قام وفد من قوات الدفاع الرواندية برئاسة رئيس هيئة الأركان، الجنرال جان بوسكو كازورا، بزيارة رسمية إلى باريس، في 14 مارس 2022، استمرت ثلاثة أيام، بناء على دعوة من نظيره الفرنسي، الجنرال تييري بوركهارد. وتضمن الوفد المرافق لرئيس الأركان الرواندي كلاً من رئيس الاستخبارات العسكرية، الجنرال فنسنت نياكاروندي، ورئيس التعاون العسكري الدولي، الجنرال باتريك كاروريتوا، وكذا رئيس العمليات والتدريب بالجيش الرواندي، العقيد كريسوستوم نغيندايمانا. وتعد الزيارة هي الأولى لوفد عسكري رواندي لباريس منذ أكثر من 25 عاماً.
حماية المصالح المشتركة:
تأتي هذه الزيارة بعد نحو عام من الزيارة التاريخية التي قام بها الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون إلى رواندا، في مايو 2021، والتي طوى خلالها خلافات عميقة بين البلدين استمرت لنحو ثلاثة عقود، بسبب الدور الفرنسي في الحرب الأهلية والإبادة الجماعية ضد التوتسي، التي شهدتها كيجالي في عام 1994.
وفي هذا الإطار، تأتي الزيارة الأخيرة التي قام بها الوفد العسكري الرواندي لباريس لتحقيق جملة من الأهداف، والتي يمكن عرضها على النحو التالي:
1- تعزيز التعاون في مواجهة الإرهاب: أوضح رئيس أركان الجيش الفرنسي، الجنرال تييري بوتكارد، أنه بحث مع نظيره الرواندي سبل تعزيز التعاون الأمني المشترك في منطقة وسط وجنوب أفريقيا، وتوسيع نطاق التعاون العسكري الفرنسي – الرواندي، في ظل تصاعد حدة التهديدات الأمنية في منطقة وسط أفريقيا خلال الفترة الأخيرة، خاصةً في موزمبيق، والتي تشهد توسعاً مضطرداً في نطاق انتشار تنظيم داعش وغيره من التنظيمات الإرهابية الأخرى، مع وجود مؤشرات باحتمالات تمدد هذه الجماعات لمناطق أخرى خارج حدود موزمبيق، فضلاً عن النشاط الإرهابي المتنامي في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية.
2- إعادة هيكلة تحالفات فرنسا الأفريقية: يواجه الحضور الفرنسي في الساحل الأفريقي تعثرات واضحة، الأمر الذي دفع باريس لإعادة ترتيب استراتيجيتها في هذه المنطقة، ومحاولة هيكلة شبكة جديدة من التحالفات الإقليمية التي تستطيع باريس الاعتماد عليها لضمان مصالحها الجديدة في غرب إفريقيا، خاصةً بعد خسارتها مالي، حليفها السابق في منطقة الساحل، وكذلك الحال بالنسبة لبوركينا فاسو وأفريقيا الوسطى، بالإضافة إلى استمرار الغموض الذي يهيمن على المشهد في تشاد.
3- مواجهة النفوذ الروسي في المنطقة: هناك قلق فرنسي متنامٍ إزاء النفوذ الروسي المتصاعد في منطقة الساحل الأفريقي، بما يمثله ذلك من تهديد للإرث الفرنسي التقليدي في المنطقة. كما لم يعد الحضور الروسي مقصوراً فقط على الساحل والصحراء، بل امتد أيضاً ليشمل وسط وجنوب القارة الأفريقية، من خلال التمدد في أفريقيا الوسطي وموزمبيق وزيمبابوي. وبالتالي يبدو أن باريس تسعى لمحاولة تعزيز علاقاتها الأمنية مع رواندا لمحاولة مواجهة النفوذ الروسي المتنامي.
