أخبار المركز
  • د. أيمن سمير يكتب: (بين التوحد والتفكك: المسارات المُحتملة للانتقال السوري في مرحلة ما بعد الأسد)
  • د. رشا مصطفى عوض تكتب: (صعود قياسي: التأثيرات الاقتصادية لأجندة ترامب للعملات المشفرة في آسيا)
  • إيمان الشعراوي تكتب: (الفجوة الرقمية: حدود استفادة إفريقيا من قمة فرنسا للذكاء الاصطناعي 2025)
  • حسين معلوم يكتب: (تفاؤل حذر: هل تشكل الانتخابات المحلية فرصة لحلحلة المسار الليبي؟)
  • أحمد عليبة يكتب: (هاجس الموصل: لماذا يخشى العراق من التصعيد الحالي في سوريا؟)

سيناريوهات ارتدادية:

آثار أزمة الطاقة الصينية على سلاسل الإمداد

13 ديسمبر، 2021


يعاني الاقتصاد الصيني منذ عدة أشهر أزمة طاقة حادة اضطرت معها السلطات الصينية لفرض تدابير استثنائية، ما أجبر العديد من المصانع على تقليص إنتاجها إلى أقل مستوى منذ أوائل عام 2020، إبان سريان قيود الإغلاق الصارمة المترتبة على جائحة كورونا، كما دفعت المؤسسات المالية الكبرى إلى خفض توقعات نمو الناتج المحلي الإجمالي لثاني أكبر اقتصاد في العالم. وتحمل هذه التطورات انعكاسات سلبية على سلاسل التوريد العالمية، لاسيما مع اقتراب نهاية العام وموسم العطلات الذي يتزايد فيه الطلب على السلع، فضلاً عن ارتفاع الطلب بشكل عام على المنتجات الصينية، نتيجةً لتعافي الإنفاق الاستهلاكي في العديد من الدول مع إرهاصات خروج الاقتصاد العالمي من جائحة كورونا.

أسباب الأزمة:

احتدمت أزمة الطاقة في الصين مع شح إمدادات الطاقة وارتفاع أسعار الفحم، وتوقف العديد من شركات توليد الكهرباء عن العمل، خاصةً في المناطق الشمالية الشرقية من البلاد، وهو ما دفع عشرين مقاطعة صينية إلى فرض قيود على استهلاك الكهرباء، خاصةً في الصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة. وطالت هذه القيود ثلاث مقاطعات بالغة الأهمية بالنسبة للاقتصاد الصيني، وهي "جيانغسو" و"تشيجيان" و"غوانغدونغ"، والتي تمثل ما يصل إلى ثلث الناتج المحلي الإجمالي للبلاد. 


ساهمت أسباب عدة في حدوث أزمة الطاقة في الصين، على رأسها الزيادة الكبيرة لأسعار الفحم، الذي تعتمد عليه في توليد حوالي ثلثي احتياجاتها من الكهرباء. وقد ارتفعت أسعار العقود الآجلة للفحم في الصين بأكثر من 200% خلال عام 2021، ليسجل أعلى مستوى في 10 سنوات. ويُعزى ذلك إلى الانخفاض الكبير في مخزونات الصين من الفحم وتعطل إمداداته من المقاطعات الرئيسية المنتجة له، وهي "شانشي" و"شنشي" ومنطقة منغوليا الداخلية ذاتية الحكم، والتي يأتي منها 90% من الفحم الصيني، حيث أدت ظروف العمل في مرافق الإنتاج والمخاطر المتعلقة بالتعدين والتي تسببت في عدد من الحوادث المميتة إلى دفع المنظمين في يونيو 2021 إلى إغلاق بعض المناجم في مقاطعة "شانشي". كما تسببت الأمطار الغزيرة والفيضانات والانهيارات الأرضية في إجبار 60 منجماً للفحم على الإغلاق. ومن ناحية أخرى توقفت إمدادات أستراليا والتي كانت تمثل 68% من واردات الصين من الفحم، بعد أن فرضت الصين حظراً على الفحم الأسترالي (كرد انتقامي على مطالبة أستراليا بإجراء تحقيق دولي بشأن نشأة فيروس كورونا). 

وتزامن نقص إمدادات الفحم مع تزايد الطلب على الطاقة في الصين في ظل بوادر الانتعاش الاقتصادي، بعد تخفيف قيود الإغلاق المتعلقة بجائحة كورونا، والذي اعتمد بالأساس على توسع قطاعي البناء والصناعات الثقيلة، ما أدى لزيادة الطلب على الفحم بنسبة 11% في النصف الأول من العام. وفي الأشهر الثمانية الأولى من عام 2021، كانت مولدات الكهرباء الصينية التي تعمل بالفحم تعمل بطاقة توليدية تزيد بنسبة 14% مقارنةً مع الفترة نفسها من العام الماضي، في وقت لم تتخط فيه نسبة ارتفاع إنتاج الفحم بنسبة 6% فقط.

