بعد صدور نتائج الدراسة التي أعدتها مجلة “ذي لانسيت” العلمية في فبراير الماضي، والتي أفادت بأن لقاح “Sputnik V” الروسي، فعّال بنسبة 91.6% ضد (كوفيد-19)، عملت موسكو على زيادة إنتاجه وتوسيع نطاقه توزيعه في الخارج. وجاءت دول أمريكا اللاتينية في مقدمة دول العالم التي أبدت اهتمامًا قويًّا بالحصول على اللقاح الروسي، لمواجهة الموجة الثانية من الوباء، وكانت الأرجنتين وبوليفيا أول دولتين في المنطقة ترخص استعمال اللقاح الروسي. من جانبها، كان توصل روسيا لهذا اللقاح بمثابة فرصة حقيقية بالنسبة لها لتعزيز حضورها في أمريكا اللاتينية، وترسيخ مكانتها في الحديقة الخلفية للولايات المتحدة.
أهداف متشابكة:
جاء الحرص الروسي على إمداد دول أمريكا اللاتينية باحتياجاتها من لقاح “Sputnik V”، انطلاقًا من رغبة موسكو في تحقيق مجموعة من الأهداف، وذلك على النحو التالي:
1- تعزيز النفوذ الجيوسياسي: تعمل موسكو على استغلال الفرصة لتوزيع اللقاح على الجنوب العالمي، كي تروج لنفسها كقوة رائدة تهتم بمصالح ورفاهية العالم النامي، وذلك في ظل السباق العالمي على النفوذ، وفي مواجهة الإدانات الدولية لموسكو بسبب قضايا تتعلق بحقوق الإنسان.
وكان تقديم موسكو للقاح “Sputnik V”، إلى دول أمريكا اللاتينية، بمثابة إشارة واضحة على أنها تستغل الأزمة الصحية لتأكيد دورها ونفوذها في أمريكا اللاتينية خلال حقبة ما بعد (كوفيد-19). وفي هذا السياق، تستهدف موسكو تقديم نفسها كمنقذ لدول أمريكا اللاتينية، بما يُسهم في تطوير علاقاتها وتحسين صورتها كشريك موثوق لدول المنطقة الغنية بالموارد، وذلك عبر توظيفها “دبلوماسية اللقاح” كأداة للقوة الناعمة.
ومن الناحية التجارية، فإن بيع ملايين الجرعات من اللقاح يعني أيضًا تحقيق أرباح بملايين الدولارات، وهو أمر ذو أهمية قصوى للاقتصاد الروسي، الذي تضرر من العقوبات الغربية في الآونة الأخيرة.
2- ملء الفراغ الأمريكي: تعمل موسكو على تعويض غياب الدور الأمريكي، واستغلال تضرر صورة الولايات المتحدة في المنطقة، جراء أزمة (كوفيد-19)، مستغلة حالة التنافس الحاد للحصول على اللقاحات. وفي الوقت الذي عجزت فيه واشنطن عن تقديم المساعدات الاقتصادية لدول المنطقة، سارعت الصين إلى ملء الفراغ الأمريكي، وتعهدت بتقديم مليار دولار لدولها للحصول على لقاح مضاد لكورونا، وفي حين عجزت الولايات المتحدة أيضًا عن توفير اللقاح لدول أمريكا اللاتينية، قامت روسيا بإمدادها باللقاح.
ومن المُرجح أن يكون لزيادة الاعتماد اللاتيني على موسكو كمورد رئيسي للقاحات المضادة لـ(كوفيد–19)، تداعيات مستقبلية على نفوذ ومكانة الولايات المتحدة في أمريكا اللاتينية، وقد يؤدي إلى تقويض سمعة واشنطن بالمنطقة في نهاية المطاف.
3- الرد على الانتقادات الدولية: يُشكّل قيام العديد من دول العالم، ومنها دول أمريكا اللاتينية، بالتعاقد على شراء اللقاح الروسي ردًا عمليًا على الانتقادات الدولية التي تعرض لها اللقاح، نظرًا لتسجيله قبل إجراء تجارب سريرية واسعة النطاق. إضافة إلى أن ذلك يُنظر إليه باعتباره بمثابة إنجاز علمي لروسيا، واعتراف دولي بفاعلية لقاحها المضاد لـ(كوفيد-19 ). ويدشن ذلك كله بعودة اعتراف المجتمع الدولي بأهمية الأبحاث العلمية في روسيا، والتي مُنيت بانتكاسات متكررة منذ انهيار الاتحاد السوفيتي السابق جراء الأزمات والفساد.
ويحمل اختيار اسم اللقاح الروسي رمزية كبرى، لأنه سُمي تيمّنًا بـ(سبوتنيك) أول قمر اصطناعي سوفيتي وضع في المدار عام 1957، و”في” تمثل أول حرف من كلمة لقاح في لغات أجنبية عدة.
