منذ عودة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، في 20 يناير 2025، تتجه أنظار العالم باهتمام بالغ لمتابعة تطور العلاقات بين الولايات المتحدة والصين، لما لها من تداعيات سياسية واقتصادية وعسكرية وتكنولوجية مهمة على معظم دول العالم، إن لم يكن أجمعها؛ فهذه العلاقات، التي تربط بين أكبر اقتصاديْن في العالم، ينظر إليها كثير من خبراء العلاقات الدولية على أنها الديناميكية التي سوف تحدد مواقع القوى العالمية في القرن الحادي والعشرين، خاصة بعد أن أصبحت لا تخلو من المواجهات والخلافات، على جبهات كثيرة حرجة، بدءاً من التجارة والتكنولوجيا المتقدمة، مروراً بقضية تايوان، إلى اشتعال المناوشات العسكرية وسباق التسلح في بحر الصين الجنوبي.
حتى كتابة هذه السطور، لم تنطلق بَعْد طبول "الحرب الباردة الجديدة" بين واشنطن وبكين، والتي كان الرئيس ترامب قد أطلقها خلال رئاسته الأولى، واستمرت خلال فترة الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن أيضاً، من خلال سلسلة من التعريفات الجمركية على صادرات صينية تجاوزت 300 مليار دولار، فضلاً عن تعزيز التحالفات الأمنية والاستراتيجية مع حلفاء واشنطن في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
لقد أحجم ترامب، وبشكل غير متوقع، عن فرض رسوم جمركية على الصين، في أول يوم له بعد عودته إلى البيت الأبيض، تاركاً الباب مفتوحاً أمام مفاوضات جديدة مع ثاني أكبر اقتصاد في العالم. وفي خطابه الذي ألقاه بعد تنصيبه، امتنع أيضاً عن وصف الصين بأنها "تهديد خطر". كما أرجأ ترامب أيضاً الحظر المفروض على تطبيق الفيديوهات القصيرة المملوك للصين "تيك توك"، مقترحاً، في خطوة غير مسبوقة، أن تكون الولايات المتحدة مالكة بنسبة النصف لأعمال التطبيق في الأراضي الأمريكية مقابل الإبقاء على عمل التطبيق، قائلاً: "الشركة قد تبلغ قيمتها مئات المليارات من الدولارات".
وبالإضافة إلى ذلك، بادر الرئيس ترامب باتخاذ "خطوة تصالحية" تجاه بكين، بدعوته الرئيس الصيني شي جين بينغ لحضور حفل تنصيبه؛ وهو الأمر الذي رد عليه الرئيس شي بإرسال نائبه هان بدلاً منه، وهي لفتة تدل على الرغبة في تحسين العلاقات من جانب بكين؛ نظراً لأن الصين لم تكن ممثلة إلا من خلال سفيرها في حفل تنصيب الرئيسيْن الأمريكييْن السابقيْن.
وفي اجتماعهما قبل يوم واحد من تنصيب ترامب، قال نائب الرئيس الصيني لإيلون ماسك، الذي عينه الرئيس ترامب لقيادة وزارة تهدف إلى إنشاء حكومة أمريكية أكثر كفاءة، ولديه مصالح تجارية واسعة النطاق في الصين، بصفته رئيساً تنفيذياً لشركة تسلا، إن بكين "ترحب بشركة تسلا وشركات أمريكية أخرى" للمشاركة في فوائد التنمية الصينية والمساهمة في دفع العلاقات الصينية الأمريكية إلى الأمام. وكان الرئيسان الأمريكي والصيني قد اتفقا أيضاً، خلال محادثة هاتفية جرت قبل تنصيب ترامب بأيام قليلة، على إنشاء قناة اتصال استراتيجية بشأن "القضايا الرئيسية"، وقال الرئيس الأمريكي المُنتخَب إنه قد يسافر إلى الصين في أقرب وقت من هذا العام.