أما السبب الثاني للأزمة فهو يرتبط بالأهداف البيئية للحكومة الصينية التي تسعى إلى تقليل إجمالي الانبعاثات الكربونية بحلول عام 2030 وصولاً إلى مستوى الحياد الكربوني بحلول عام 2060. مع محاولة تحقيق هدف عاجل يتعلق بتقليل مستويات الضباب الدخاني في أجواء العاصمة بكين والمقاطعات المحيطة بها استعداداً لدورة الألعاب الأولمبية الشتوية في فبراير 2022، فضلاً عن إظهار جدية الصين في خفض مستويات الانبعاثات الكربونية استجابةً للدعوات العالمية لتقليل الانبعاثات. 


وفي هذا الإطار، ترغب الصين في إنجاز ما يسمى بـ"هدف التحكم المزدوج لحماية البيئة الوطنية"، والذي يتعلق بخفض استهلاك الطاقة وكميتها (كثافة الطاقة) اللازمة لكل وحدة من الناتج المحلي الإجمالي، حيث تستهدف الحكومة الصينية خفض كثافة الطاقة بنسبة 3% هذا العام، وبنسبة 13.5% بحلول عام 2025، لخفض انبعاثات الكربون بنسبة 18% لكل وحدة من الناتج. وفرضت السلطات الصينية على المقاطعات الالتزام بهذا الهدف عبر ضبط استهلاكها للطاقة، والحد من إنتاج الفحم. ومع إخفاق بعض المقاطعات في تحقيق هذه الأهداف، لجأت إلى تقليل استهلاك الطاقة عن طريق الحد من توليد الكهرباء، كإجراء قصير المدى، ما أثر سلبياً على إمدادات الكهرباء في بعض المقاطعات، حيث تجاوز الطلب قدرة التوليد المحلية المتاحة.

ويرتبط السبب الثالث للأزمة بمشكلة هيكلية في سوق الطاقة الصيني، الذي يتسم بعدم المرونة بسبب سياسة التسعير غير الفعالة للكهرباء، حيث يجري تحديد الأسعار المدفوعة لشركات التوليد من قِبل الحكومة المركزية، بينما يجري تحديد أسعار الفحم وفقاً لقوى السوق. وبالتالي عندما ترتفع أسعار الفحم، مع عدم السماح لشركات توليد الكهرباء برفع أسعارها بما يتجاوز الهوامش الصغيرة التي تحددها الحكومة، يصبح من غير المجدي اقتصادياً للمحطات التي تعمل بالفحم الاستمرار في توليد الكهرباء.

سيناريوهان محتملان:

نظراً لمكانة الصين المحورية في سلاسل التوريد العالمية بفضل إمكاناتها الإنتاجية والتصديرية الهائلة التي جعلتها بمنزلة مصنع العالم، فإن أزمة الطاقة التي تعانيها تنذر بتأثيرات ارتدادية تتجاوز النطاق المحلي. وفي ضوء تفاعلات الأزمة وتطوراتها الراهنة، يمكن تصور مآلاتها المستقبلية وتأثيراتها على سلاسل الإمداد العالمية من خلال سيناريوهين رئيسيين:

1- السيناريو المتفائل:

قد تستطيع الصين التغلب على أزمة الطاقة، بما يساعد على استئناف غالبية المصانع نشاطها واستعادة قدرتها التشغيلية المعتادة في المدى القصير، على نحو يحد من التأثيرات السلبية للأزمة على سلاسل التوريد العالمية، ويجعلها ذات طبيعة مؤقتة وغير عميقة، من قبيل حدوث بعض التأخيرات قصيرة الأجل في توريد بعض المنتجات.

ففي إطار استجابتها لأزمة الطاقة، اتبعت الحكومة الصينية نهجاً عملياً عاجلاً لمعالجة النقص في إمدادات الكهرباء من خلال العودة إلى تخفيف القيود على استخدام الفحم، وسمحت بتوسيع سريع لمناجمه، حيث حصل أكثر من 100 منجم على موافقة لزيادة الإنتاج، مع إمكانية تعدين 55 مليون طن من الفحم في الربع الأخير من العام الجاري، ووفرت قروضاً بنكية خاصة لشركات التعدين، وسمحت أيضاً بتخفيف قواعد السلامة في المناجم، فضلاً عن استئناف واردات الفحم من أستراليا. كما أصدرت الصين مرسوماً بإصلاحات شاملة لسوق الطاقة. وتحسباً لاستمرار العجز في إمدادات الكهرباء، قدمت الحكومة الصينية طلباً إلى شركة "إنتر راو" الروسية للطاقة لزيادة إمدادات الكهرباء، ويمكن للشركة تزويدها بما يصل إلى 7 مليارات كيلوواط/ساعة سنوياً. 

وثمة تدابير أخرى يمكن للصين اتخاذها لمواجهة الأزمة حيث يمكنها منح معاملة تفضيلية بشأن توفير الطاقة للشركات ذات الأهمية المحورية لسلاسل التوريد، كشركات الرقائق الإلكترونية والشركات المنتجة لأشباه الموصلات وشركات تكنولوجيا الاتصالات، مما يساعد الشركات على مواصلة نشاطها كالمعتاد. كما يمكن للصين الحد من كميات الطاقة الموجهة للصناعات كثيفة الاستهلاك كالصلب والألمنيوم والإسمنت والمنسوجات.