4- تعزيز دور رواندا كشرطي أفريقيا الجديد: تشترك رواندا مع فرنسا في قلقها من النفوذ الروسي المتصاعد في القارة الأفريقية، خاصةً أن هذا الحضور يتعارض مع تطلعات كيجالي بتقديم نفسها باعتبارها شرطي القارة الأفريقية الجديد، وهو ما ينعكس بوضوح في انخراط رواندا في الأزمات الإقليمية، على غرار إرسالها قوات عسكرية إلى أفريقيا الوسطى، إلى جانب روسيا، لدعم القوات الحكومية في بانجي ضد الجماعات المسلحة والميليشيات المعارضة هناك، فضلاً عن الحضور العسكري الرواندي في موزمبيق والكونغو الديمقراطية.
شراكة اقتصادية وأمنية:
تعكس زيارة الوفد العسكري الرواندي إلى فرنسا عدداً من الدلالات المهمة، والتي يمكن عرضها على النحو التالي:
1- احتمالات تعاون عسكري أوسع: تعكس تركيبة الفريق المرافق لرئيس أركان الجيش الرواندي، في زيارته إلى باريس، فضلاً عن المدة التي قضاها الفريق في باريس، والتي امتدت لثلاثة أيام، مؤشرات مهمة بشأن وجود ترتيبات مشتركة قد جرى مناقشتها أثناء هذه الزيارة، تتعلق بتعاون عسكري أوسع محتمل خلال الفترة المقبلة بين الجانبين، سواء فيما يتعلق بصفقات تسليح متطورة، أو تدريبات عسكرية ومناورات مشتركة، أو حتى شراكات متعددة الأبعاد.
2- تعزيز حظوظ ماكرون في الانتخابات: تعكس زيارة الوفد العسكري الرواندي إلى باريس أحد ملامح التنافس الراهن في باريس قبيل أسابيع قليلة من الانتخابات الرئاسية الفرنسية، حيث يسعى الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، إلى تعزيز العلاقات مع رواندا، للتغطية على تراجع الحضور الفرنسي في الساحل الأفريقي، والتي باتت من أبرز الملفات الضاغطة على ماكرون من قبل خصومه في الاستحقاقات الرئاسية المقبلة.
ويسعى الرئيس الفرنسي إلى تحقيق إنجاز خارجي يتعلق بالقارة الأفريقية يمكن من خلاله تعزيز موقفه، خاصةً أنه كان بالفعل قد نجح في العام الماضي في رأب الصدع مع رواندا بعد نحو ثلاثة عقود من الجمود في العلاقة بين الجانبين.
3- مصالح إقليمية مشتركة: هناك العديد من ملفات التعاون المشترك التي تعول فيها باريس على رواندا، في ظل التراجع الملحوظ للحضور الفرنسي في المنطقة، بل أن النفوذ الفرنسي الرئيسي في منطقة وسط أفريقيا بات محصوراً في قاعدتها العسكرية في الجابون، في الوقت الذي خسرت فيه باريس نفوذها في جمهورية أفريقيا الوسطى، والتي كانت تضم حوالي ألفي جندي فرنسي حتى عام 2016، لذا، يبدو أن باريس تسعى لتعويض ذلك من الحضور العسكري الرواندي هناك.
وبالإضافة لذلك، ثمة مصالح متنامية بين باريس وكيجالي في موزمبيق، فقد لعبت القوات الرواندية المنخرطة في قتال الجماعات الإرهابية في موزمبيق دوراً كبيراً في عودة شركة "توتال" الفرنسية لمباشرة عملها هناك، بعد الصعوبات الكبيرة التي واجهت الشركة خلال السنوات الأخيرة بسبب سيطرة الجماعات الإرهابية العام الماضي على مدينة بالما في شمال البلاد، حيث نشاط الشركة الفرنسية.
وقام الرئيس التنفيذي لشركة توتال الفرنسية، بارتيك بوياني، بزيارة إلى موزمبيق في يناير الماضي، ثم أعقبها زيارة أخرى إلى رواندا، التقى خلالها بالرئيس الرواندي، بول كاغامي، حيث أكد بوياني استئناف العمل في مشروع توتال في موزمبيق، والذي تبلغ تكلفته نحو 20 مليار دولار، في إشارة واضحة للدور الذي لعبته كيجالي في هذا الأمر.