تصعيد في الأفق:
رغم التهدئة الواضحة تجاه بكين من جانب الرئيس ترامب في الأيام الأولى من رئاسته الثانية؛ فإن مستقبل العلاقات الأمريكة الصينية يبدو في مفترق طرق حاسم؛ حيث يتوقع كثير من المراقبين أن تستمر الحرب الباردة الجديدة بين الدولتين طالما استمر الرئيس ترامب في السلطة؛ فالحزب الجمهوري الأمريكي، الذي ينتمي إليه الرئيس، دائماً ما ينظر إلى صعود القوة الاقتصادية والعسكرية الصينية باعتباره تهديداً خطراً للأمن القومي الأمريكي؛ وهو الأمر الذي برز بوضوح خلال رئاسة ترامب الأولى، والتي أصبحت فيها إدارته مصممة على احتواء صعود القوة الصينية بكل الوسائل التجارية والعسكرية المتاحة والممكنة.
وخلال سباقه الانتخابي الأخير، أعلن ترامب أيضاً، وبشكل متكرر، عزمه فرض رسوم جمركية باهظة على السلع المصنوعة في الصين بنسبة تبلغ 60%، لإرغام الشركات الأمريكية والأجنبية التي تصنع منتجاتها في الصين على نقل سلاسل التوريد بسرعة إلى الولايات المتحدة؛ مما سوف يساعد على إنعاش الاقتصاد الأمريكي، من خلال خلق فرص عمل جديدة.
في هذا السياق، يؤكد العديد من الخبراء أن قرار ترامب باختيار وزير الخارجية، ماركو روبيو، ومستشار الأمن القومي، مايكل والتز، يُعد مؤشراً قوياً على أن إدارته "ستتخذ نهجاً أكثر صرامة وقوة تجاه الصين"، مشيرين إلى أنه بينما ينظر ترامب إلى علاقته الشخصية مع الرئيس الصيني شي باعتبارها "وسيلة للتفاوض"، فمن المرجح أن يعتمد على والتز وروبيو في صياغة سياسة "أكثر صرامة" تجاه الصين، خاصة وأن الرجلين معروف عنهما اتخاذ مواقف متشددة تجاه بكين؛ فعلى سبيل المثال، أشاد مايكل والتز في أكثر من مناسبة بالتعاون الاستراتيجي لإدارة بايدن مع الحلفاء في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، مؤكداً أن الشراكات الأمنية الصغيرة مثل "أوكوس" AUKUS، والرباعية "كواد" QUAD، والاتفاقيات الأخرى التي تشمل الولايات المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية والفلبين، توفر الأساس اللازم للتغلب على "الاضطرابات المحتملة مع الصين في المستقبل".
من جهته، أكد وزير الخارجية الأمريكي الجديد، في جلسة تأكيده للمنصب أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأمريكي مؤخراً، أن الصين هي "الخصم الأقوى، والأكثر خطورة الذي واجهته الأمة الأمريكية على الإطلاق"، واتهم بكين بـ"الكذب والاختراق والغش في طريقها إلى وضع القوة العظمى". وشدد روبيو أيضاً على الحاجة الملحة لإنجاز متأخرات مبيعات الأسلحة إلى تايوان وتقليل اعتماد الولايات المتحدة اقتصادياً على الصين.
وفي هذا الإطار، لم يكن غريباً أن يقوم روبيو بَعْد يوم واحد فقط من تولي الرئيس دونالد ترامب منصبه، باستضافة اجتماع في واشنطن، ضم نظراءه من الهند وأستراليا واليابان في مجموعة "كواد"، بهدف الإشارة إلى أن مواجهة "التنين الصيني" هي أولوية قصوى للرئيس الجديد. وكانت هذه المجموعة قد اجتمعت عدة مرات خلال إدارة الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن؛ بهدف مواجهة أنشطة بكين العسكرية والاقتصادية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، ولاسيما في بحر الصين الجنوبي. ومن جهتها، نددت الصين بالمجموعة الرباعية ووصفتها بأنها "صنيعة الحرب الباردة"، لافتة إلى أن تحالف "كواد" سيزيد من حدة سباق التسلح الإقليمي؛ ومن ثم زعزعة الأمن والاستقرار الإقليمييْن.
