أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

بين الردع والأخلاق:

كيف يفكر العاملون في الأسلحة النووية الأمريكية؟

08 يوليو، 2024


عرض: بسنت عادل

تُطل علينا من رحم الحرب الباردة قنبلة موقوتة تُهدد حاضرنا ومستقبلنا، ألا وهي الأسلحة النووية، والتي لا تزال تحتفظ بأهمية بالغة في المشهد الأمني العالمي. ففي عالمٍ من المفترض أن يسود فيه السلام، تُخيم هذه الأسلحة بظلالها القاتمة، مُخلفةً شعوراً بالقلق والخوف والرعب من كارثة مُحتملة؛ إذ يحذر بعض الخبراء من أننا قد نكون معرضين لخطر كارثة نووية اليوم بقدر ما كنا عليه خلال ذروة الصراع إبان الحرب الباردة بين القوتين العظميين (الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي). وعلى الرغم من ذلك، فغالباً ما تُجرى المحادثات حول هذه القنابل النووية بمنظور الماضي، لكن، هل نعرف حقاً ما يكمن وراء هذه القنابل المُدمرة؟ ما حكايات صانعيها؟ وما تأثيرها في حياتنا؟ 

في ظل انشغال القوى الكبرى حالياً بالسباق النووي، تقدم الكاتبة والصحفية المعنية بالشؤون العلمية، سارة سكولز، كتاب "العد التنازلي: المستقبل المظلم للأسلحة النووية"، الصادر عام 2024. والكتاب ليس مجرد سرد تاريخي للقنبلة الذرية والعواقب المدمرة لاستخدامها المحتمل، فمن خلال سنوات من العمل الميداني المكثف، تطرح سكولز تجارب العاملين في هذه المختبرات، من علماء ومهندسين وفنيين، يُسهمون بجهودهم في تصميم وبناء وصيانة أخطر الأسلحة في العالم، لتُسلط الضوء على التحديات الأخلاقية والنفسية التي يواجهها هؤلاء الأفراد، وهم يُدركون في نفس الوقت المسؤولية الجسيمة الملقاة على عاتقهم.

يثير الكتاب أيضاً مخاوف جدية حول سباق التسلح النووي في ظل توسع القدرات النووية للعديد من الدول، كما يتحدى الأفكار السائدة حول جدوى امتلاكها، ويُناقش الآثار العلمية والمجتمعية لهذه الأسلحة، من مخاطر تتعلق بسيطرة الجماعات الإرهابية على هذه الأسلحة، فضلاً عن المخاطر البيئية سواء المباشرة أم غير المباشرة؛ مما يجعل الكتاب مساهمة قيّمة في فهم المجتمع العلمي للتهديد النووي المستمر.

التطويرات النووية: 

استناداً إلى سنوات من العمل الميداني المكثف داخل مختبرات الأسلحة النووية الوطنية بالولايات المتحدة، تتحدى الكاتبة الفكرة السائدة التي ترى أن امتلاك تلك الأسلحة يضمن الأمن ويردع الهجمات ويمنع نشوب حرب نووية، من خلال تقديم تقييم نقدي للترسانة النووية الأمريكية الراهنة التي تمتلك التكنولوجيا النووية الحديثة. وتتجاوز سكولز في طرحها مجرد عناوين الأخبار والخطاب السياسي لتكشف عن واقع تكنولوجيا الأسلحة النووية؛ إذ تعمل الولايات المتحدة حالياً على برنامج تحديث نووي ضخم، تستثمر من خلاله في بنيتها التحتية الذرية بشكل غير مسبوق منذ عقود لمواكبة "تحديث أسلحة القوى النووية".

وتناقش الكاتبة برامج التحديث المُستمرة التي تتبناها القوى النووية، مسلطة الضوء على مخاطر سباق تسلح مُتجدد وتصاعد التوترات مع فاعلين جدد مثل كوريا الشمالية، كما تركز على النواحي العلمية والتكنولوجية التي تُحرك جهود التحديث والتطوير، مُناقشةً تطوير الرؤوس الحربية النووية المُصغرة وتعقيد أنظمة التوصيل المُتزايدة؛ إذ تُثير هذه التطويرات تساؤلات علمية مُلحّة حول تأثيرها في الاستقرار الاستراتيجي واحتمال سوء التقدير أو التصعيد.

