أخبار المركز
  • أحمد عليبة يكتب: (هاجس الموصل: لماذا يخشى العراق من التصعيد الحالي في سوريا؟)
  • محمود قاسم يكتب: (الاستدارة السريعة: ملامح المشهد القادم من التحولات السياسية الدرامية في كوريا الجنوبية)
  • السيد صدقي عابدين يكتب: (الصدامات المقبلة: مستقبل العلاقة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية في كوريا الجنوبية)
  • د. أمل عبدالله الهدابي تكتب: (اليوم الوطني الـ53 للإمارات.. الانطلاق للمستقبل بقوة الاتحاد)
  • معالي نبيل فهمي يكتب: (التحرك العربي ضد الفوضى في المنطقة.. ما العمل؟)

رمزية الاستقرار:

هل تستمر القوة الناعمة للحكم الملكي البريطاني؟

22 سبتمبر، 2022


توفيت الملكة إليزابيث الثانية، أطول ملوك المملكة المتحدة حكماً، في قلعة بالمورال – المقر الملكي الصيفي في اسكتلندا – عن عمر يناهز 96 عاماً، تاركةً وراءها أجزاء كثيرة من العالم  – وليس بريطانيا فحسب – في حالة حداد. وبوفاة الملكة، بدأ تنفيذ ترتيبات خططت لها الملكة بنفسها والقصر والحكومة والسلطات المحلية وكذلك وسائل الإعلام منذ وقت طويل. وعلى الرغم من أن هذا البروتوكول التالي لوفاة الملكة قد وُضع منذ الستينيات، فإن الوثائق التي سربتها صحيفة بوليتيكو في سبتمبر 2021 كشفت عن تفاصيل جديدة حول خطط الحكومة، والتي سُميت "عملية جسر لندن"، فعادةً ما يُطلق على كل فرد من العائلة المالكة اسم أحد الجسور لاستخدامه كشفرة في حالة وفاتهم. وذكرت بوليتيكو أنه عند وفاة الملكة، ستبدأ "سلسلة مكالمات "لإبلاغ "رئيس الوزراء (وهو المنصب الذي تشغله حالياً ليز تروس)، ومجلس الوزراء، وعدد من كبار الوزراء والمسؤولين، على أن يتولى سكرتير الملكة الخاص إبلاغ رئيس الوزراء (تروس)، وهو أيضاً من سيبلغ مكتب مجلس الملكة الخاص، الذي ينسق الأعمال الحكومية نيابة عن الملك" . كما تم تنفيذ خطة أخرى، ألا وهي "عملية يونيكورن"، بالتزامن مع عملية جسر لندن. وأوضحت صحيفة الغارديان أن عملية يونيكورن تتضمن "وضع نعش الملكة مؤقتاً في قصر هوليرود هاوس، بعد نقله إلى هناك براً بعد يومين من وفاتها" .

إن وجود مثل هذه التدابير المخطط لها بدقة لوفاة حاكم البلاد يؤكد أهمية الانتقال السلس للسلطة في إطار الملكية البريطانية، كما يدعم فكرة التقاليد البريطانية، فالملكة مثّلت بالنسبة للكثيرين رمزاً يجسد بريطانيا، وهي محفورة في هوية الأمة، بل وفي رخائها الاقتصادي ووضعها الاجتماعي، فصارت مثل الأيقونة.

أيقونة الاستقرار 

كانت الملكة إليزابيث الثانية أطول من حكم في تاريخ بريطانيا، فلقد صارت ملكة في 6 فبراير 1952، ثم تُوجت في 2 يونيو 1953. ولقد فاجأ اعتلاء إليزابيث – الملقبة أيضاً بليليبت – العرش الجميع، فوالدها الملك جورج السادس قد صار ملكاً بعد تخلى شقيقه الملك إدوارد الثامن عن العرش ليتزوج واليس سبنسر في عام  1936. وفي 6 فبراير 1952، توفي الملك جورج السادس أثناء نومه، بينما كانت إليزابيث في كينيا، فاضطرت للعودة للوطن لتتولى منصبها كملكة .

وعاشت إليزابيث حياة غير عادية، فلقد تحولت من فتاة صغيرة لم يكن في الحسبان أن تصبح ملكة، إلى رمز شهير وأيقونة، شهد عهدها أعظم التطورات والتحولات في جميع المجالات تقريباً.

