في الثاني عشر من شهر أغسطس الجاري، قررت الجمعية التأسيسية الفنزويلية، الموالية للرئيس الاشتراكي "نيكولاس مادورو"، تشكيل لجنة من الخبراء لتحديد الموعد المناسب لإجراء الانتخابات التشريعية القادمة، ولذلك لانتخاب أعضاء جدد في الجمعية الوطنية التي تسيطر عليها المعارضة الفنزويلية بزعامة "خوان جوايدو"، الذي نصب نفسه رئيسًا لفنزويلا بالوكالة في يناير الماضي. ويكشف طرح فكرة إجراء انتخابات تشريعية مبكرة، بعدما كان من المخطط أن تُجرَى في الأول من ديسمبر 2020، عن تزايد حدة الصراع الدائر على السلطة بين الحكومة والمعارضة.
دوافع متعددة:
ثمة مجموعة من الأسباب التي تُفسر محاولة حكومة "نيكولاس مادورو" إجراء انتخابات تشريعية مبكرة، منها:
1- السيطرة على السلطة: يسعى "مادورو" من خلال طرح فكرة إجراء انتخابات تشريعية مبكرة إلى إحكام سيطرته على مؤسسات الدولة الفنزويلية، خاصة مع نجاحه، حتى الآن، في الاحتفاظ بدعم وولاء الجيش له، وهو ما كان من العوامل الرئيسية التي ساهمت في بقائه بمنصبه رغم الضغوط الدولية المتزايدة عليه. وفي هذا السياق، شدد وزير الدفاع الفنزويلي الجنرال "فلاديمير بادرينو" مؤخرًا على أن بلاده لن تشهد "أي انقلاب ولا حكومة أمر واقع ولا أي شكل من انتقال السلطة". وأضاف: "لن تأتي أي حكومة لتتمركز هنا، لأن هناك قوات مسلحة تدرك التزاماتها الأخلاقية والدستورية". لذلك فليس من المستغرب أن يحاول "مادورو" فرض المزيد من السيطرة على بقية مؤسسات الدولة، وفي مقدمتها السلطة التشريعية التي سيطرت عليها المعارضة للمرة الأولى منذ 16 عامًا، وذلك عقب الانتخابات التشريعية التي جرت في عام 2015، وفاز فيها تكتل الأحزاب المعارضة "الطاولة المستديرة للوحدة الديمقراطية"، الذي فاز بـ(109) مقاعد من إجمالي عدد مقاعد الجمعية الوطنية البالغ عددها (164) مقاعد، في مقابل (55) مقعدًا للحزب الاشتراكي الحاكم.
وارتباطًا بذلك، كانت دعوة "مادورو"، أكثر من مرة، إلى إجراء انتخابات مبكرة للجمعية الوطنية، محاولة من جانبه لشق صفوف المعارضة وكسب الدعم الشعبي له، حيث صرح في سياق دعوته إلى إجراء انتخابات تشريعية مبكرة في مايو الماضي، بـ"أن الانتخابات ستكون حلًّا ديمقراطيًّا وسلميًّا ودستوريًّا للأزمة السياسية التي تمر بها البلاد". كما شكك "مادورو" في قدرة المعارضة على الفوز في الانتخابات التشريعية المقبلة قائلًا: "دعونا نتبارز عن طريق إجراء انتخابات.. دعونا نرى من هم الذين يدعمهم الشعب".
2- تحجيم المعارضة: تُعتبر الجمعية الوطنية هي المؤسسة الوحيدة التي تُحكم المعارضة سيطرتها عليها، ويسعى "مادورو" من خلال إجراء انتخابات تشريعية مبكرة، إلى منع المعارضة من الفوز مجددًا بالأغلبية داخل الجمعية الوطنية، وإعادة إحكام الحزب الاشتراكي قبضته مرة أخرى على السلطة التشريعية. خاصة أنه من المرجح في حال خسارة المعارضة للانتخابات التشريعية المبكرة، أن يفقد "جوايدو" مصداقيته، وستتهدد شرعيته كرئيس للبلاد بالوكالة. وهذا التحرك من قبل "مادورو" إنما يأتي مُتّسقًا مع الخطوات التي قامت بها بعض مؤسسات الدولة لتضييق الخناق على المعارضة، والتي من بينها المحكمة العليا التي أمرت بملاحقة بعض أعضاء الجمعية الوطنية قضائيًّا، بتهمة "الخيانة والتآمر والتحريض على التمرد"، كما تم تجريد 25 نائبًا من الحصانة البرلمانية بسبب دعمهم المزعوم لانتفاضة فاشلة وقعت في أبريل الماضي.
