أخبار المركز
  • أحمد عليبة يكتب: (هاجس الموصل: لماذا يخشى العراق من التصعيد الحالي في سوريا؟)
  • محمود قاسم يكتب: (الاستدارة السريعة: ملامح المشهد القادم من التحولات السياسية الدرامية في كوريا الجنوبية)
  • السيد صدقي عابدين يكتب: (الصدامات المقبلة: مستقبل العلاقة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية في كوريا الجنوبية)
  • د. أمل عبدالله الهدابي تكتب: (اليوم الوطني الـ53 للإمارات.. الانطلاق للمستقبل بقوة الاتحاد)
  • معالي نبيل فهمي يكتب: (التحرك العربي ضد الفوضى في المنطقة.. ما العمل؟)

حزام عدم الاستقرار:

دوافع حمى الانقلابات العسكرية في غرب ووسط إفريقيا

11 سبتمبر، 2023


صارت الانقلابات العسكرية مشهداً متكرراً في منطقة غرب ووسط إفريقيا، لتشهد بذلك القارة أكبر عدد من الانقلابات على مستوى العالم. ففي 30 أغسطس 2023، كانت الغابون الدولة الثانية في هذه المنطقة - غير المستقرة سياسياً - التي تتعرض لانقلاب عسكري في أقل من شهرين، حيث يأتي الانقلاب العسكري بها بعد أحداث الإطاحة برئيس النيجر محمد بازوم في 28 يوليو. فعقب نتائج الانتخابات الرئاسية المتنازع عليها في الغابون، سيطر القادة العسكريون على السلطة، وتم إعلان الجنرال بريس أوليغي نغويما، زعيماً جديداً للحكومة الانتقالية.

يعكس الاستيلاء العسكري على مدينة ليبرفيل بشكل واضح الاتجاه السائد في هذه المنطقة من إفريقيا. حيث يعتبر هذا الانقلاب العسكري بالغابون هو الثامن من نوعه في غرب ووسط إفريقيا منذ عام 2020. فقد أطاح العسكريون بقادة كل من: مالي، وغينيا، وبوركينا فاسو، والسودان، وتشاد. وعلى الرغم من أن تغيير الأنظمة ليس بجديد بأي حال من الأحوال في القارة السمراء، فإن تواتر هذه الأحداث في المنطقة التي يطلق عليها "حزام الانقلابات"، صار أمراً مثيراً للقلق.

ومن المثير للاهتمام، أن الاستيلاء على السلطة في الغابون، كما هو الحال في العديد من الانقلابات الأخيرة، لم يكن عنيفاً، فقد بدا بشكل عام أنه يحظى بدعم شعبي (أو على الأقل أنه يفتقر إلى المعارضة الشعبية العلنية)، مما يمثل انحرافاً كبيراً عن الاتجاه الذي كان سائداً بالمنطقة في مرحلة ما بعد الاستقلال. فعقب الاستيلاء على السلطة في الغابون، قام المسؤولون العسكريون على الفور بوضع الرئيس بونغو، تحت الإقامة الجبرية، وأغلقوا جميع الحدود، وأوقفوا الحكومة تماماً عن العمل. وفي خضم سيل من الانتقادات الإقليمية والدولية للانقلاب، ادعى الجنرال نغويما، الرئيس السابق للحرس الرئاسي والذي استولى على السلطة، أن الرئيس بونغو، قد تمتع "بجميع حقوقه كمواطن غابوني عادي" أثناء اعتقاله.

تعثر مقاومة الانقلابات 

على مدار التاريخ، قام الزعماء الأفارقة باستخدام استراتيجيات مختلفة "لحماية أنظمتهم من الانقلابات". وكثيراً ما تبنت الحكومات الإفريقية سواءً العسكرية منها أم المدنية استراتيجيات مماثلة، غير أن الأنظمة العسكرية كانت أكثر ميلاً نحو تبني استراتيجيات عسكرية لحماية أنظمتها، بينما تسعى الحكومات المدنية إلى حماية نفسها من خلال الدعم الشعبي. ومع ذلك فإن المشاكل الاقتصادية وانعدام الأمن وانتشار الفساد وتفشي الإدارات السيئة بشكل عام، قد أدى إلى ابتعاد الزعماء الأفارقة عن ناخبيهم، مما جعلهم أكثر عرضة للانقلابات.