ولقد سجلت إليزابيث الثانية، وهي في عمر الـ14، أول بث إذاعي لها في عام 1940 على محطة بي بي سي في برنامج للأطفال، فبعثت رسالة دعم للصغار ممن تأثروا بالحرب في أوروبا، لا سيما أولئك الذين تم إجلاؤهم من منازلهم . علاوة على ذلك، تمكنت الأميرة من إقناع والدها بالسماح لها بخدمة بلدها أثناء الحرب العالمية الثانية، كما تطوعت في الخدمة الإقليمية النسائية للمساعدة، فصارت سائقة وتدربت في مجال ميكانيكا السيارات. "لقد كانت خطوة رائدة؛ فلم تكن أول فرد في عائلتها يخدم في الجيش على الإطلاق فحسب، بل كان مشهد امرأة تفكك المحركات وتغير الإطارات سبباً في تغيير جذري في الأدوار الاجتماعية وأدوار الجنسين سيلازم الملكة المستقبلية طوال عمرها" .

تزوجت الملكة دوق إدنبرة في 20 نوفمبر 1947 في كنيسة وستمنستر، واحتفلا احتفالاً مميزاً بمرور 70 عاماً على زواجهما في عام 2017. ولقد كانت بصفتها الملكة الراعية لما يزيد على 500 منظمة، كما نُقش وجهها على عملات معدنية في 35 دولة. ولقد امتلكت أكثر من 30 كلباً من فصيلتي كورجي ودورجي خلال فترة حكمها. وخدم في عصرها 15 رئيس وزراء بريطانياً، كما شهدت 14 رئيساً للولايات المتحدة طوال هذه الفترة .

والأهم من ذلك هو ما ذكرته مجلة فوربس أن الملكة إليزابيث كانت تُعتبر على مدار فترة حكمها قوة تبعث على الاستقرار، فعندما اعتلت العرش، كان هدوؤها، بالإضافة إلى منهجها السلمي الذي اتبعته لأداء دورها الجديد، ما يحتاجه الشعب في ذلك الوقت، فلقد خرجت الأمة لتوها في ذلك الحين من فترة تعمها الفوضى. لكنها استطاعت الحفاظ على هذا الاستقرار طوال فترة حكمها في وجه أي أزمات جديدة شهدتها، سواء أكانت سياسية أم اقتصادية، أو حتى في فترات تفشي الأوبئة . حتى في الأوقات التي شكك فيها العامة في الحاجة إلى العائلة المالكة، كان الاستقرار الذي جلبته الملكة يُعتبر أساسياً ولا غنى عنه.

قوة ناعمة مؤثرة

"أتعهد أمامكم جميعاً أن حياتي كلها، قصرت أم طالت، ستكُرس لخدمتكم وخدمة عائلتنا الإمبراطورية العظيمة التي ننتمي إليها جميعاً" . كان هذا هو البيان الذي صرحت به في عيد ميلادها الحادي والعشرين، وهو ما كان مؤشراً واضحاً على مدى تقدير إليزابيث لفكرة خدمتها للعامة، وهذا هو أساس حكمها.

ولقد تمكنت إليزابيث طوال السبعين عاماً مدة حكمها من الجمع بين دورين: دور رأس الدولة في الأساس وكذلك زعيمة الأمة.

ويطالب الدستور رئيس الدولة في المملكة المتحدة باتباع توصيات الحكومة والاضطلاع بالعديد من المسؤوليات، ومنها "تعيين رئيس الوزراء وجميع الوزراء الآخرين، وافتتاح جلسات البرلمان الجديدة، ومنح الموافقة الملكية على مشروعات القوانين التي يقرها البرلمان، فتصير قوانين رسمية" . لذلك، كان أحد أهم أسباب نجاح حكم إليزابيث هو قدرتها على الحفاظ على الحياد السياسي العام، وعدم التدخل رسمياً في أهم القرارات السياسية للحكومة.

ومن ناحية أخرى، يكمن دور الملكة كزعيمة للأمة في كونها محوراً "للهوية الوطنية والوحدة والفخر، ومصدراً منح شعوراً بالاستقرار والاستمرارية، ورمزاً رسمياً للنجاح والتميز، وداعمة لقيم الخدمة التطوعية" . وكان مفهوم الاستقرار والاستمرارية، الذي ذكرناه آنفاً، سبباً آخر لنجاح إليزابيث الثانية بصفتها الملكة. وعلى الرغم من اعتبار دورها أنه شرفي، فلا يعني هذا أن تأثيرها كان محدوداً.

وأحد الأمثلة على هذا التأثير هو اجتماعاتها السرية الأسبوعية مع رؤساء وزرائها، فنظراً لخبرتها الطويلة في الشؤون العامة والتي تفوق خبراتهم جميعاً، ربما كان لهذه الاجتماعات مع الملكة أثراً على آراء رؤساء وزرائها . علاوة على ذلك، كانت إليزابيث الثانية تهدف إلى تصوير نفسها كشخصية مرتبطة بالمملكة المتحدة بأكملها، وعلى وفاق معها كذلك. لذلك فإن قوتها الموحِدة للأمة كانت ناعمة، ولكنها حقيقية أيضاً، فهي لم تشعر قط أن انتماءها لإنجلترا كان أكبر من انتمائها لاسكتلندا أو أنها رمز لأيرلندا الشمالية أكثر من ويلز مثلاً ، فلقد زارت الملكة أيرلندا زيارة رسمية في عام 2012، وكانت تلك هي المرة الأولى التي يزور فيها العاهل البريطاني الحاكم أيرلندا منذ انفصالها عن المملكة المتحدة. وأثناء تلك الزيارة الشهيرة، صافحت مارتن ماكجينيس، أحد أكثر الجمهوريين ارتباطاً بالجماعات المسببة لأعمال العنف في الماضي . "لقد كانت قوة موحِدة، تستخدم قوتها الناعمة بأسلوب حذر وغير مباشر بهدف وحيد، ألا وهو الحفاظ على الوحدة وبقايا الإمبراطورية.. الكومنولث." 

