عرض: نسرين جاويش - باحثة في العلوم السياسية
اتساقًا مع توقعات الكثير من التقارير الدولية التي تشير إلى أن الاقتصاد العالمي سيشهد خلال هذا العام جملة من التحديات بسبب النزاعات التجارية، والسياسات الحمائية لبعض الدول، والعلاقات المتوترة بين القوى الكبرى، ولا سيما بين الولايات المتحدة والصين، والاضطرابات السياسية، والتباطؤ المتوقع في معدلات النمو؛ أظهر تقرير لإحدى كبرى شركات الاستشارات الدولية "برايس ووتر هاوس كوبرز" (PwC) البريطانية أن المدراء التنفيذيين للشركات العالمية لديهم نظرة حذرة للاقتصاد العالمي في ٢٠١٩.
توقعات حذرة
تمثلت المخاطر الخمس الأكبر التي يتوقعها المديرون التنفيذيون خلال العام الحالي في: حالة عدم اليقين الاقتصادي والسياسي، والنزاعات التجارية، إلى جانب الإفراط في القيود والقواعد التنظيمية، ونقص العمالة الماهرة، والقرصنة المعلوماتية. وفي ظل النزاع التجاري بين الولايات المتحدة والصين، فإن نسبة المديرين الصينيين الذين يعتبرون واشنطن سوقًا لنمو أنشطتهم تراجعت بشدة.
ووفقًا لاستطلاع الرأي السنوي الذي تُجريه مؤسسة "برايس ووتر هاوس كوبرز"، يتوقع 29٪ من المدراء التنفيذيين (1378) لشركات عالمية، أن النمو الاقتصادي العالمي سوف ينخفض خلال هذا العام بزيادة قدرها ستة أضعاف عن توقعات العام الماضي. في حين يرى ٤٢٪ أن الاقتصاد العالمي سيتحسن خلال ٢٠١٩، وقد كانت تلك النسبة ٥٧٪ في استطلاع العام الماضي (٢٠١٨). هذا بالإضافة إلى توقّعاتهم انخفاض إيرادات الشركات والمنظمات على المديين القصير والمتوسط.
ويتوقع ٣٨٪ من المدراء التنفيذيين أن منطقة الشرق الأوسط ستكون من أكثر المناطق التي ستشهد انخفاضًا في النمو الاقتصادي على المستوى العالمي، وقد كانت تلك النسبة في استطلاع العام الماضي 10%. ووفقًا لنتائج الاستطلاع فإن منطقة غرب أوروبا تأتي في المرتبة الثانية بنسبة 33% مقابل 4% في العام الماضي.
وعن نتائج استطلاع هذا العام، أشار رئيس مجلس إدارة المؤسسة "بوب موريتز" أنها بمثابة انقلاب إلى حد كبير مقارنة بنتائج استطلاع العام الماضي (٢٠١٨) الذي تزامن مع تصاعد التوترات التجارية والسياسات الحمائية بين القوى الكبرى، وعليه تراجعت الثقة في مناخ الاقتصاد العالمي.
واتساقًا مع سياق التقرير المنتهي إلى زيادة حالة عدم اليقين، وانخفاض الثقة في آفاق الإيرادات المتوقعة اقتصاديًّا؛ فقد سُجّل التحول الأكثر وضوحًا في صفوف قادة الأعمال في الولايات المتحدة، وكذلك في سويسرا، وفقًا للنتائج الواردة بالتقرير، حيث اعتقد ما يقرب من نصف المدراء التنفيذيين من 30 شركة مُدرجة في البورصة السويسرية أن معدل النمو الاقتصادي سينخفض على مدار العام الجاري.
ويُضيف التقرير أنه في ظل ممارسة السياسيين الشعبويين التأثير على السياسة الاقتصادية؛ فإن النتيجة الحتمية والمُعترف بها تتمثل في سيادة حالة من عدم اليقين. ويستشهد التقرير بتصريح للمدير التنفيذي لبنك دي بي إس، البنك الأكبر بجنوب شرق آسيا، ومفاده: "إن النمو العالمي سيكون أبطأ؛ ولكنه لن يصل إلى حالة الركود التام خلال الأشهر الثمانية عشر المقبلة، إلا إذا استمرت حالة عدم اليقين حول التجارة العالمية، واستمرار إصدار الصين للسندات والتصادم التجاري مع الولايات المتحدة".