ومن بين الآليات الأساسية التي يستخدمها رؤساء الدول الإفريقية لحماية أنظمتهم، إنشاء قوات عسكرية متعددة ومتنافسة. فعلى الرغم من أن معظم الدول الإفريقية تمتلك جيوشاً وطنية، فإن هذه الجيوش قد تغير أولوياتها ومصالحها المؤسسية، ما يؤدي إلى تحول الجيش لكيان سياسي له أهدافه وطموحاته الخاصة وقيادته المستقلة عن الدولة. ولذلك، غالباً ما يحصن القادة الأفارقة أنفسهم بإنشاء وحدات مسلحة أخرى مكونة من النخبة المتمثلة في الحرس الرئاسي، ورجال الشرطة، والأمن الوطني، والقوات الخاصة، ووحدات "الكوماندوز"، وذلك بهدف منع الجيش من الاستيلاء على السلطة ولتحقيق مصالحهم الخاصة. وعادةً ما تكون هذه الوحدات أصغر من الجيش الوطني ولكنها تكون في الوقت نفسه مدربة ومجهزة جيداً. والأهم من ذلك أن هذه الوحدات المسلحة عادةً (وليس دائماً) ما تكون منتمية لنفس العِرق الذي ينتمي إليه رئيس الدولة. ومع ذلك، فإن هذه الوحدات الخاصة غالباً ما تستخدم مواقعها المميزة والقريبة من السلطة لقيادة انقلابات ناجحة. حتى إن العديد من التغييرات الأخيرة في الأنظمة الإفريقية، بما في ذلك تلك التي حدثت في الغابون والنيجر، قد اتخذت فيها هذه الوحدات الخاصة زمام المبادرة. 

وتسلط التعديلات العسكرية التي اتخذتها كل من الكاميرون وسيراليون في أعقاب انقلاب الغابون الضوء على الجهود المبذولة لاستباق الانقلابات المحتملة التي قد تحاكي سابقاتها بالمنطقة. فمن جانبه، أجرى الرئيس الكاميروني، بول بيا، تعديلات وزارية في وزارة الدفاع والقوات المسلحة، في حين قام نظيره السيراليوني، جوليوس مادا بيو، بتعيين الأمريكي جيري توريس، كمستشار له للأمن القومي، وهو من أهم المعروفين في مجال "اللوبي" الأمريكي، وقد سبق ذلك اعتقال كبار المسؤولين العسكريين.

عوامل السخط الاجتماعي 

استفاد قادة الانقلابات من السخط العام واسع النطاق المنتشر بمنطقة وسط وغرب إفريقيا والمتعلق في معظمه بقضايا الحكم المتردي، والتطرف العنيف، وانعدام الأمن، وتفشي الفساد، وتزوير الانتخابات، والمطالبات الدكتاتورية بالاستيلاء على السلطة. والواقع أن الانقلابات الأخيرة في الغابون، والنيجر، ومالي، وبوركينا فاسو، وغينيا، والسودان قد حصلت على درجات متفاوتة من الدعم المدني وشهدت أعمال عنف محدودة، ولذا فمن المرجح أن تشجع هذه العوامل قادة الانقلابات وتجرئهم على الاستيلاء على السلطة المناهضة للديمقراطية.

ويمكن أن يعزى هذا الدعم المدني الواضح للانقلابات في إفريقيا إلى عدة عوامل منها: عدم الرضا عن الحكومات السابقة، والرغبة الملحة في التغيير، والأمل في أن يتمكن قادة الانقلاب من معالجة قضايا البلاد. ويثير هذا الدعم المدني للانقلابات مخاوف الزعماء الأفارقة، ويشير إلى وجود استياء شعبي واسع النطاق من الوضع السياسي الراهن في العديد من بلدان وسط وغرب إفريقيا. فعلى سبيل المثال، تمثل المظاهرات الأخيرة المؤيدة للانقلاب بالنيجر رمزاً واضحاً لخيبة الأمل هذه.

