
على المستوى الخارجي، من المُتوقَّع أن تلقى توجهات إيشيبا الخارجية والأمنية انتقادات عديدة على المستويات المحلية والدولية؛ حيث يشتهر إيشيبا بأنه أحد "الصقور المتشددة" في السياسة الخارجية والأمن القومي، خاصة وأنه قد دأب، بفضل خبرته الطويلة في مجال الدفاع والشؤون العسكرية، على الدفع بقوة نحو تعزيز القدرات العسكرية اليابانية، من خلال خططه لزيادة الإنفاق الدفاعي وتحديث البنية الأساسية العسكرية اليابانية. كما دعا إيشيبا أيضاً إلى إنشاء "حلف شمال الأطلسي الآسيوي" لمواجهة التهديدات الصاروخية والنووية المتزايدة من كوريا الشمالية والنشاط العسكري المتزايد للصين في بحريْ الصين الشرقي والجنوبي، وذلك في إطار اقتراحه فكرة إنشاء "رابط عضوي" بين شبكات الدفاع القائمة بقيادة الولايات المتحدة، مثل: تحالف أنزوس مع أستراليا ونيوزيلندا، وتحالفاتها مع كوريا الجنوبية والفلبين.
من جهة أخرى، برز إيشيبا أيضاً كأحد الأصوات القليلة التي تدعو إلى مراجعة الاتفاقيات المتعلقة بنشر القوات الأمريكية في اليابان؛ إذ أشار إلى رغبته في تعديل اتفاقية التحالف مع الولايات المتحدة لتحقق المزيد من المساواة مع واشنطن. وانتقد بعض جوانب التحالف الأمني مع الولايات المتحدة، الذي يُعد حجر الزاوية في السياسة الخارجية اليابانية، مشيراً إلى أن العلاقات مع واشنطن "غير متكافئة"، حيث تستضيف اليابان نحو 55 ألف جندي أمريكي على أراضيها، وتتحمل 75% من تكاليف تشغيل القواعد الأمريكية.
ولا شك في أن مِثْلَ هذه التوجهات الأمنية والخارجية لرئيس الوزراء الياباني من شأنها أن تثير "عاصفة" من القلق والهواجس لدى عدد كبير من الدوائر الشعبية اليابانية، التي تؤمن بالتوجهات السلمية التي يؤكد عليها الدستور الياباني في مادته التاسعة. كما أنها سوف تثير مشاعر القلق لدى معظم الدول الآسيوية المجاورة، التي عانت من ويلات العسكرية اليابانية قَبْلَ وأثناء الحرب العالمية الثانية. كذلك، فإنه من المُتوقَّع أن تقود توجهات إيشيبا الأمنية إلى توتير العلاقات مع إدارة الرئيس الأمريكي القادم دونالد ترامب، الذي يرفع شعار "أمريكا أولاً"، ويطالب حلفاء الولايات المتحدة، مثل اليابان، بمزيد من المساهمات المالية لتغطية نفقات القواعد العسكرية الأمريكية المنتشرة للدفاع عنهم.
على أية حال، يبدو أن حكومة إيشيبا الجديدة ستظل محفوفة بالمخاطر في المدى المنظور نتيجة التحديات السياسية والاقتصادية والأمنية التي تواجهها؛ إذ سيكون مجلس النواب الياباني قادراً على تمرير اقتراح بحجب الثقة عن هذه الحكومة في أي لحظة، سواء قرَّر إيشيبا تشكيل "حكومة أقلية" أم قرَّر التحالف مع أحد الأحزاب الأصغر في البرلمان.
وفي ظل هذه المخاطر، وخلافاً لما كان يطمح إليه إيشيبا، من المُرجَّح أن يبتعد رئيس الحكومة اليابانية الجديدة عن التوجهات الداخلية والخارجية المثيرة للجدل، ومنها تعديل المادة التاسعة من الدستور السلمي الياباني، ورفع القدرات التسليحية اليابانية، والدعوة إلى إنشاء "حلف الناتو الآسيوي"، فضلاً عن تراجعه شبه المؤكد عن إقامة علاقات "متكافئة" مع الولايات المتحدة، في ظل الإدارة الأمريكية الجديدة للرئيس دونالد ترامب، واضعاً أمام عينيه القضايا الأخرى التي تحظى بقبول شعبي واسع.
ومع ذلك، ليس من المُستبعَد على الإطلاق أن تنجح الحكومة اليابانية القادمة، في ظل خبرة إيشيبا السياسية والعسكرية الواسعة، في تطبيق سياسات جديدة تدعم من الجهود الرامية إلى إنعاش الاقتصاد، وتحسين مستويات معيشة المواطنين، ومكافحة الفساد، فضلاً عن إعادة التوازن للتحالفات اليابانية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، من أجل ردع خصومها في الصين وكوريا الشمالية.