أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

الشرطة البيئية:

سُبل تفعيل دور مؤسسات إنفاذ القانون في مكافحة تغير المناخ

11 ديسمبر، 2023


يعترف عدد متزايد من قادة العالم بالتبعات الكارثية للتغير المناخي على المجتمعات البشرية. فعلى سبيل المثال، يصف الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، التغير المناخي بأنه "خطر وجودي مباشر" وبأنه "سوف يقود، حال عدم مجابهته، إلى نتائج كارثية على الشعوب وكل النظم البيئية التي تمدنا بأسباب الحياة". بينما يخلص التقرير السادس للجنة الدولية بخصوص تغير المناخ إلى أن التغير المناخي بفعل النشاط البشري قد أحدث بالفعل ظواهر ترتبط بتطرف المناخ في كل إقليم في العالم، مثل الموجات الحارة والجفاف.

ولعل إحدى السمات الجوهرية للمخاطر المرتبطة بارتفاع درجة حرارة الأرض أنها مخاطر عابرة للحدود القومية، فالجفاف ونقص المياه والفيضانات وتطرف الطقس وارتفاع منسوب مياه البحر؛ كلها ظواهر تؤثر في العديد من الدول في نفس الوقت. وبتعبير آخر، يتسم هذا التهديد بأنه عابر للحدود، وأن تبعاته لا يمكن قصرها على نطاق جغرافي محدد، ولهذا السبب يبدو التعاون الدولي أمراً جوهرياً لتعظيم القدرات العالمية والإقليمية اللازمة لمجابهة المخاطر البيئية المرتبطة بتغير المناخ. 

اهتمام دولي: 

احتل التصور السائد بخصوص طبيعة التغير المناخي والمخاطر الكارثية التي يهدد بجلبها على الإنسانية، مكانة مهمة في النقاش بين الأكاديميين والسياسيين منذ نهاية ثمانينيات القرن الماضي، ثم جاء إقرار اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية لمكافحة التغير المناخي عام 1992، التي يمكن اعتبارها أول استجابة دولية لمشكلة التغير المناخي باعتبارها تهديداً أمنياً.

وتعني الطبيعة متعددة الأبعاد لكل من ظاهرة التغير المناخي ومفهوم الأمن، أن استجابات المنظمات الدولية يجب أن تشمل أبعاداً مختلفة. فعلى سبيل المثال، درج الاتحاد الأوروبي على اعتبار أن مشكلة التغير المناخي تُفاقم التهديدات الأخرى كمخاطر الهجرة واللجوء (Threat Multiplier)؛ وهي بذلك تؤدي إلى تفاقم الاضطرابات ومظاهر عدم الاستقرار في الدول التي تعاني هشاشة في مؤسساتها المختلفة. 

وفي سياق مماثل، يؤكد التجمع الاقتصادي لدول غرب إفريقيا "إيكواس" أن مخاطر التغير المناخي باتت تشكل تهديداً خطراً على أمن الإقليم، ويَعتبر التجمع أن التلوث البيئي عامل هيكلي مسؤول عن الصراعات المسلحة. كما ضمّنت منظمة "آسيان" في عام 2012 التغير المناخي في خطابها الرسمي، من خلال تبني إعلان سنغافورة بخصوص الاستدامة البيئية والتغير المناخي، والذي يصف التغير المناخي بأنه خطر يقوض شروط التنمية. 

إجمالاً، يميل الخطاب السائد في تلك المؤسسات إلى التركيز على آثار التغير المناخي على عمليات بناء السلام، وأحوال العيش وكسب الرزق، والتنمية. ويُعد الاتحاد الإفريقي من بين المنظمات الدولية التي تربط صراحة بين خطابها عن الأمن البيئي وخطابها الرئيسي عن الأمن وبناء السلام.