وعلى الرغم من احتمالية وجود علاقة بين هذه المظالم المدنية وبين انتشار الانقلابات في هذه المنطقة من إفريقيا، فإنها لا تمثل السبب الرئيسي أو الوحيد على الأقل، فهناك عوامل أخرى تسهم أيضاً في حدوث مثل هذه الاضطرابات السياسية. 

بشكل عام، يُعد التأثر بالانقلابات الناجحة، ووجود ضمانات إقليمية حتى وإن كانت محدودة، وتفشي المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، فضلاً عن المنافسات الجيوسياسية، عوامل تتضافر جميعها في الدفع نحو القيام بانقلابات بالدول الهشة سياسياً في العالم. 

ضغوط خارجية محدودة  

إلى الآن لم يتم اختبار حدود الدور الذي تؤديه التنافسات الجيوسياسية - خاصة التنافس على النفوذ بين موسكو والغرب - في تأجيج الانقلابات وعدم الاستقرار بمنطقة وسط وغرب إفريقيا. في حين أن الأوضاع في مختلف بلدان المنطقة معقدة ومتعددة الأوجه، فإن الديناميكيات الجيوسياسية مثل: الصراعات بالوكالة، والمنافسة على الموارد، وحرب المعلومات، والمناورات الدبلوماسية بين بعض القوى العالمية، قد أدت جميعها إلى تفاقم الهشاشة السياسية لبعض هذه الدول الإفريقية. 

على وجه الخصوص، سلط انقلاب 2021 في مالي، وأخيراً الانقلاب بالنيجر، الضوء على التنافس الجيوسياسي العميق بين موسكو والغرب على المصالح الاستراتيجية لكل منهما بإفريقيا. فبعد مغادرة القوات الفرنسية للبلاد في أعقاب الانقلابات في مالي وبوركينا فاسو، صارت النيجر والغابون مواقع يمكن لباريس وحلفائها مواجهة روسيا فيها هي وغيرها من المنافسين. فبعد وقت قصير من تغيير النظام في النيجر، سار الآلاف من المتظاهرين المؤيدين للانقلاب في شوارع العاصمة نيامي، للتنديد بفرنسا (القوة الاستعمارية السابقة للنيجر)، ولوحوا بالأعلام الروسية، وأضرموا النار بباب السفارة الفرنسية. 

وتشير بعض المصادر لدور روسيا في دعم هذا التوجه، حيث أشارت شركة "لوجيكالي" (Logically)، (وهي شركة تكنولوجيا مقرها الولايات المتحدة هدفها تركيز الضوء على المعلومات الخاطئة والمضللة المنتشرة عبر الإنترنت)، إلى أن قنوات التواصل الاجتماعي التابعة للكرملين قد نشرت حملة معلومات مضللة، مستخفةً بباريس وداعمةً علناً للانقلاب في النيجر، وذلك في محاولة واضحة لترسيخ نفوذ موسكو في البلاد. 

على الجانب الآخر، في خضم هذا العدد المتزايد من الانقلابات بإفريقيا، لم تكن ردود الفعل من جانب المنظمات والدول الإقليمية - بما في ذلك التهديد بالتدخل العسكري – ذات تأثير يذكر، فلم تقم بالكثير لإنهاء هذا الاتجاه. وبينما قامت المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (ECOWAS)، والأمم المتحدة، والحكومات الغربية - كل على حدة - أخيراً بفرض بعض العقوبات على قادة الانقلابات، إلا أن هذا الإجراء لم يحقق سوى نجاح محدود في استعادة الحكم المدني في هذه الدول. 

