على الرغم من التداعيات الاقتصادية والسياسية المُعقّدة لقرار الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي مع إيران، إلا أن تعهد الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" بالسعي لتغيير النظام الحاكم في إيران هو ما أثار جدلًا محتدمًا في الأوساط السياسية الإيرانية، إذ لا تزال المؤسسات السياسية والأمنية في إيران تحاول استيعاب آثار الاحتجاجات التي تفجرت في مدينة مشهد، وامتدت لعدد كبير من المدن الإيرانية قبيل نهاية عام 2017، تعبيرًا عن الاستياء من السياسات الحكومية التي فرضت ضغوطًا معيشية غير مسبوقة على الشعب الإيراني.
ولقد كان إدراكُ هذا التهديد الوجودي لبقاء النظام في إيران دافعًا لتجنب الانقسامات والصراعات بين المنتمين للتيار المحافظ ونظرائهم في التيار الإصلاحي، والتضامن في مواجهة التداعيات المرتقبة لتشديد العقوبات الاقتصادية الأمريكية على إيران، فضلًا عن السعي لتخفيف الضغوط الأمريكية من خلال دفع بعض الأطراف الدولية -مثل: روسيا، والصين، والدول الأوروبية- للتوسط في مفاوضات مع الولايات المتحدة للتوصل لاتفاق جديد حول البرنامج النووي الإيراني.
سياسة الاستيعاب:
تفاوتت ردود الأفعال الدولية حول قرار الرئيس الأمريكي. فعلى سبيل المثال، عارض الجانب الأوروبي والروسي (الأعضاء في الاتفاق) موقف الولايات المتحدة، ودعت رئيسة الوزراء البريطانية "تيريزا ماي" إلى الحفاظ على الاتفاق للتصدي للخطر النووي لإيران، فى حين شدد وزير الخارجية الروسي "سيرجى لافروف" على أن الاتفاق النووي مع إيران يجب أن يبقى المرجعية الوحيدة لأي مفاوضات لاحقة بشأن هذا الملف، ودعت مسئولة السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي "فيدريكا موجيريني" المجتمع الدولي للالتزام بالاتفاق النووي مع إيران، مؤكدة أن الاتحاد الأوروبي يرغب في الحفاظ عليه.
فيما جاء رد الفعل الإيراني المعلن -على غير المعتاد- هادئًا بعض الشيء، لا سيما من جانب الرئيس الإصلاحي "حسن روحاني" الذي أكد التزام بلاده بالاستمرار في تنفيذ الاتفاق النووي، وإن كان من حقها إعادة النظر في هذا الاتفاق وفقًا للظروف والمعطيات القادمة، وقد ساند هذا الرأي غالبية التيار الإصلاحي لا سيما في وسائل الإعلام.
وتشير الصورة الحالية داخل إيران إلى تماسك ووحدة الموقف بين المحافظين المترقبين لأي إخفاق من ناحية الإصلاحيين، حيث لا يزالون في انتظار القرار من جانب المرشد الأعلى "علي خامنئي" الذي لم يحدد بعد توقيت وأسلوب الرد على القرار الأمريكي في ظل تعقد الأوضاع الداخلية بعد الاحتجاجات والحراك الذي شهدته إيران خلال الأشهر الماضية، والتي كان سببها بشكل أساسي ارتفاع الأسعار وتدهور مستوى المعيشة، وهو ما سوف يأخذه "خامنئي" في اعتباره قبل القيام بأي رد فعل قد يترتب عليه تدهور الأوضاع الداخلية بشكل يتجاوز إمكانية الاحتواء.
تضامن مرحلي:
على الرغم من وجود اختلافات جوهرية بين التيار المحافظ والإصلاحي، إلا أن واقع الأمر يؤكد على قدرٍ ما من التوافق بين تيارات النظام المختلفة حول القضايا الرئيسية داخليًّا وخارجيًّا، ومنها تقسيم النفوذ السياسي والاقتصادي وإن كان المعلن هو العكس في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، تخضع معظم المقدرات الاقتصادية لا سيما فيما يتعلق بقطاع الغاز والنفط والإنشاءات لسيطرة شركات تتبع الحرس الثوري الإيراني. وهو ما يدل على أن مؤسسة الحرس الثوري قد تكون من أكبر المستفيدين من الانفتاح على الغرب، وعلى الرغم من وجود رغبة لدى المتشددين لتحجيم حركة الإصلاحيين، إلا أن استفادة الحرس الثوري اقتصاديًّا من هذا الوضع، بالإضافة إلى أن التيار الإصلاحي يستند لقاعدة شعبية قوية بعد نجاحه في التخفيف من وطأة العقوبات الاقتصادية، وهو الأمر الذي يحجم من قدرتهم على توجيه ضربات للإصلاحيين، والنيل من "روحاني" وتياره في الوقت الحالي.