عوامل مؤثرة:

على الرغم من الاهتمام الدولي المتنامي بمخاطر التغير المناخي، فإن جهود تصميم نظام مؤسسي فعّال لمواجهة التغيرات المناخية تواجه العديد من العقبات. فالدول النامية والقوى الصاعدة، وعلى رأسها الصين وروسيا، معنية بالتنمية والتصنيع وليس بقضايا الانبعاث الحراري. والولايات المتحدة الأمريكية، أكبر مصدر لانبعاثات غازات الانحباس الحراري على مستوى العالم، ليست طرفاً في الاتفاقية الإطارية بشأن التغير المناخي. ويعتمد تفعيل خطاب الأمن البيئي على إدراك الدول لأهمية وإلحاح التعاون في هذا الشأن، وتؤثر مجموعة من الاعتبارات في دوافع الدول لتعبئة طاقاتها ومعالجة مخاطر التغير المناخي، ومن تلك الاعتبارات ما يلي: 

1- قدرة الدول "المفترضة" على الصمود في وجه التغيرات المناخية، من خلال نظم الري وبناء السدود مثلاً، إذ يبدو- للوهلة الأولى على الأقل- أن الدول التي تسهم بالنصيب الأكبر في الانبعاثات الحرارية تملك القدرة الأكبر على التواؤم مع تلك التغيرات.

2- ارتباط العديد من التنبؤات بخصوص حالة المناخ بأفق زمني بعيد نسبياً، وتتطلب مكافحة التغير المناخي تحمل الدول، ولاسيما النامية، تكاليف كبيرة في الحاضر من أجل منافع غير مؤكدة في المستقبل، وتستطيع تلك الدول، في المقابل، التركيز على التنمية الاقتصادية وجني منافع مؤكدة منها.

3- استعداد دول العالم للإسهام ولو بنصيب ضئيل في تجنب المخاطر الحادة والكارثية للتغير المناخي، والتي تتضمن حدوث اضطرابات مفاجئة في النظام البيئي على نحو يجعل التغير المناخي مكافئاً للتهديدات الأمنية التقليدية. ومن جهة أخرى، يبدو أن الدول لديها تقديرات مختلفة بخصوص تأثير التغير المناخي فيها، ومن ثم قد تُبدي درجة أعلى أو أقل من "التسامح" بخصوص ارتفاع درجة حرارة الأرض. مثلاً، يُتوقع أن تستفيد الزراعة في كل من روسيا وكندا من مناخ أكثر دفئاً.

وفي هذا السياق، تواجه جهود بناء نظام مؤسسي دولي للسيطرة على التغير المناخي، العديد من العقبات، فالدول لا تشترك في تقييمها للمخاطر والفرص المتضمنة. ويستند النظام الدولي الحالي لمكافحة التغير المناخي إلى إطار للتعاون يتسم بالشمول، انطلاقاً من أن هذه المشكلة عالمية الطابع، ما يستلزم تحركاً من جانب دول العالم كافة لمواجهتها، لكن هذا الإطار يجعل التفاوض بين الدول أشد تعقيداً، والوصول لحلول توافقية صعب المنال.

مبادرة لإنفاذ القانون: 

كشفت دولة الإمارات العربية المتحدة، في فبراير الماضي، عن المبادرة الدولية لإنفاذ القانون حول المناخ The International Initiative of Law Enforcement for Climate (I2LEC)، والتي ترعاها وزارة الداخلية الإماراتية بالشراكة مع مكتب الأمم المتحدة لمكافحة المخدرات والجريمة، وسوف تعمل هذه المبادرة كمنتدى لتنسيق الاستجابات العالمية لمشكلة التغير المناخي، وهي تستهدف ما يلي:

1- دعم البحوث العلمية حول أنماط الجريمة واتجاهاتها التي تؤثر في البيئة، وتأثير سيناريوهات التغير المناخي في عمليات إنفاذ القانون، فضلاً عن تبادل المعلومات بخصوص تحسين سياسات واستراتيجيات إنفاذ القانون للحيلولة دون وقوع تلك الجرائم و/ أو مكافحتها.

2- دعم القدرات المؤسسية لهيئات إنفاذ القانون لمكافحة الجرائم المرتبطة بتغير المناخ.