وفي السياق ذاته، تم اختيار أعضاء الجمعية التأسيسية في يوليو 2017، في ظل انتخابات مثيرة للجدل قاطعتها المعارضة، لتكون بمثابة أداة مهمة في يد الرئيس الفنزويلي، الذي حاول توظيفها للحد من صلاحيات الجمعية الوطنية، خاصة أن الجمعية التأسيسية تتمتع بصلاحيات واسعة، يأتي في مقدمتها إعداد دستور جديد لفنزويلا، كما أنها في الممارسة العملية تعمل كهيئة تشريعية موازية، مما زاد من تهميش الجمعية الوطنية. وفي هذا السياق، حذر رئيس الجمعية التأسيسية "ديوسدادو كابيلو"، نواب المعارضة، قائلًا: "لا تذهبوا في إجازة لأننا سنجعل الحياة مستحيلة بالنسبة لكم خلال الشهر المقبل".
وسبق أن أعلن "مادورو"، أن الجمعية الوطنية والبلاد سوف تستعيدان الاستقرار عندما "يتم طرد هذه المجموعة من البلطجية والمجرمين الذين لا طائل من ورائهم". وهذا الهجوم الشديد على المعارضة يُفسر مخاوف رئيس الجمعية الوطنية "خوان جوايدو" من تلك الخطوة، التي وصفها بـ"الكارثة" وبـ"المهزلة الجديدة"، كما اتهم الجمعية التأسيسية بأنّها تريد حلّ البرلمان بشكل غير قانوني أو الدعوة لانتخابات تشريعية قبل موعدها.
ومن جانبه، قلل رئيس الجمعية التأسيسية من أهمية اتهامات "جوايدو"، قائلًا: إنه ليست هناك حاجة إلى حل الجمعية الوطنية لأنها "لم تنجح" و"ألغت نفسها بنفسها".
3- تحدي الضغوط الخارجية: من الواضح أن "مادورو" بعدما سبق أن أعلن في يوليو الماضي استعداده لـ"حرب انتخابية في أي مكان وزمان تحدده المعارضة"، عاد ليؤكد أن الانتخابات ستُجرَى في موعد "قريب جدًّا". وهو يسعى بذلك إلى إرباك حسابات المعارضة المنقسمة على نفسها بشأن المخرج الأمثل لحل الأزمة التي تشهدها البلاد، كما يستهدف إضعاف المعارضة الموالية للغرب، وللولايات المتحدة على وجه التحديد، التي تدعم زعيم المعارضة "خوان جوايدو"، وذلك من خلال تقويض الجمعية الوطنية التي وصفها "مادورو" بأنها "ممثلة للرأسمالية"؛ فالرئيس الفنزويلي من خلال سعيه إلى إجراء انتخابات تشريعية مبكرة، يحاول إثباث أنه لا يزال قادرًا على تشكيل مستقبل الأزمة الراهنة في البلاد، وتوجيه الأزمة نحو المسار الذي يفضله، كما يستهدف "مادورو" التأكيد على قدرته على مواجهة كافة الضغوط الدولية الرامية إلى الإطاحة به، والتي كان آخرها توقيع الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" أمرًا تنفيذيًّا في الخامس من أغسطس الجاري، يتم بمقتضاه تجميد كافة الأصول التي تمتلكها الحكومة الفنزويلية والكيانات المرتبطة بها داخل الولايات المتحدة الأمريكية، وكذلك حظر المعاملات الاقتصادية من قبل الولايات المتحدة، ما لم يتم استثناؤها على وجه التحديد، مما دفع فنزويلا إلى اتهام واشنطن بممارسة "الإرهاب الاقتصادي" ضدها، خاصة أن تلك العقوبات شكلت تصعيدًا جديدًا للإجراءات العقابية الأمريكية الموسعة بالفعل ضد الحكومة الفنزويلية.
التداعيات المحتملة:
يمكن أن يُسفر الإعلان عن إجراء انتخابات تشريعية مبكرة عن بعض التداعيات التي يُمكن عرضها على النحو التالي:
1- تعطُل جهود الحل السلمي: من المُرجح أن يُؤدي الإعلان عن إجراء انتخابات تشريعية مبكرة إلى إثارة غضب المعارضة، وربما قد يؤدي ذلك إلى انسحابهم من المفاوضات الجارية مع الحكومة الفنزويلية في جزيرة بربادوس، برعاية النرويج، والتي تهدف إلى التوصل إلى حل تفاوضي للمأزق السياسي الراهن في فنزويلا، خاصة أن الرئيس "مادورو" سبق وألغى سفر ممثّليه الذين كان من المفترض أن يتوجهوا إلى بربادوس لإجراء محادثات مع المعارضة الفنزويلية، في السابع من أغسطس الجاري، وذلك في خطوة احتجاجية على العقوبات الأمريكية الأخيرة على بلاده. وفي ظل هذه الأجواء المشحونة في فنزويلا، والتي من المتوقع أن تزداد سوءًا في حال إعلان الحكومة عن تقديم موعد الانتخابات التشريعية؛ فإن مسار الحل السلمي للأزمة الفنزويلية قد يتوقف، مما سيؤدي إلى تفاقم الأوضاع السياسية والأمنية في البلاد.
