أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

تفكك محتمل!

هل يرسخ دستور مالي الجديد الصراعات الداخلية؟

06 يوليو، 2023


شهدت مالي، في 18 يونيو 2023، استفتاءً على مشروع الدستور الجديد الذي وضعه المجلس العسكري الحاكم في البلاد، برئاسة الكولونيل عاصمي غويتا، في إطار المسار الانتقالي الذي يفترض أن يقود باماكو إلى الانتخابات الرئاسية في فبراير 2024، من أجل تشكيل سلطة تنفيذية مدنية.

انقسامات داخلية حادة:

تعهد المجلس العسكري الحاكم في مالي منذ توليه السلطة، في أعقاب الانقلابين العسكريين الذين شهدتهما باماكو في 2020 و2021، بإجراء استفتاء على دستور جديد، تمهيداً لإجراء الانتخابات الرئاسية، وإنهاء المرحلة الانتقالية في البلاد، بيد أن عملية الاستفتاء على الدستور أثارت انقسامات داخلية عميقة، وهو ما يمكن عرضه على النحو التالي:

1- الموافقة على الدستور الجديد: أعلنت الهيئة المستقلة لإدارة الانتخابات في مالي، في 23 يونيو 2023، أن نسبة التصويت على مشروع الدستور الجديد بلغت حوالي 39.5%، وأن 97% من الناخبين صوتوا لصالح المشروع الذي طرحه المجلس العسكري الحاكم في باماكو.

وكانت السلطات المالية قد دعت حوالي 8.4 مليون نسمة، ممن لهم حق الانتخاب، للتصويت على مشروع الدستور، والذي ينطوي على تعديلات واسعة مقارنة بدستور عام 1992، إذ إنه بموجب الدستور الجديد سيتم تأسيس غرفة برلمانية ثانية، إلى جانب الغرفة الأولى ممثلة في الجمعية الوطنية، مع تأكيد فكرة علمانية الدولة في مالي، والدفع نحو إنشاء محكمة جديدة منفصلة تتولى مسؤولية مراجعة حسابات إنفاق الحكومة.

2- معارضة غير متجانسة: عادة ما تكون نسبة المشاركة في عملية التصويت متدنية في مالي، بيد أن الاستفتاء الأخير على مشروع الدستور الجديد شهد مقاطعة واسعة في وسط وشمال مالي، سواءً لخوف البعض من الهجمات الإرهابية في هذه المناطق، أو لخلافات بين الحكومة المركزية وحركات الأزواد المسيطرة على شمال البلاد. 

ولذلك اقتصرت عملية الاقتراع في الشمال على عواصم المناطق الرئيسية، على غرار غاو وتمبكتو وميناكا، نظراً لقيام حركات الأزواد، الموقعة على اتفاق الجزائر للسلام عام 2015، بمنع إجراء عملية الاقتراع في شمال البلاد، باعتبار أن هذا الاستفتاء لا يدعم اتفاق السلام الموقع مع السلطات المالية، كما تتهم هذه الحركات باماكو بتزوير عملية الاقتراع في المناطق التي شهدت عملية تصويت.

وانضمت المنظمات الدينية في مالي إلى معارضة الاستفتاء، إذ احتجت على النص الخاص بتأكيد علمانية الدولة، ولذلك دعت رابطة الأئمة والعلماء أتباعها لرفض مشروع الدستور الجديد. وعبرت بعض القوى المدنية والأحزاب السياسية كذلك عن معارضتها لمشروع الدستور. ولعل أبرزها حزب "المؤتمر الوطني للتضامن في إفريقيا"، وحزب "النهضة الوطنية" (والمعروف كذلك باسم بارينا)، وهو موالٍ للرئيس السابق، إبراهيم بوبكر كيتا، الذي تمت الإطاحة به في مايو 2021، وكذلك حزب "التضامن الإفريقي من أجل الديمقراطية والاستقلال"، بالإضافة إلى "تنسيقية الحركات والجمعيات والمتعاطفين" بقيادة الإمام محمود ديكو، والذي أدى دوراً في الإطاحة بنظام بوبكر كيتا.