من جانب آخر، ليس من مصلحة التيار المتشدد مهاجمة الإصلاحيين في هذا الوقت نظرًا لضرورة تماسك الجبهة الداخلية للحيلولة دون اختراق الجبهة الحاكمة في إيران من جانب أي طرف، خاصة وأن طهران تعاني من أعباء كثيرة نظرًا للتدخلات الإيرانية في المنطقة (في: العراق، وسوريا، واليمن)، وحالة العداء مع غالبية الدول العربية التي تشكو من هذه التدخلات لا سيما في شئونها الداخلية، وبالتالي فالتصعيد الداخلي بين الفريقين أمر مستبعد في الوقت الحالي.
استثمار التناقضات:
على الرغم من الخسائر التي سوف يعاني منها النظام الإيراني جراء انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق، إلا أنه سوف يسعى لتطويع الأحداث لصالحه، وهو ما قد يتّبعه في هذه الأزمة، على الرغم من وجود مؤشرات على محدودية الخيارات والسيناريوهات المتاحة أمامه للحركة. وفي هذا الإطار قد يتّبع النظام الإيراني في الفترة المقبلة سياسة تتسم بالمرونة للتعامل مع المستجدات غير المتوقعة.
فعلى الصعيد الداخلي فإن المرشد الذي يوجه باقي المؤسسات سوف يتعامل مع الأمر على أنها فرصة لتعزيز فكرة "الشيطان الأكبر" التي طرحها الإمام "الخميني" منذ مطلع الثورة الإسلامية عام 1979، وأن الولايات المتحدة طرف دولي لا يُمكن الوثوق به، وهو ما يُعيد الأمر لمربعه الأول، ويُثبت للجماهير المتعطشة للانفتاح على الغرب صواب نظرة القيادة في تعاملها مع "قوى الاستكبار"، مع تأكيد صحة الشعارات الأخرى التي يطلقها "النظام الثوري" على حد وصفهم للحفاظ على مكتسباته التي حققها منذ الثورة الإسلامية. وفي حالة تجاوز الأزمة الراهنة، فسيرجع الفضل لرجاحة قرار مؤسسة الإرشاد وصلابة القيادة في مواقفها، وبالتالي يسوّق لفكرة أنها الأقدر على قيادة البلاد.
من جانب آخر، على المستوى الخارجي يمكن القول إن النظام الإيراني قد يحقق قدرًا من الاستفادة من تفاوت الرؤى والمواقف السياسية بين الاتحاد الأوروبي وكل من روسيا والصين من جانب والولايات المتحدة من جانب آخر، حيث إن حالة الانقسام بين القوى الدولية، وادعاء إيران تمسكها بالتعهدات النووية الواردة بالاتفاق قد يخفف من تأثير الضغوط الخارجية والداخلية على النظام. وذلك على النقيض من وضع إيران أثناء المفاوضات النووية وقبل توقيع الاتفاق، حيث أدركت طهران وقتها صعوبة موقفها التفاوضي في مواجهة كتلة صلبة، كما أن إيران قد تستفيد من تسريع الأوروبيين لوتيرة الإفراج عن الأرصدة المجمدة لدى البنوك الأوروبية، مما سيتيح لها استيعاب بعض التأثيرات المتوقعة بعد تنفيذ التهديدات الأمريكية.
ختامًا، يمكن القول إن الموقف الأمريكي -حتى الآن- سوف يكون له تأثير محدود على الوضع الداخلي في إيران نظرًا لحالة التماسك التي تتسم بها تركيبة النظام الحاكم، من جانب آخر لا تزال طهران تمتلك أوراق ضغط تستطيع من خلالها التقليل من التداعيات السلبية لفرض العقوبات ضدها أو ضد من يتعامل معها من الدول الأوروبية، كما أن القوى الدولية لن تستطيع تجاهل إيران فيما يتعلق بتسوية الأزمات المتشابكة في مناطق الصراعات.
ويظل الدخول في مفاوضات جديدة مكملة للاتفاق النووي المبرم أحد خيارات النظام الإيراني، وهو ما يتوافق مع ما طرحه الرئيس الفرنسي "ماكرون" خلال مقابلته الرئيس "ترامب" مؤخرًا، حيث قد يتفق مع الطرف الإيراني على التفاوض بشأن ملحق تكميلي للاتفاق يضمن استمراريته من ناحية، وإدخال بنود جديدة أخرى عليه خاصة فيما يتعلق بالبرنامج الصاروخي الإيراني، ويبدو من رد الفعل الإيراني المبدئي أنه كان هناك توقع واستعداد لعملية إلغاء الاتفاق، وإن كان من المنتظر أن يتخذ الإيرانيون مواقف أكثر تشددًا حال إدراك قيادتهم وجود تهديدات حقيقية تؤثر على استقرار وثبات وضعية النظام داخليًّا، لا سيما مع إثارة قضية خلافة المرشد من حين لآخر، وتهديد ما حققته إيران من تمدد على المستوى الإقليمي خلال السنوات الماضية.