من ناحية أخرى، لا يبدو أن إدارة ترامب الثانية سوف تتهاون في التعامل مع "التنين الصيني" خلال الفترة المقبلة، في ضوء عدة اعتبارات رئيسية، منها على سبيل المثال، تعزيز الرئيس الصيني مكانته الحزبية ونفوذه السياسي بشكل مطلق في بكين، خاصة منذ توليه فترة ولاية ثالثة تاريخية، بل وإمكانية بقائه في السلطة مدى الحياة. كما أن الصين أيضاً، من وجهة نظر أمريكية، أصبحت تمتلك أكبر جيش وبحرية في العالم. وفي الوقت الذي كان ترامب يكشف فيه عن أسماء فريق إدارته الجديدة، نشرت وسائل إعلام رسمية صينية مقاطع فيديو من أكبر عرض جوي في البلاد تضمنت مقاطع لطائرة مقاتلة شبحية جديدة من طراز "جيه 35-إيه". وكان باحثون في معهد "ميدلبري" للدراسات الدولية في كاليفورنيا، قد كشفوا أيضاً عن صور أقمار اصطناعية تشير إلى أن الصين تعمل على الدفع النووي لحاملة طائرات جديدة.
وبالإضافة إلى كل ذلك، عبَّر عدد من الدوائر الأمنية والعسكرية في واشنطن أيضاً عن القلق من تحركات بكين العسكرية المتنامية حول تايوان وفي بحر الصين الجنوبي. ويشير هؤلاء كذلك إلى أن التنسيق المتزايد بين الصين من جهة، وكل من روسيا وكوريا الشمالية وإيران من جهة أخرى؛ يمثل "تحدياً أمنياً خطراً لم تواجهه الولايات المتحدة من قبل".
وفيما يتعلق بتايوان، وهي المسألة الأكثر حساسية في العلاقات الصينية الأمريكية، يتوقع معظم الخبراء أن تستمر واشنطن، خلال رئاسة ترامب الثانية، في تقديم المساعدات العسكرية لتايوان، أولاً لأنها مُلزَمَة قانوناً ببيع أسلحة دفاعية للجزيرة، وثانياً لأن إدارة ترامب باعت أسلحة لتايوان أكثر من أي إدارة أخرى. ومما يدعم هذا التوجه لدى ترامب أن الصين، في السنوات الأخيرة، في ظل قيادة شي، أصبحت أكثر حزماً في مطالباتها الإقليمية بشأن تايوان وجزر بحر الصين الجنوبي. كما زادت بكين أيضاً، بشكل كبير من الضغوط على تايبيه منذ تولي الرئيس التايواني لاي تشينغ تي السلطة، حيث أجرت ثلاثة تدريبات عسكرية كبرى في العام الماضي، شملت تدريبات خاصة بفرض حصار شامل على الجزيرة.
استبعاد المواجهات الساخنة:
على الرغم من التوقعات السائدة بأن تشهد العلاقات الأمريكية الصينية خلال إدارة الرئيس ترامب الثانية مزيداً من التوترات مع احتدام المنافسة التجارية والتكنولوجية والعسكرية بين واشنطن وبكين؛ فإنه من غير المرجح أن تتحول "الحرب الباردة" بين العملاقين الأمريكي والصيني إلى "حرب ساخنة" في المدى المنظور. فالولايات المتحدة اليوم ما تزال هي القوة العسكرية الأعظم في العالم، والصين لن تغامر بالدخول في مواجهات عسكرية مباشرة معها. كما تدرك بكين جيداً أن قوتها الحقيقية في عقلها السياسي وصبرها ودقة حساباتها في استخدام معايير وأساليب وأدوات جديدة، أولها الاقتصاد والتطوير التكنولوجي والذكاء الاصطناعي، وليس السلاح.