دلالات مهمة:

عكست عملية الاستفتاء على مشروع الدستور جملة من الدلالات المهمة، وهو ما يمكن عرضه على النحو التالي:

1- التشكيك في الدستور الجديد: أشار رئيس الهيئة المستقلة لإدارة الانتخابات، مصطفى سيسي، إلى أن عملية الاستفتاء جرت في كافة مراكز الاقتراع الـ24416 في البلاد، باستثناء حوالي 1121 مركزاً، وهو ما يتناقض مع تقارير هيئات الرقابة على الانتخابات، المعتمدة من قبل السلطات، والتي أشارت إلى أن الأرقام الحقيقية أقل من ذلك. وما يؤكد صحة الرأي الأخير فشل السلطات في إجراء الاستفتاء على مشروع الدستور الجديد في كافة أنحاء البلاد، وهو ما يثير جدلاً بشأن مدى مشروعيته، خاصةً وأن الدستور المالي السابق لعام 1992 ينص في مادتيه 26 و118 على ضرورة إجراء عملية الاستفتاء في كافة أنحاء البلاد كي يصبح الاستفتاء صحيحاً.

وترد السلطات على ذلك بتأكيد أن دستور عام 1992 قد تم تعطيله من قبل المجلس العسكري الحاكم في البلاد، بعد انقلاب 2021، وهو ما يعني عدم الحاجة إلى الالتزام بنصوصه فيما يتعلق بعملية الاستفتاء على الدستور الجديد.

2- ترشح محتمل لغويتا للانتخابات: عزز الدستور الجديد سلطات الرئيس عبر تبني نظام رئاسي كامل بدلاً من النظام شبه الرئاسي الذي تبناه دستور عام 1992. كما ينص الدستور الجديد على العفو عن كافة منفذي الانقلابات العسكرية السابقة، بما في ذلك أعضاء المجلس العسكري الحالي، وهو ما يُعد بمثابة تمهيد لخطوة ترشح رئيس المجلس العسكري الحاكم حالياً في باماكو، عاصمي غويتا، للانتخابات الرئاسية المرتقبة في فبراير 2024.

3- إعادة إحياء دستور 1974: شهدت مالي في عام 1974 أول استفتاء في البلاد على الدستور الذي طرحه، الملازم موسى تراوري، والذي كتب نهاية الجمهورية الأولى في مالي، حيث عزز هذا الدستور الحكم العسكري وسلطات الرئيس، واستمر هذا الدستور حتى عام 1991، عندما تم تدشين الجمهورية الثالثة، وهو ما أعقبه استفتاء على دستور جديد عام 1992، تبنى التعددية السياسية في البلاد.

ويلاحظ أن ملامح الدستور الجديد تعكس إعادة إحياء كثير من نصوص دستور عام 1974، وذلك بتوسيع صلاحيات الرئيس، ومنحه سلطة تحديد سياسة الأمة، والتي كانت مخولة سابقاً لرئيس الوزراء، كما منح هذا الدستور الرئيس حق تعيين رئيس الحكومة ووزرائه، وجعلهم مسؤولين أمامه بدلاً من مسؤوليتهم السابقة أمام الجمعية الوطنية.

4- موقف دولي وإقليمي متأرجح: دعمت الأمم المتحدة و"المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا" "الإيكواس" خطوة الاستفتاء على مشروع الدستور الجديد في مالي، باعتبارها تمهد لإنهاء المرحلة الانتقالية وتشكيل حكومة مدنية، بيد أن عملية الاستفتاء تزامنت مع تصاعد التوترات بين السلطات في باماكو والأمم المتحدة، في أعقاب التقرير الذي نشرته الأخيرة، نهاية مايو 2023، بشأن الانتهاكات التي شهدتها مالي خلال العام 2022، حيث يُعد هذا التقرير أكثر الوثائق الأممية إدانةً للمجلس العسكري الحاكم في مالي منذ وصوله للسلطة. 

فقد اتهم التقرير السلطات المالية بإعدام أكثر من 500 شخص بمشاركة عناصر فاغنر الروسية، وهو ما دفع باماكو لمطالبة بعثة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة بمغادرة باماكو، وذلك قبل يوم واحد من الاستفتاء الأخير على مشروع الدستور، بدعوى فشلها في الاستجابة للتحديات الأمنية المتزايدة في مالي.

وانخرطت بعثة "مينوسما" في مالي منذ 2013، وهي قوة تضم حوالي 13 ألف جندي، للمشاركة في مكافحة المجموعات المسلحة هناك، ويفترض أن ينتهي تفويضها نهاية يونيو الجاري، فيما تجري مشاورات حالية داخل الأمم المتحدة لتمديد مهام البعثة، لكن ربما تؤدي مطالبة باماكو بخروجها إلى عدم تمديد مهامها. ويثير ذلك الموقف التساؤل حول موقف "الإيكواس" والأمم المتحدة من نتائج الاستفتاء الأخير، وإذا ما كانت ستقبل به، أم أنها قد تتجه للتشكيك فيه، ولاسيما في ظل تصعيد المجلس العسكري ضد البعثة الأممية.

