خلال مؤتمره الصحفي في منتجع مار إيه لاغو في ولاية فلوريدا الأمريكية، في 16 ديسمبر 2024، أثار الرئيس الأمريكي المُنتَخَب، دونالد ترامب، ضجة كبيرة باستبعاده كوريا الجنوبية من قائمة الدول التي يعتزم الانخراط مع قادتها من أجل تعزيز التعاون أو التحالف معهم خلال الفترة القادمة. وبينما عبر ترامب، الذي سيتولى منصب الرئاسة في 20 يناير 2025، عن رغبته في اللقاء مع زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون، والرئيس الصيني شي جين بينغ، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، ورئيس وزراء اليابان شيجيرو إيشيبا، فإنه لم يذكر شيئاً عن مستقبل علاقته مع قادة كوريا الجنوبية، أحد أهم وأقدم حلفاء واشنطن في آسيا.
ويثير هذا التجاهل من جانب ترامب مخاوف كثير من المتابعين للشأن الكوري الجنوبي بشأن مستقبل التحالف الأمني والاستراتيجي بين سيول وواشنطن، والذي كان منذ فترة طويلة حجر الزاوية للسلام والاستقرار في شبه الجزيرة الكورية. ويمكن تفسير هذه المخاوف بأنها تأتي في وقت تشهد فيه سيول أزمة سياسية كبيرة في أعقاب قرار الجمعية الوطنية (البرلمان)، التي تقودها المعارضة، بعزل الرئيس، يون سوك يول، في 14 ديسمبر الجاري، على خلفية محاولته القصيرة الأمد لفرض الأحكام العرفية في 3 ديسمبر؛ وهو القرار الذي يستلزم دستورياً النظر من جانب المحكمة الدستورية في كوريا الجنوبية خلال ستة أشهر لتقرر ما إذا كانت ستعزل الرئيس يول من منصبه أم ستعيده إليه.
واشنطن فوجئت على ما يبدو بقرار إعلان الأحكام العرفية وتعطيل العمل بالدستور من جانب الرئيس يون، الذي لم يُخطِر به واشنطن مسبقاً كما يبدو من التصريحات العلنية لكبار المسؤولين الأمريكيين، وذلك على الرغم من التنامي الكبير في علاقات التحالف الأمني والعسكري بين الدولتين منذ وصول الرئيس يون إلى السلطة في 12 مايو 2022 لمواجهة التهديدات النووية والصاروخية المتطورة التي تشكلها كوريا الشمالية. كذلك تعرَّض وزير الخارجية الكوري الجنوبي تشو تاي يول في الأيام الأخيرة لانتقادات أمريكية شديدة بسبب تجنبه الرد على مكالمات هاتفية من جانب سفير الولايات المتحدة في سيول، فيليب غولدبرغ، في ليلة إعلان الأحكام العرفية في البلاد.
ورغم تولي رئيس الوزراء هان داك سو، الذي شغل منصب سفير كوريا الجنوبية لدى الولايات المتحدة من عام 2009 إلى عام 2012، منصب الرئيس بالنيابة فور تصويت الجمعية الوطنية على عزل يون، ورغم تأكيدات وزيري خارجية كوريا الجنوبية والولايات المتحدة، في 21 ديسمبر 2024، حرصهما على ضمان بقاء "التحالف قوياً" بين الدولتين؛ فإنه من المرجح أن تؤثر الأزمة السياسية المستمرة في سيول، والتي بلغت ذروتها بعزل الرئيس يون، سلباً في مستقبل التحالف الأمني والاستراتيجي بين سيول وواشنطن في الفترة القادمة، خاصة بعدما تجاهَل الرئيس ترامب كوريا الجنوبية في مؤتمره الصحفي الأخير. وتدعم هذا التقدير عدة اعتبارات رئيسية من أهمها ما يلي:
أولاً: من المرجح أن تحاول إدارة الرئيس ترامب فرض شروطها وأحكامها على سيول فيما يتصل بقضايا التجارة والدفاع والأمن. فمن ناحية، وبموجب مبدأ "أمريكا أولاً"، من المتوقع أن تنتهج إدارة ترامب الثانية سياسات اقتصادية "عدوانية" ضد الدول التي تعاني الولايات المتحدة من عجز تجاري كبير معها، ومنها كوريا الجنوبية. وتشمل التدابير المحتملة، في هذا الخصوص، فرض التعريفات الجمركية على صادرات كوريا الجنوبية مثل أشباه الموصلات والسيارات والبطاريات، وخفض الدعم، وإعادة التفاوض على اتفاقية التجارة الحرة بين الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية، والتي تم توقيعها في 30 يونيو 2007.
عسكرياً، من المتوقع أن يدعو الرئيس ترامب كوريا الجنوبية، وحلفاء آخرين، إلى زيادة إنفاقهم الدفاعي وتحمُل مسؤوليات أكبر عن أمنهم. وفي هذا السياق، قال بعض المراقبين إن الرئيس الأمريكي من المرجح أن يطلب من الكوريين الجنوبيين إعادة التفاوض بشأن اتفاقية جديدة لتقاسم تكاليف الدفاع. وكانت سيول وواشنطن قد أبرمتا، في أكتوبر 2024، الاتفاق العسكري الثاني عشر، لتحديد حصة سيول في تكلفة تمركُز القوات الأمريكية في كوريا الجنوبية، والتي يبلغ قوامها 28500 جندي.