في المقابل، اتحد قادة الانقلابات في بعض الدول الإفريقية أخيراً، ربما بفضل الدعم المدني الظاهري لهم، متحدّين بذلك ردود الأفعال الإقليمية والدولية المناهضة للانقلابات، فضلاً عن التهديدات بفرض عقوبات أو القيام بتدخل عسكري. وعلى الرغم من تدخل المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا في الماضي لاستعادة الاستقرار في غامبيا، ومالي، وساحل العاج، وغينيا بيساو، وسيراليون، فإن الوحدة الواضحة لقادة الانقلابات في المنطقة، والدعم المدني الملحوظ (أو عدم وجود معارضة) لهم، فضلاً عن المخاوف المتعلقة بالشرعية التاريخية والمصداقية من جانب المنظمة الإقليمية، زادت الأمور تعقيداً في إفريقيا. ومن جانبه، اتخذ الاتحاد الإفريقي في معظم الحالات مواقف حازمة ضد الانقلابات، على الرغم من افتقاره إلى صلاحية فرض العقوبات.

تحديات ما بعد الانقلابات 

من المتوقع أن تشتد المنافسة الجيوسياسية بين روسيا والدول الغربية في المستقبل القريب. فعلى الرغم من أن تحميل موسكو المسؤولية المباشرة لقيام الانقلابات في الدول الإفريقية محل خلاف، فإن تكثيف الكرملين لنفوذه وتحفيزه لحملة المشاعر المعادية للغرب في المنطقة أمر لا خلاف عليه. ومن المتوقع أن تسعى موسكو إلى استغلال أوضاع عدم الاستقرار بالمنطقة لتدرج نفسها كفاعل رئيسي فيها. وتؤكد حملة المعلومات المناهضة للغرب، التي تنتشر إلى حد مؤثر بين السكان في غرب ووسط إفريقيا الجهود الكبيرة التي تبذلها موسكو لتوسيع نفوذها الجيوستراتيجي في المنطقة.

على الجانب الآخر تثير عمليات الاستيلاء على السلطة من جانب قادة الانقلابات مخاوف عميقة بشأن تراجع المنطقة عن تقدمها نحو الديمقراطية. ونظراً للمزيج المعقد من القضايا التي تسهم في قيام الانقلابات في المنطقة، والتي لم تتم معالجتها بعد، فإن خطر تغيير الأنظمة سيبقى قائماً على المدى المتوسط إلى الطويل. وإن معدل نجاح هذه الانقلابات قد يغري بقية دول المنطقة بإحداث تغييرات مماثلة في أنظمتها، وبخاصة في البلدان التي تعاني من مرارة الإحباط من جدوى أنظمتها المترسخة.

وفي حين أن بعض الذرائع الرئيسية وراء قيام الانقلابات هي: انعدام الأمن، وتردي نظام الحكم، ومواجهة الكثير من الصعوبات الاقتصادية، وتزوير الانتخابات، إلا أن الأدلة التجريبية تشير إلى أن قادة الانقلابات لا يقدمون سوى القليل جداً من البدائل القابلة للتطبيق للمدنيين بعد توليهم السلطة. وتشير الاتجاهات الأخيرة كذلك إلى أن بعض حكومات ما بعد الانقلاب تستخدم قدراً محدوداً من التسامح مع المعارضة السياسية، وتقيد الحريات المدنية، فضلاً عن أنها تقوم بتقويض الدساتير والمؤسسات المستقلة. 

أضف إلى ذلك أنه بناءً على خلفية الجمود السياسي، والتحديات الأمنية الكبيرة، وموجة العقوبات، والهبوط المحتمل في مستوى الاستثمار الأجنبي المباشر بالدول الإفريقية التي شهدت الانقلابات، فقد تستمر اقتصاداتها في مواجهة رياح معاكسة مما سوف يؤدي في نهاية المطاف إلى انتفاء الغرض الذي قامت من أجله الانقلابات بالأساس.

أخيراً، من المتوقع أن تخلف الانقلابات العسكرية عواقب وخيمة على الحالة الأمنية العامة في وسط وغرب إفريقيا، وخاصة فيما يتعلق بالتعامل مع الإرهاب وعنف المليشيات. فعلى سبيل المثال، من المرجح أن يؤدي الانسحاب المحتمل للقوات الأمريكية والفرنسية من النيجر إلى تقويض جهود مكافحة الإرهاب في حوض بحيرة تشاد. ويؤدي هذا بدوره إلى تفاقم حالة عدم الاستقرار القائمة في غرب ووسط إفريقيا، مما قد يساعد على نمو الجماعات الإرهابية والمتمردة في المنطقة.