تكتسب تحقيقات سكولز أهمية خاصة في ضوء الوعي المتزايد بالمخاطر النووية نتيجة للحرب الروسية على أوكرانيا وقرار الحكومة الأمريكية بتصنيع حفر بلوتونيوم جديدة لرؤوسها الحربية النووية. ففي سياق عملها، ترسم الكاتبة صورة حية للعالم المعقد نتيجة الأسلحة النووية؛ إذ تصف محاكاة الحاسوب التي تقيم فعالية الأسلحة التي لا يمكن اختبارها، والأنظمة القادرة على رصد التفجيرات في أي مكان بالعالم، والوكالات التي تستعد للتعامل مع الحوادث النووية، كما أن تحديث الأسلحة النووية الأمريكية ربما يثبط عزيمة الدول الأخرى عن استخدام أسلحتها، حتى وإن كان القيام بذلك يهدد "بتأجيج سباق تسلح لا نهاية له".

دوافع العلماء: 

تُقدم الكاتبة تحليلاً معمقاً لحياة العاملين في الأسلحة النووية من خلال المقابلات الميدانية، مُتجاوزةً الصورة النمطية للعلماء كأدوات جامدة بلا مشاعر، مستفيدة من احتضان غرب الولايات المتحدة للعديد من المختبرات النووية الأمريكية، بما في ذلك مختبر لوس ألاموس؛ حيث أشرف أوبنهايمر على عملية اختراع وتصنيع أول قنبلة نووية، وكذلك مختبر لورانس ليفرمور الوطني، ومختبرات سانديا. 

ويسلط الكتاب الضوء على الدوافع المُعقدة التي تدفع العلماء النوويين إلى هذا العمل، لتُسجّل تناقضاً صارخاً بين إيمان البعض بضرورة الردع النووي كوسيلةٍ لمنع الحروب (إذ إن عدد الوفيات الناجمة عن الحروب الكبرى انخفض بعد اختراع القنبلة النووية) وأولئك الذين يُصارعون الثقل الأخلاقي لمسؤولياتهم ويُعارضون وجود هذه الأسلحة بشكلٍ قاطع، ويُوجد أيضاً من يُحاول التوفيق بين الموقفين، من خلال التركيز على التطبيقات المدنية لأبحاث الأسلحة النووية أو على ضمان سلامة وصيانة هذه الأسلحة.

وتشير سكولز إلى وجود صراعاتٍ داخلية لدى العاملين في السلاح النووي بين رغبتهم في السلام وشعورهم بواجبهم في الحفاظ على أمن بلادهم، كذلك صراعات أخرى بين دوافعهم العلمية ومخاوفهم من العواقب المُدمرة لهذه الأسلحة؛ مما يجعلهم بحاجة إلى أنظمة دعم قوية. وقالت إن هناك تنوعاً في دوافع العلماء النوويين بين الإيمان بضرورة الردع النووي، والدافع للفضول العلمي، وحب التحديات التقنية؛ إذ يطور هؤلاء العلماء شعوراً عميقاً بالمسؤولية تجاه السلام العالمي، بينما يُدركون في الوقت ذاته أن أسلحتهم تُشكل عنصراً مهماً في استراتيجية الردع النووي.

في هذا الإطار، قدمت الكاتبة لمحة عن شخصيات مثل تيس لايت، الفيزيائية في مختبر لوس ألاموس الوطني، والتي تُشرف على مراقبة اختبارات التفجير النووي الأجنبية المحتملة؛ إذ تُؤمن لايت بأن عملها يُسهم في درء الصراع من خلال ضمان الالتزام بالمعاهدات النووية، حتى مع استمرار تحديث الأسلحة النووية الأمريكية تحسباً لسيناريوهات الاستخدام المحتمل.

وفي سياق لقاء معارضي البرنامج النووي، ناقشت سكولز عمل الناشطة مارليا كيلي، التي أسست مجموعة مراقبة "تحقق في التأثيرات الصحية والبيئية" التي يُسببها مختبر لورنس ليفرمور بولاية كاليفورنيا على السكان المجاورين، مقدمة تحليلاً دقيقاً لشخصيات العلماء النوويين، وأكدت أن معظمهم "لا ينتمون إلى معسكر المتشددين أو المسالمين بشكلٍ مطلق". 

عواقب كارثية: 

لا يقف الكتاب عند حدود التطور التقني في تصميم الأسلحة النووية أو التعرض لدوافع العاملين في السلاح النووي، بل يتعمق في تحليل التأثيرات البيئية المدمرة للحرب النووية؛ إذ تتجاوز الكاتبة التركيز التقليدي على الانفجار الفوري والتساقط الإشعاعي، لتسلط الضوء على العواقب البيئية الكارثية طويلة الأمد، فمن خلال الاستناد إلى أدلة علمية موثقة، تشير إلى أن كميات هائلة من الغبار النووي ستحجب ضوء الشمس لعدة أشهر بعد حدوث حرب نووية؛ مما سيؤدي إلى انخفاض حاد في درجات الحرارة، وانتشار المجاعة، وانهيار النظم البيئية.