والملكة إليزابيث ليست ملكة المملكة المتحدة فحسب، بل هي أيضاً ملكة 14 دولة أخرى، منها كندا إلى جانب دول أخرى عبر منطقة آسيا والمحيط الهادئ ومنطقة البحر الكاريبي، والتي تُعرف باسم "عوالم الكومنولث"، والتي يجب أن نفرقها عن "دول الكومنولث"، وهي مجموعة مكونة من 56 دولة كانت ذات يوم جزءاً من الإمبراطورية البريطانية، ولكن أغلبها لم يعد تابعاً للملكة. ولقد ورثت إليزابيث الثانية لقب رئيس الكومنولث من والدها، وقررت العمل به، ولهذا السبب عادةً ما يُنسب إليها ’السقوط المدبر للإمبراطورية’ (أي التحول طواعيةً من إمبراطورية إلى كومنولث). كما صنعت لنفسها بصمة دولية وعززتها بالسفر أكثر من كل من سبقوها بالحكم." 

وحملت الملكة كذلك لقب "المدافعة عن الدين والحاكم الأعلى لكنيسة إنجلترا"، كما مارست شعائر دينها علناً، فواظبت على حضور القداس كل يوم أحد ولم تغب عن أي مناسبة دينية. وكانت دائمة الاستشهاد بإيمانها وبمكانة الله في حياتها في جميع خطاباتها تقريباً ، مما جعلها رمزاً دينياً يجسد القيم التي يجلّها الشعب البريطاني.

وهناك دليل قوي آخر على تأثيرها الناعم، ألا وهو أن الملكة إليزابيث أدركت قوة الإعلام منذ سن مبكرة، ففي عام 1953 طلبت أن يتم بث حفل تتويجها في كنيسة وستمنستر على الهواء مباشرة، فلطالما أكدت أنه "يجب أن يراك الناس حتى يصدقوك". "ولقد منحها التلفاز جمهوراً أكبر، وعند ظهور التلفاز الملون، ارتدت ألواناً أكثر إشراقاً حتى تبرز" . ولقد اتبعت الأسلوب المسمى بـ "الجولات"، حيث ظهرت وسط العامة في وسائل الإعلام . والأهم من ذلك، أن الإنترنت قد أتاحت لها وسيلة أخرى للتواصل مع الجمهور البريطاني والتقرب إليه، فحافظت على ظهورها على وسائل الإعلام الاجتماعية لكي تكون جزءاً من حياة الناس اليومية وأن تؤثر بالتالي عليها.

لذا كانت إليزابيث الثانية أيقونة لقدرتها على إدراك أهمية القوة الناعمة. ولقد نجحت في الحفاظ على حيادها السياسي، فكثيراً ما كانت الملاذ الآمن لأبرز الشخصيات السياسية داخل الحكومة، كما استطاعت في الوقت نفسه توفير الشعور بالوحدة والاستقرار لدى الشعب من خلال إيجاد طرق للتواصل مع العامة والحفاظ عليها. ولم يقتصر "تأثيرها الناعم" على الشعب البريطاني فحسب، بل امتدت بصمتها إلى النطاق الدولي.

ختاماً، فقد ذكر البروفيسور جارتون آش، من جامعة أكسفورد، أنه "ربما لن نصادف أبداً شخصية بريطانية أخرى يحزن على وفاتها العامة على مستوى العالم .. فما حدث يمثل بطريقة ما آخر لحظات العظمة البريطانية." 

وفي يوم وفاة الملكة إليزابيث الثانية، أُعلن تشارلز الثالث، الأمير السابق لويلز، ملكاً. ولقد تعهد الملك تشارلز في خطابه الأول أمام البرلمان بالتمسك بـ "المبادئ القيمة للحكم الدستوري"، حاذياً في إنكار الذات والإيثار حذو والدته الراحلة" . ولكن يبق السؤال حول ما إذا كان سيتمكن من ملء الفراغ الذي خلفته والدته، ومن العمل بطريقته الخاصة في الوقت نفسه للتواصل مع الشعب، ومن إعادة حشد الدعم العام للنظام الملكي البريطاني أم لا.