والأهم مما سبق أن مصالح الصين والولايات المتحدة أصبحت متشابكة بشكل عميق منذ فترة طويلة. على سبيل المثال، تجاوز حجم التبادل التجاري بين الدولتين في العام الماضي 660 مليار دولار، وتصل الأرباح السنوية لأكثر من 70 ألف شركة أمريكية تعمل في الصين إلى 50 مليار دولار. ومن جهة أخرى، تدعم الصادرات الأمريكية إلى الصين وحدها 930 ألف وظيفة في الولايات المتحدة، وأثْرَت السلع الصينية خيارات المستهلكين الأمريكيين وخفَّضت تكاليف معيشتهم. وتمثل إيرادات شركتي كوالكوم وإنتل الأمريكيتين في السوق الصينية نحو ثلثي وربع إيراداتهما العالمية على التوالي. كما أن 80% من سلسلة الإمداد الخاصة بشركة آبل الأمريكية تأتي من 200 شركة عاملة في الصين. واستحوذت شركة تسلا الأمريكية وحدها على نحو 28.6% من حصة صادرات السيارات الكهربائية الجديدة في الصين في عام 2024؛ مما يُظهِر أن هناك مساحة كبيرة للتعاون بين الصين والولايات المتحدة، وأن التعاون بينهما يمكن أن يحقق في المستقبل منافع متبادلة ونتائج مربحة للجانبين.
ومما يدعم من إمكانيات التعاون بين بكين وواشنطن في ظل رئاسة ترامب الثانية أيضاً أن الرئيس الأمريكي، صانع الصفقات، قد ينجح في التوصل إلى تفاهمات مع الصين بشأن قضايا حسَّاسة، بما في ذلك تايوان. كما أنه أيضاً يبدو غير متحمس لتورط الولايات المتحدة في حروب خارجية.
كذلك، لا يبدو أن بكين مستعدة لمواجهة حرب تجارية شرسة من جانب ترامب في الفترة المقبلة؛ لأن وضعها الاقتصادي أقل ملاءمة لردود فعل انتقامية أكثر حدة على كافة الجبهات. كذلك، فإن بكين متورطة بالفعل في العديد من النزاعات التجارية المريرة مع الاتحاد الأوروبي، ثاني أكبر شريك تجاري لها بَعْد الولايات المتحدة؛ ومن ثم قد يمثل خوض حربين تجاريتين في وقت واحد من جانب بكين في مواجهة واشنطن وبروكسل "ضربة قوية" للاقتصاد الصيني.
وفي الوقت نفسه، قد يفضل صانعو القرار في بكين "التريث" في الصدام والمواجهة مع واشنطن في ظل ولاية ترامب الثانية؛ حيث تثير مواقف الرئيس الأمريكي، الأكثر ميلاً إلى رفع شعار "أمريكا أولاً" و"ابتزاز" شركاء الولايات المتحدة التقليديين في قارة آسيا، احتمال "تراجع وانزواء الضمانات الأمنية" من جانب واشنطن تجاه اليابان وكوريا الجنوبية والفلبين؛ مما قد يخلق فرصاً تستغلها الصين، ولاسيما أنها في وضع جيد باعتبارها الشريك التجاري الأكبر للدول الثلاث، فضلاً عن هيمنتها على سلاسل التوريد والتكنولوجيات المتقدمة. وفي ظل هذا السيناريو المثالي بالنسبة لبكين، لن تتمتع الصين بالهيمنة الإقليمية فقط؛ بل قد تصبح أيضاً الشريك الأكثر قيمة، حتى لحلفاء الولايات المتحدة.