في هذا السياق، يُذكر الكتاب بالعواقب البيئية بعيدة المدى للحرب النووية؛ إذ يستعرض الأدلة العلمية التي تدعم هذه الادعاءات من خلال الاستعانة بعمليات النمذجة المناخية وبحوث علم الغلاف الجوي؛ إذ تُشير النتائج إلى أن "شتاءً نووياً" قد يحدث بالفعل في أعقاب حرب نووية؛ مما يُشكل تهديداً خطراً لجميع أشكال الحياة على الأرض؛ لذا، فمن المهم اتخاذ خطوات جادة لمنع حدوث تلك العواقب البيئية.

من جانب آخر، ثمة مخاوف إضافية تتعلق باستحواذ الإرهابيين على الأسلحة النووية؛ فإذا وقعت هذه الأسلحة الفتاكة في أيدي جماعات إرهابية؛ فإن ذلك قد يؤدي إلى تصعيد خطر للصراعات بين الدول على المستوى النووي، هذا السيناريو المقلق يزيد من إلحاح رسالة الكتاب ومفادها أن فهم وتقليل مخاطر الأسلحة النووية، سواء من حيث تصميمها أم آثارها البيئية المحتملة أم خطر وقوعها في الأيدي الخطأ، أمر بالغ الأهمية لضمان مستقبل آمن ومستدام لكوكبنا.

تحولات جذرية:

يناقش الكتاب التحولات الجيلية الجذرية في منهجية الولايات المتحدة تجاه ترسانتها النووية؛ إذ انتقلت من الاعتماد على التجارب التفجيرية إلى استخدام النمذجة الحاسوبية وغيرها من المهارات التقنية المتقدمة، متجنبة بذلك الحاجة إلى إجراء تجارب تفجيرية ميدانية، ففي الفترة التي سبقت عام 1992، كانت الولايات المتحدة تعتمد على التجارب التفجيرية لضمان فعالية وسلامة أسلحتها النووية.

هنا، يصف روب نيلي، رئيس قسم المحاكاة والحوسبة في مختبر ليفرمور حقبة التجارب الميدانية قائلاً: "كان الخبراء يطيرون صباحاً، ويفجرون أجهزتهم في الصحراء، فلا يطمئنون إلا بعد أن تهتز الأرض تحت أقدامهم". مع بدء الولايات المتحدة في تصميم الرأس الحربي الجديد (W93) لأول مرة منذ عقود، يشكك بعض علماء الجيل القديم في إمكانية تحقيق ذلك دون تجارب حية، بينما يثق الجيل الجديد مثل نيلي في قدرتهم على تصميم وتطوير الأسلحة النووية باستخدام النمذجة الحاسوبية والتقنيات الرقمية المتقدمة.  

ختاماً، فإن الكتاب لا يُقدم فقط مجرد سرد تقني حول الأسلحة النووية؛ بل يُسافر بنا عبر عالم معقد مليء بالتناقضات؛ إذ يُواجه العاملون في هذا المجال صراعات أخلاقية ونفسية بينما يُسهمون في تطوير أسلحة تُهدد بدمار هائل، كما يدق جرس إنذار بشأن خطورة استمرار التمسك بالأسلحة النووية، ويدعو إلى اتخاذ إجراءات عاجلة لمنع كارثة مُحتملة من خلال التحذير من العواقب المدمرة المحتملة للحرب النووية. 

الأهم من ذلك أن مناقشة القضايا الأخلاقية المُعقدة المحيطة بالردع النووي تدعونا إلى إعادة تقييم جذري لعلاقتنا بالتكنولوجيا النووية، في وقت يتسارع فيه التقدم العلمي بوتيرة مذهلة؛ إذ إن كل خطوة تكنولوجية تحمل معها مسؤولية أخلاقية. فـ"العد التنازلي" ليس مجرد تحذير من كارثة نووية محتملة؛ بل هو دعوة للتفكير النقدي في كيفية توجيه التقدم العلمي لضمان بقاء الإنسانية وازدهارها.

المصدر:

Sarah Scoles, "Countdown: The Blinding Future of Nuclear Weapons", (Review in Foreign Affairs, May/June 2024, P.96).