3- تعزيز التعاون الدولي والإقليمي بين مؤسسات إنفاذ القانون بخصوص الجرائم التي تؤثر في البيئة وتبادل المعلومات والخبرات والممارسات المثلى في هذا الشأن.

استراتيجيات التفعيل:

بفعل التهديدات التي بات يثيرها موضوع التغير المناخي، تُبذل جهود ملموسة من قِبل بعض الدول لجعل مؤسسات إنفاذ القانون، وعلى رأسها قوات الشرطة، مسؤولة عن الحفاظ على البيئة ومد نطاق سلطتها إلى مجال مكافحة التغيرات المناخية. وبالفعل جعلت تلك الدول قوات الشرطة فاعلاً رئيسياً في الاستجابة للتغيرات الإيكولوجية، وهي بذلك تأمل في مد نطاق عمل هذه القوات لما يتجاوز نطاق عملها التقليدي وجعلها أكثر استعداداً وجاهزية لما يُتوقع من تطورات في هذا الشأن.

ويرى البعض أن جهود قوات الشرطة في هذا الخصوص سوف تتأثر بعوامل؛ مثل ندرة الموارد، والجرائم البيئية، وتزايد موجات اللجوء البيئي، والاضطرابات المدنية التي يمكن إرجاعها إلى التحديات المرتبطة بتغير المناخ. وعلى الرغم من أن تبعات التغير المناخي على الممارسات الشرطية ما تزال بحاجة إلى تحديد دقيق، يتوقع علماء الجريمة العديد من الآثار التي من شأنها تقويض الأمن الذي تُعد قوات الشرطة مسؤولة عن تعزيز الشعور به.

في ضوء ما سبق، يمكن القول إن ثمة ثلاث استراتيجيات رئيسية يمكنها الإسهام في تفعيل دور مؤسسات إنفاذ القانون في مكافحة التغير المناخي، وهي كما يلي:

1- تعزيز الوعي بالعلاقة بين البيئة والأمن لدى قوات الشرطة: يشير مفهوم التغير المناخي إلى ارتفاع درجة حرارة الأرض بفعل النشاط الصناعي الذي يعتمد على الوقود الأحفوري، وتستلزم مكافحة هذه الظاهرة الوعي بالتبعات الأمنية المُتوقعة لها، مثل:

أ- تفاقم الاضطرابات المدنية: تسلط أغلب التحليلات الضوء على تهديد الأمن القومي بفعل ازدياد موجات الهجرة من المناطق المتأثرة بصورة مباشرة بالتغير المناخي، وارتفاع منسوب مياه البحر. ويُتوقع أن يؤدي عدم كفاية الاستجابة الوطنية لتلك الظاهرة إلى النيل من ثقة المواطنين في قدرة الحكومة على توفير الحماية لهم.

ب- العنف المجتمعي: من المُحتمل أن يؤدي التنافس على الموارد، وتزايد معدلات الهجرة من المناطق المُتضررة من التغير المناخي بصورة مباشرة، إلى زيادة العنف بين الجماعات والتكوينات الإثنية المختلفة في بعض مناطق العالم. فعلى سبيل المثال، هناك دليل على أن الصراع في دارفور يُعزى جزئياً إلى زيادة معدلات التصحر والجفاف ونقص إمدادات المياه وكميات الأرض القابلة للزراعة. ومن جهة أخرى، يُتوقع أن يرتبط تزايد معدلات الهجرة إلى دول الشمال بالتغيرات المناخية، والعنف المجتمعي في صورة مظاهرات لقوى اليمين المتطرف والهجمات العنصرية ضد أفراد المجتمعات المهاجرة.

ولكل تلك الاعتبارات، يُتوقع أن يكون لتغير المناخ تبعات قوية على مؤسسات إنفاذ القانون، وفي مقدمتها قوات الشرطة، وذلك عبر أربعة أبعاد رئيسية؛ هي:

- تزايد الطلب على تأمين الحدود الوطنية: من المُرجح أن يكون هناك طلب متزايد على تأمين الحدود ضد الهجرة غير الشرعية من المناطق المُتضررة بفعل التغير المناخي. ومن المُتوقع في ظل الاتجاهات الحالية للظاهرة أن تصبح حماية الحدود القومية واعتقال المهاجرين غير الشرعيين أولوية لدى قوات الشرطة وحرس الحدود.