وعن عوامل تهديد نمو الاقتصاد العالمي، أشار التقرير إلى أن العائق التشريعي لا يزال يحتل المركز الأول بنسبة 35% خلال استطلاع هذا العام مقابل 42% في العام الماضي. وكانت حالة عدم اليقين المرتبطة بالسياسات المتبعة كأحد عناصر التهديد تحتل نسبة 35%، وهي المرة الأولى التي يسأل فيها الاستطلاع المديرين التنفيذيين عن عدم اليقين بشأن السياسات. وعلى عكس استطلاع العام الماضي، جاء الإرهاب كمهدِّد لممارسة الشركات أعمالها وتحقيق النمو في المرتبة الثالثة والعشرين بنسبة 13% مقابل 41% في العام الماضي الذي احتل المرتبة الثانية.
ورغم اختلاف النسب في العام الجاري عن مثيلاتها بالعام المنصرم، فإن العوامل الناشئة في التقرير الحالي ترتبط بمحددات السياسة والبيئة الداخلية داخل الدول. ويُقدم التقرير تحليلًا خاصًّا بكل منطقة على حدة لتحتل الشعبوية المركز الأول بمنطقة أمريكا اللاتينية بنسبة 60%، وعدم الاستقرار الجيوسياسي في منطقة الشرق الأوسط بنسبة 53%، وعدم اليقين بشأن السياسات في إفريقيا بنسبة 49%.
ويُشير التقرير إلى أن النمو الاقتصادي يجب أن يبدأ من داخل الدول نفسها، ويتجه إلى خارجها، خاصة مع ما تواجهه دول العالم المختلفة من قضايا شائكة على نحو مشترك مثل ظاهرتي الإرهاب وتغير المناخ. وعليه، لا بد من إعادة النظر في التوجه نحو سهولة ممارسة الأعمال التجارية في داخل الدول، بداية من العمل على القضاء على حالة عدم اليقين بشأن السياسات العامة، والعمل على توفر المهارات الأساسية في العمالة، والقضاء على النزاعات التجارية الداخلية، لتهيئة الدول وجعلها جاذبة للاستثمارات.
ويؤكد التقرير أيضًا أهمية توفير وتدفق المعلومات، حيث يعمل الرؤساء التنفيذيون على سد الثغرات الخاصة بالحصول على المعلومات، وتنمية قدراتهم على تحليلها واتخاذ قرارات أفضل، خاصةً مع ندرة العقول "الموهبة التحليلية" ذات القدرات الاستثنائية على دمج واستخراج وتحليل البيانات المتدفقة عبر عدة قنوات، ولا سيما مع الاتجاه العالمي نحو "الذكاء الاصطناعي". وقد أفاد التقرير بأن المسح الذي تم إجراؤه هذا العام ألقى الضوء على نتيجة هامة مفادها "فجوة المعلومات"؛ وهي الفجوة بين احتياجات المديرين التنفيذيين للبيانات، وما هم في حاجة فعلية إليه من معلومات.
استراتيجية مكافحة المخاطر
ورد بالتقرير عدد من الاستراتيجيات التي حددها المدراء التنفيذيون للتعامل مع المخاطر الناشئة عن انخفاض النمو الاقتصادي المتوقع، وهي على النحو التالي:
أولًا: النظر إلى ما هو أبعد من الأرقام كقياس لفعالية الأداء، والقفز لقياس مؤشرات التقدم؛ من خلال العمل على عودة المساهمين للمشاركة في الاستثمارات المحلية، والحفاظ على استدامتها في داخل الدول.
ثانيًا: تسخير التكنولوجيا لتلبية حاجة المجتمع، وتسخيرها لخدمة أهداف التنمية بالشكل الصحيح. فالعصر الرقمي الذي يتجه إليه العالم في حاجة لتصميم برامج تكنولوجية قادرة على التعامل مع المصاعب الحالية بما تتجاوز حدود المؤسسات من أجل الوصول إلى تطبيق تكنولوجيا مستدامة وإيجابية.
ثالثًا: الاهتمام والتركيز على العنصر البشري الذي هو العامل الأساسي في مشاريع التحول الرقمي؛ والتدريب على المهارات الرقمية، والسعي نحو الابتكار الحقيقي وتنمية مهارات الإبداع وحل المشكلات جنبًا إلى جنب مع تنمية المهارات التقنية بهدف التحرك عبر الحدود الوطنية والوصول للتعاون بين الحكومات والشركات العالمية.
ويُختتم التقرير بالتأكيد على أن توقعات المديرين التنفيذيين لنمو إيرادات شركاتهم والعائدات العالمية الفعلية ونمو الناتج المحلي الإجمالي في الأعوام القادمة وانكماشها في العام الحالي لا بد من أخذها على محمل الجد. بعبارة أخرى، يمكن اعتبار ثقة المدراء التنفيذيين في الإيرادات مؤشرًا رئيسيًّا لاتجاه الاقتصاد العالمي.
المصدر:
Price water house Coopers, “22nd Annual Global CEO Survey: CEOs’ curbed confidence spells caution”, 2019.