محددات الفاعلية:
تتوقف قدرة روسيا على توظيف لقاح “Sputnik V”، لصالح تعزيز شبكة علاقاتها مع دول أمريكا اللاتينية، خاصة خارج نطاق الدول الحليفة لها، على عدة محددات وعوامل:
1- المزايا النسبية للقاح “Sputnik V”: تُشير بعض الدراسات العلمية إلى تمتع اللقاح الروسي ببعض المزايا التنافسية مقارنة بغيره من اللقاحات، التي تتطلب تخزينها في درجة حرارة تصل إلى (-70) درجة مئوية، كما هو الحال مع لقاح فايزر. لذلك فإن شروط التخزين شديدة البرودة لبعض اللقاحات غير مناسبة للعديد من بلدان أمريكا اللاتينية، مع بنيتها التحتية المحدودة ومناطقها وتضاريسها الجغرافية الصعبة. لذلك تتجه عدد من هذه الدول إلى روسيا وكذلك الصين لأن لقاحاتها لا تتطلب درجات حرارة شديدة البرودة للشحن والتخزين.
إضافة إلى السهولة في التعاقد مع الجانب الروسي، وكذلك الانخفاض في السعر، فبينما كانت شركة “فايزر” الأمريكية واحدة من أوائل الشركات التي أطلقت لقاحها، فقد ارتفعت قيمته لتصل إلى 19.50 دولارًا، مقابل حوالي 10 دولارات للجرعة الواحدة من اللقاح الروسي، وهو ما جذب دول المنطقة التي تعاني من صعوبات مالية.
2- توجهات دول أمريكا اللاتينية: حظيت المواقف الروسية المساندة لدول أمريكا اللاتينية في مواجهة جائحة (كوفيد-19)، بإشادة واسعة النطاق من قبل دول المنطقة التي وجدت في اللقاح الروسي وسيلة فعالة وآمنة لإنقاذ ملايين الأرواح، خاصة أنها لا تستطيع البقاء على قائمة الانتظار لأشهر طويلة حتى تتمكن من الحصول على اللقاحات الغربية.
وتزداد أهمية اللقاح الروسي بالنسبة لمنطقة أمريكا اللاتينية، التي تعتبر الأكثر إصابة في العالم بفيروس كورونا، في ظل تعرض بعض دولها في الوقت الراهن لموجة ثانية من الوباء، يصعب على النظم الصحية المنهكة بالفعل مواجهتها. وبالفعل تمكنت بعض الدول اللاتينية من الحصول على اللقاح، ومنها: الأرجنتين، والمكسيك، وبوليفيا، وباراجواي، ونيكاراجوا، وفنزويلا، ويجري البعض الآخر مفاوضات مع موسكو من أجل شرائه.
وقد جاء اتجاه بعض دول أمريكا اللاتينية إلى الحصول على اللقاح الروسي في ظل فشلها في تأمين حصة معقولة من اللقاحات التي توصلت إليها شركات الأدوية الغربية، سواء كان ذلك نتيجة استئثار الدول الغنية بالحصص الأكبر من اللقاحات الغربية، أو نتيجة عجز دول المنطقة عن تحمل تكلفة اللقاحات الغربية، خاصة مع تردي الأوضاع الاقتصادية فيها؛ إذ يعاني العديد منها من انخفاض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة تناهز 8%.
3- الإدارة الأمريكية الجديدة: تعمل إدارة الرئيس الأمريكي “جو بايدن” على تحسين علاقاتها بدول أمريكا اللاتينية عقب سنوات من التجاهل والإهمال في عهد الرئيس السابق “دونالد ترامب”. ومع ذلك، فحتى الآن لم تعلن الإدارة الأمريكية الجديدة عن خطوات ملموسة لتقديم المساعدة، أو على أقل تقدير إعلان تضامنها الرمزي مع دول أمريكا اللاتينية في مواجهة (كوفيد-19)، في ظل انشغال واشنطن بالتصدي للجائحة في الداخل، خاصة أن الولايات المتحدة تُعد الدولة الأكثر تضررًا على مستوى العالم من جائحة (كوفيد-19)، وذلك مع تجاوز عدد الوفيات بها جراء الفيروس نصف مليون وفاة في فبراير الماضي، وهو ما منح موسكو فرصة مهمة لتعزيز حضورها في القارة اللاتينية.
ولكن الأمر المهم في هذا الشأن هو أن الطلب المتزايد على اللقاح الروسي لا يقتصر على الدول اللاتينية التي لدى حكوماتها توجهات اشتراكية، والتي تصنف ضمن قائمة الحلفاء التقليديين لموسكو؛ بل امتد هذا الطلب ليشمل دولًا تربطها علاقات وثيقة بواشنطن، وفي مقدمتها كولومبيا، التي تتفاوض مع موسكو في الوقت الراهن لشراء ملايين الجرعات من اللقاح الروسي، وهو الأمر الذي يرجح تنامي نفوذ موسكو في عموم دول المنطقة خلال الفترة المقبلة.
المصدر: مجلة أجيال الالكترونية