- التغير في معدلات الجريمة وأنواعها: يرتبط هذا التخوف بالتزايد المُتوقع في معدلات الهجرة.

- توفير الرقابة على تنفيذ التشريعات البيئية: تبرز الحاجة إلى سن تشريعات بيئية جديدة، وضرورة توفير آليات قانونية تراقب تنفيذها قوات الشرطة.

- الاستجابة للكوارث الطبيعية: يرتبط التغير المناخي بتبعات كارثية مثل الفيضانات وحرائق الغابات والتقلبات الجوية الحادة، ويؤدي ذلك إلى ارتباط التغير المناخي بزيادة الطلب الشعبي على حفظ الأمن وإدارة الأزمات في حالة الطوارئ. وتحتاج قوات الشرطة إلى تطوير خطط للتكامل مع هيئات الإغاثة الأخرى لمواجهة التحديات المناخية.

2- بناء القدرات المؤسسية لقوات الشرطة في مواجهة الجرائم البيئية: على الرغم من تصاعد الاهتمام بتجريم العديد من الأفعال الضارة بالبيئة، فإن تحديد هذه الجرائم والكشف عنها عادةً ما يتم في سياق التحري عن جرائم أخرى، ومن ثم تُجابه جهود مكافحة التغير المناخي معضلة التقليل من خطر الجرائم المرتبطة بها لصالح جرائم أخرى تُعد أشد تهديداً. وبصفة عامة، تتسم الجرائم البيئية بأنها أشد تعقيداً وتستلزم موارد خاصة للتحقيق بشأنها، ويستلزم الأمر اكتساب قوات الشرطة معرفة جديدة وأدوات ملائمة للتحري بخصوص فئة جديدة من الجرائم، والتعاون مع جهات أخرى معنية بحماية البيئة وفي مقدمتها المجتمعات العلمية، وربما يتطلب الأمر موجة أخرى من إعادة تنظيم قوات الشرطة وإصلاحها.

3- تعزيز دور الشرطة في مجابهة الكوارث الطبيعية: بفعل الآثار المتصاعدة لتغير المناخ، تحتاج قوات الشرطة في العديد من الدول إلى تطوير مهارات وقدرات جديدة للوفاء بأدوار إضافية غير تقليدية، ترتبط بالتصدي للكوارث الطبيعية المرتبطة، بشكل مباشر أو غير مباشر، بالتغير المناخي. وفضلاً عن دورها التقليدي كجهة لإنفاذ القانون بما في ذلك التشريعات الجديدة المرتبطة بالمناخ، ربما سيتوجب على قوات الشرطة العمل أيضاً كجهة مسؤولة عن الاستجابة لأزمات تتراوح بين الفيضانات والاضطرابات المدنية التي تهدد السلم المجتمعي، ويتطلب الأمر تغييراً في العقلية والثقافة السائدة، على نحو يهتم بفكرة تقديم الرعاية جنباً إلى جنب مع وظيفة الشرطي التقليدي. ويستلزم تحقيق هذا التحول في دور قوات الشرطة، تعزيز التعاون مع الجيش والمخابرات وهيئات المجتمع المدني والمجتمعات العلمية. 

ختاماً، أصبحت المنظمات الدولية على المستويين العالمي والإقليمي أكثر انغماساً في جهود تخفيف المخاطر البيئية أو التكيف معها على أقل تقدير، وتتضمن تلك الجهود تطوير السياسات في مجالات الاستعداد والوقاية، ونظم الإنذار المُبكر، ومشاركة المعلومات، فضلاً عن تعزيز جهود إدارة الأزمات والقدرات الإغاثية. بيد أن تعارض الأولويات القومية لدى الدول، والجمود الإداري، بل وحتى الإنكار التام لوجود آثار ضارة لتغير المناخ؛ قد تمثل عوامل تعوق الجهود الرامية إلى تطوير استجابات عالمية لتلك المشكلة.