وقد نص هذا الاتفاق، الذي كان من المقرر أن يستمر حتى عام 2030، على أن تدفع سيول 1.52 تريليون وون (1.04 مليار دولار) في عام 2026، ارتفاعاً من 1.4 تريليون وون (957 مليون دولار) في عام 2025. ويشار في هذا الصدد إلى أن الرئيس ترامب، كان قد قال خلال حملته الانتخابية، إن كوريا الجنوبية ستدفع عشرة مليارات دولار سنوياً لتمركز قوات الولايات المتحدة هناك إذا أصبح في البيت الأبيض. كما وصف ترامب الحليف الآسيوي بأنه "آلة نقود"، وفقاً لوكالة يونهاب الكورية الجنوبية. هذا الموقف تجاه كوريا الجنوبية يأتي ضمن تصريحات وسياسات ترامب الداعية إلى زيادة الإنفاق العسكري من جانب الحلفاء، وهو ما ظهر إلى العلن بوضوح مؤخراً، بعدما أبلغ فريق ترامب مسؤولين أوروبيين أنه سوف يطلب من الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي "الناتو" رفع إنفاقها الدفاعي إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي، وفق ما ذكرت صحيفة فاينانشال تايمز.
ثانياً: عبَّر الرئيس ترامب مراراً، خلال حملاته الانتخابية، عن استعداده للتعامل مع كوريا الشمالية والصين، وكلتاهما تشكل تهديداً أمنياً كبيراً لكوريا الجنوبية بشكل أو بآخر؛ بل واقترح ترامب أيضاً عقد قمة جديدة مع زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون، والذي وصفه بأنه "زعيم يتوافق معه". وكان ترامب قد التقى مرتين مع كيم في سنغافورة في عام 2018 وفي هانوي في عام 2019، من أجل وقف البرامج النووية والصاروخية لدى بيونغ يانغ، إلا أن هاتين القمتين لم تسفرا عن إحداث إي اختراق في هذا الخصوص.
ثالثاً: ربما يجري تهميش كوريا الجنوبية نسبياً لصالح شركاء آخرين في منطقة شرق آسيا، خاصة اليابان؛ ففي المؤتمر الصحفي المذكور آنفاً، والذي تجاهَل فيه ترامب تماماً كوريا الجنوبية، فإنه أعلن خلاله عن صفقة استثمارية كبرى يخطط بموجبها ماسايوشي سون، الرئيس التنفيذي لمجموعة سوفت بنك اليابانية، لاستثمار 100 مليار دولار في مشروعات أمريكية على مدى السنوات الأربع المقبلة، والتي من شأنها خلق 100 ألف فرصة عمل. كما استضاف ترامب وزوجته أيضاً في عشاء خاص أرملة رئيس الوزراء الياباني الراحل شينزو آبي، والتي أشار إليها ترامب سابقاً باسم "توأم الروح"، وكان هذا هو أول لقاء لترامب مع شخصية عامة من اليابان منذ فوزه في الانتخابات في 5 نوفمبر الماضي، وفقاً لصحيفة ماينيتشي شيمبون اليابانية.
كما ألمح ترامب أيضاً إلى احتمال عقد اجتماع مع رئيس الوزراء الياباني شيجيرو إيشيبا قبل تنصيبه رسمياً في يناير المقبل، وهو ما يعكس ميل الإدارة الأمريكية الجديدة إلى تفضيل اليابان على كوريا الجنوبية في سعيها لرسم تحالفاتها الأمنية والاستراتيجية والاقتصادية في منطقة شرق آسيا.
على أية حال، يمكن القول إن الأشهر المقبلة سوف تمثل منعطفاً حاسماً بالنسبة للتحالف الأمني والاستراتيجي بين كوريا الجنوبية والولايات المتحدة؛ نظراً للتداعيات الاقتصادية والعسكرية والدبلوماسية المتصاعدة الناجمة عن قرار البرلمان عزل الرئيس، والتي يأتي في مقدمتها إمكانية انتخاب زعيم الحزب الديمقراطي المعارض، لي جاي ميونغ، رئيساً جديداً لكوريا الجنوبية، وهو المعروف عنه الميل إلى إقامة "علاقات متوازنة ومستقلة" مع واشنطن والتقارب مع كوريا الشمالية، على خلاف الرئيس يون الذي كان يفضل تعزيز "علاقات تحالف قوية ومتنامية" مع الشريك الأمريكي والمواجهة مع بيونغ يانغ.
من ناحية أخرى، سوف يزداد الأمر تعقيداً بشأن مستقبل التحالف بين سيول وواشنطن مع وصول الرئيس الأمريكي ترامب إلى البيت الأبيض في العام الجديد؛ بل وربما تقود السياسات التي سوف يطبقها ترامب تجاه سيول إلى توجيه "ضربة قوية" لهذا التحالف خاصةً إذا ما قرر التقارب مع كوريا الشمالية، أو صمَّم على إعادة النظر في اتفاقيات التجارة مع سيول، أو تمسَّك بأن يدفع الكوريون الجنوبيون مبلغ العشرة مليارات دولار سنوياً في سبيل مد المظلة الأمنية والعسكرية الأمريكية لهم، أو مطالبتهم بزيادة مشتريات الأسلحة الأمريكية.
هذا، ومن المرجح أن يؤدي تراجع التحالف الأمني والاستراتيجي بين سيول وواشنطن، في ظل إدارة ترامب الثانية، إلى زيادة احتمالات الفوضى وعدم الاستقرار في شبه الجزيرة الكورية، كما أنه سيؤدي أيضاً، في الغالب، إلى إحداث "ثغرة كبيرة" في استراتيجية الولايات المتحدة، وربما أيضاً في استراتيجية حلف "الناتو" في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، خاصة في ضوء التعاون العسكري المتنامي بين كوريا الشمالية وروسيا، واستمرار بيونغ يانغ في تطوير برامجها النووية والصاروخية، ومواصلة الصين صعودها العسكري والاقتصادي في المنطقة.