ويُدخل فنزويلا في مرحلة جديدة من الصراع المتصاعد، خاصة مع تهديدات "مادورو" لـ"جوايدو" بأنه سيواجه العدالة لتأييده العقوبات الأمريكية الأخيرة على بلاده. وفي ظل تعارض رؤى القوى المتصارعة بشأن سبل حل الأزمة الفنزويلية، ما بين مطالب "خوان جوايدو" بإجراء انتخابات رئاسية جديدة، ومساعي "نيكولاس مادورو" إلى إجراء انتخابات تشريعية مبكرة، ورفض إجراء انتخابات رئاسية مبكرة؛ يتضح بجلاء عدم وجود حل، على المدى القريب، للأزمة المتفاقمة في فنزويلا.
2- تفاقم الأزمة الإنسانية: أدت الأزمة الراهنة في فنزويلا إلى نزوح ما يقرُب من أربعة ملايين مواطن خارج البلاد، ومن المتوقع أن تستمر الأوضاع الإنسانية في التفاقم مع استمرار الصراع السياسي في البلاد، والذي سيتصاعد بدوره في حال إجراء انتخابات تشريعية مبكرة، وما يستتبع ذلك من فرض المزيد من العقوبات الدولية على فنزويلا، والتي ألقت بظلال قاتمة على الشعب الفنزويلي، فوفقًا للأمم المتحدة، يعيش 90 بالمائة من المواطنين في حالة فقر، وهذا ضعف الرقم في عام 2014، ومن المتوقع أن يتضاعف عدد اللاجئين الفنزويليين بحلول نهاية عام 2020، ليصل إلى ثمانية ملايين شخص، أو ما يقرُب من ربع سكان البلاد قبل اندلاع الأزمة.
وفي هذا السياق، حذرت منظمة الأمم المتحدة في الثامن من أغسطس الجاري من أن العقوبات الأمريكية الأخيرة على فنزويلا قد "تُؤدي إلى تفاقم الأزمة التي تواجه المدنيين العاديين في البلاد"، وحذرت "ميشال باشليت" (المفوض السامي للأمم المتحدة لحقوق الإنسان) من أن العقوبات الأمريكية ستكون لها "آثار بعيدة المدى على الحق في الصحة، وعلى الغذاء، بشكل خاص، في بلد يعاني بالفعل من نقص خطير في السلع الأساسية"، ووصفت العقوبات بأنها "واسعة للغاية"، وستضر شرائح المجتمع الأكثر ضعفًا.
ومما يجدر ذكره أنه بسبب العقوبات الأمريكية الأخيرة لن يكون بمقدور فنزويلا استيراد المواد الغذائية اللازمة لبرنامج الدعم المسمى "اللجان المحلية لإنتاج الغذاء"، والذي يعتمد عليه أكثر من سبعة ملايين مواطن فنزويلي لتأمين احتياجاتهم الغذائية؛ إذ إنه من المرجح أن يُوقف عدد كبير من الشركات والمؤسسات المالية المعاملات الاقتصادية مع حكومة فنزويلا بسبب المخاوف من العقوبات الأمريكية التي قد تُفرض عليها جرّاء انتهاك العقوبات المفروضة على حكومة كاراكاس.
3- تزايد الضغوط الدولية: من الواضح أن اتجاه حكومة الرئيس "مادورو" إلى إجراء انتخابات تشريعية مبكرة سوف يُقابل برفض دولي واسع النطاق، كما سيزيد من حالة العزلة الدولية التي تُعاني منها البلاد، وربما يُفضي ذلك إلى فرض مزيدٍ من العقوبات على فنزويلا، وهو ما اتضح بشكل جلي في ردود الأفعال الدولية التي صدرت عقب الإعلان عن هذه الخطوة. فقد صرح مستشار الأمن القومي الأمريكي "جون بولتون" بأن الولايات المتحدة تعارض إجراء انتخابات جديدة في فنزويلا طالما ظل الرئيس "نيكولاس مادورو" موجودًا في السلطة، مشيرًا إلى المخاوف من إمكانية التلاعب بالنتائج. وفي السياق ذاته، طالب "لويس ألماجرو" (الأمين العام لمنظمة الدول الأمريكية) بضرورة احترام الحصانة البرلمانية للنواب، على النحو الذي يضمنه الدستور.
كما أصدرت مجموعة ليما، التي تتألف من كندا وعدد من دول أمريكا اللاتينية، والتي تشكلت من أجل التوسط في الأزمة، بيانًا رفضت فيه بشكل قاطع تهديد الجمعية التأسيسية الوطنية التي وصفتها بـ"غير الشرعية" بالدعوة "غير الدستورية" لإجراء انتخابات تشريعية مبكرة. كما وصفت ممثلة الاتحاد الأوروبي للشئون الخارجية "فيديريكا موجريني" التحركات ضد الجمعية الوطنية بـ"هجوم مباشر آخر على الهيئة الوحيدة المنتخبة ديمقراطيًّا في فنزويلا". ومن جانبها، تشدد الحكومة الفنزويلية على رفض التدخل الخارجي في شئونها الداخلية، وتطالب برفع العقوبات المفروضة عليها.