اضطرابات أمنية محتملة:

قد تشهد مالي اضطرابات أمنية خلال الفترة المقبلة، وهو ما يمكن عرضه على النحو التالي:

1- تفاقم محتمل للاضطرابات: قد تشهد الفترة المقبلة تصعيداً خطراً في شمال البلاد، بسبب تمسك الجماعات المسلحة برفض نتائج الاستفتاء على الدستور الجديد، فضلاً عن رفضها لفكرة رحيل بعثة "مينوسما" من مالي، فقد رأت هذه المجموعات المسلحة، المنضوية تحت ما يسمى بـ"الإطار الاستراتيجي الدائم للسلام والأمن والتنمية"، أن خروج القوات الأممية سيعني تقويضاً لاتفاق السلام، وينذر بتصاعد التوترات في شمال مالي، وهو ما يرجح عودة الاقتتال الداخلي من جديد.

2- غموض مستقبل بعثة "مينوسما": يسيطر الغموض على مستقبل البعثة، قبل أيام قليلة من الموعد المحدد لمناقشة قرار تمديد ولايتها في مجلس الأمن الدولي، يوم 30 يونيو 2023. فقد استبعدت تقديرات تمديد مهام البعثة، نظراً لأن قرار تمديدها يفترض موافقة 9 دول على الأقل من الدول الـ15 الأعضاء في المجلس، وعدم معارضة أي دولة من الدول دائمة العضوية بالمجلس، فضلاً عن قيام عاصمي غويتا بإجراء مباحثات هاتفية مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، قبل أسبوع واحد، طلب خلاله استخدام موسكو لـ"الفيتو" ضد قرار تمديد البعثة.

وفي المقابل، ترى تحليلات أن موسكو قد لا تستخدم "الفيتو"، وذلك على أساس أن خروج البعثة الأممية من مالي سيعيد سيناريو 2013 في باماكو، عندما استغلت المجموعات الإرهابية اتجاه حركات الأزواد للإعلان عن انفصال شمال مالي، من أجل فرض سيطرتها على هذه المنطقة، قبل أن تتدخل فرنسا والبعثة الأممية، وبالتالي فإن القوى الدولية، بما في ذلك روسيا، تبدو غير مستعدة للسماح بتكرار هذا السيناريو.

3- عودة التحركات الانفصالية: قد تشهد الفترة المقبلة تكراراً لمساعي الانفصاليين للاستقلال بشمال مالي، وتشكيل دولة للطوارق هناك. وتتعزز هذه المخاوف بسبب خروج القوات الفرنسية من مالي، كما أن الخلافات الأخيرة التي نشبت بين موسكو ورئيس مجموعة فاغنر ربما يكون لها تداعيات سلبية على نفوذ الأخيرة في إفريقيا، ولاسيما مالي، في ظل اتجاه السلطات الانتقالية في باماكو للاستعانة بالشركة الروسية لدعمها في مواجهة التهديدات الإرهابية والحركات الانفصالية. وبالتالي ربما تشكل هذه المعطيات محفزاً للانفصاليين لإعادة تكرار محاولاتهم السابقة.

4- تكريس الاستقطاب في باماكو: يمكن النظر إلى الاستفتاء الأخير على مشروع الدستور في مالي باعتباره مقياساً لشعبية نظام غويتا، والتي كشفت عن أن المجلس يحظى بتأييد واسع في باماكو، وذلك على الرغم من إخفاقات المجلس في دحر المجموعات الإرهابية في شمال البلاد. وفي المقابل، جاءت المعارضة للدستور الجديد من الأحزاب السياسية الراسخة والقديمة، بالإضافة إلى مجموعة من الأطراف غير المتجانسة. 

ولذلك قد يكرس الدستور الجديد حالة الاستقطاب، التي تشهدها البلاد، إذ يرى البعض أن الدستور الجديد أقام سلطة مركزية قوية، بخلاف دستور 1992، والذي أسس لدولة مركزية ضعيفة. وفي المقابل، يرى آخرون أن الدستور الجديد يستهدف بالأساس ترسيخ سلطة الجيش، وليس الدولة.  

وفي الختام، يمكن القول إن الدستور الجديد فاقم الاستقطاب الداخلي في مالي، خاصةً بعد تمسك باماكو بخروج البعثة الأممية من البلاد، وهو ما يرجح أن يشهد شمال مالي خلال الفترة المقبلة اضطرابات أمنية واسعة، سواءً من جانب تنظيمي القاعدة وداعش، أو من جانب حركات الأزواد المطالبة بالانفصال، ما يجعل كافة السيناريوهات مطروحة خلال الفترة المقبلة، بما في ذلك احتمالية تفكك مالي، أو حتى حدوث انقلاب عسكري جديد.