4- استيعاب تداعيات الأزمة الأوكرانية: تواجه رواندا تحديات داخلية عديدة بسبب الحرب الروسية – الأوكرانية، وتسعى كيجالي لتوسيع التعاون مع باريس في محاولة تخفيف حدة هذه الانعكاسات، فقد أعلن رئيس الوزراء الرواندي، إدوارد نجيرينتي، أنه يتوقع أن تشهد الفترة المقبلة انخراطاً واسعاً من قبل المستثمرين الفرنسيين في السوق الرواندي.
وفي هذا السياق، أشار رئيس الحكومة الرواندي إلى أن بلاده ستلجأ إلى تقليل اعتمادها على القمح الروسي، حيث تعتمد كيجالي على 64% من احتياجاتها من القمح على روسيا، موضحاً أن بلاده تعمل على إيجاد مصادر بديلة، من خلال التواصل مع شركاء كيجالي الدوليين، مثل فرنسا.
انعكاسات ممتدة:
هناك جملة من الانعكاسات التي يمكن أن تتمخض عن زيارة رئيس هيئة الأركان الرواندي إلى باريس، والتي يمكن عرضها على النحو التالي:
1- استغلال الانسحاب المحدود لفاجنر: أشارت عدد من التقارير الغربية إلى أن روسيا لجأت إلى سحب عشرات العناصر من شركة فاجنر الموجودين في القارة الأفريقية للانخراط في الحرب الراهنة في أوكرانيا.
وفي هذا السياق، لا يمكن استبعاد أن تسعى فرنسا لاستغلال هذا الانشغال الروسي لتعزيز انخراطها عبر التنسيق مع رواندا، من خلال الاستفادة من الحضور العسكري الرواندي في عدة مناطق في القارة الأفريقية.
2- تعزيز النفوذ الرواندي على أوروبا: يسعى الرئيس الرواندي، بول كاغامي، إلى تعزيز علاقة بلاده بالغرب، وهو ما انعكس بوضوح في موقفه إزاء الأزمة الروسية – الأوكرانية، فضلاً عن محاولات كيجالي المستمرة تقديم نفسها للغرب باعتبارها ملاذاً دولياً آمناً لطالبي اللجوء من الأفارقة إلى الدول الأوروبية، حيث تقوم الحكومة الرواندية بدراسة طلباتهم، وإعادة توطين الأشخاص الذين تم إجلاؤهم أو إعادتهم إلى موطنهم، أو حتى منحهم الإذن للبقاء في رواندا.
3- تعزيز التعاون العسكري مع واشنطن: قام ويليام زانا، القائد العام للجيش الأمريكية لقوات المهام المشتركة في القرن الأفريقي بزيارة إلى رواندا، في 23 مارس الجاري، وذلك في أعقاب زيارة رئيس أركان الجيش الرواندي إلى فرنسا. والتقى خلالها زانا برئيس أركان القوات الجوية لقوات الدفاع الرواندية، الفريق جان جاك موبينزي.
وتضمن اللقاء بحث سبل تعزيز التعاون المشترك بين قوات الدفاع الرواندية والقيادة الأمريكية في أفريقيا، والاستفادة من الانخراط العسكري الرواندي في أكثر من دولة إقليمية، وهو ما عكس وجود توجهات غربية لزيادة الاعتماد على رواندا خلال الفترة المقبلة.
وفي الختام، يبدو أن فرنسا التي كانت تبحث عن وكلاء إقليميين، يمكن الاعتماد عليهم في حفظ الأمن في المنطقة، وضمان مصالحها، قد وجدت ضالتها في رواندا، خاصةً أن الأخيرة بدأت خلال السنوات الأخيرة تسعى جاهدة للترويج لنفسها باعتبارها "شرطي أفريقيا" الجديد. وفي ظل تعدد المصالح الأمنية والاقتصادية المشتركة بين باريس وكيجالي، يبدو أن المرحلة المقبلة ربما تشهد تنامياً في وتيرة التعاون بين الجانبين.