ومع سريان هذه التدابير من المحتمل أن تتراجع الأزمة، وبالتالي يتراجع احتمال حدوث انكماش اقتصادي حاد أو بعيد المدى، ويتم تفادي انهيار سلاسل التوريد العالمية.

2- السيناريو المتشائم:

في حالة عجز التدابير التي تتخذها السلطات الصينية عن تحقيق التوازن بين إمدادات الطاقة والطلب المتزايد عليها فقد تصبح أزمة الطاقة في الاقتصاد الصيني طويلة الأجل، مما يؤدي إلى انتكاسات كبيرة في قطاع التصنيع، وبالتالي تعطيل سلاسل التوريد العالمية، نظراً للمشاركة الواسعة للصين في هذه السلاسل التي تتسم بدرجة عالية من الاعتماد المتبادل.

فمع تضرر العديد من المصانع والشركات جراء نقص إمدادات الطاقة، لاسيما في مقاطعات "جيانغسو" و"تشيجيان" و"غوانغدونغ"، التي تساهم بحوالي 60% من صادرات الصين، يصبح من الصعب على هذه الشركات الوفاء بالطلبات الداخلية والخارجية على منتجاتها، فضلاً عن تأجيل تلقي طلبات جديدة، مما يؤدي إلى ارتباك سلاسل التوريد العالمية، وتأخر عمليات التوريد لأشهر. هذا الارتباك يمكن أن يتفاقم مع تأثر قطاعات الصناعات التحويلية في الصين بأزمة الطاقة، خاصةً مع إعلان العديد من الشركات الصينية الكبرى تقليص إنتاجها، كشركة "يونان للألمنيوم"، والتي تنتج معادن بقيمة 9 مليارات دولار وتُستخدم منتجاتها في مختلف أنواع الصناعات، وبعض شركات الأغذية المختصة بتحويل المحاصيل الزراعية إلى زيوت ومنتجات غذائية، وبعض شركات النسيج والورق والأخشاب والبلاستيك. بالإضافة إلى بعض الشركات الأجنبية العاملة في الصين، كشركة الصلب الكورية العملاقة "بوسكو" التي أوقفت بعض خطوط الإنتاج في مصنعها للفولاذ في منطقة "جيانغ سو".

وعلى مستوى الصناعات التكنولوجية، نظراً إلى أن العديد من الأجزاء والمكونات الصناعية، التي من أهمها الشرائح الإلكترونية وأشباه الموصلات، يجري إنتاجها في الصين، فسيؤدي تعطل إنتاجها إلى تعطل العديد من خطوط الإنتاج العالمية، وعرقلة تصنيع العديد من المنتجات في مختلف أنحاء العالم، كالسيارات والأجهزة الكهربائية والحواسيب والهواتف الذكية.

وقد يزداد الوضع سوءاً بسبب توقيت أزمة الطاقة في الصين، والتي تتزامن مع اقتراب نهاية العام وموسم العطلات الذي يرتفع فيه الطلب على مختلف أنواع المنتجات، وفي وقت تعاني فيه سلاسل التوريد العالمية الاضطراب جراء ارتفاع أسعار الشحن البحري، وارتباك الموانئ في بعض الدول، بسبب تكدس حاويات الشحن، ونقص العاملين في مجال الخدمات اللوجستية، خاصةً سائقي الشاحنات. الأمر الذي يضيف مزيداً من الضغط على سلاسل التوريد على نحو قد يؤدي إلى انهيارها. وستكون النتيجة نقصاً واسع النطاق في العديد من السلع في مختلف أنحاء العالم، وبالتالي تزايد معدلات التضخم، وتباطؤ التعافي من تداعيات كورونا.

تداعيات خليجية:

تستحوذ دول الخليج على 66% من التجارة العربية مع الصين، كما تُعد السعودية والإمارات أكبر شريكين تجاريين للصين عربياً، ولهذا فمن الطبيعي أن تتأثر هذه الدول بأزمة الطاقة في الصين. ويمكن القول هنا إن الأزمة تنطوي على تأثير مزدوج على اقتصادات الخليج. ومن الجانب السلبي، من المحتمل أن يؤدي ارتفاع أسعار السلع الناجم عن الأزمة إلى تزايد معدل التضخم بالمنطقة، والذي يمكن تخفيفه من خلال أدوات السياسة النقدية كرفع أسعار الفائدة وزيادة نسبة الاحتياطي النقدي لدى البنوك المركزية. ومن المحتمل أيضاً أن يؤدي الارتباك في سلاسل التوريد العالمية، إلى التأثير سلبياً على قطاع الخدمات اللوجستية ونشاط الموانئ بالمنطقة. 

وعلى الجانب الإيجابي، يمكن أن يؤدي الاحتياج الصيني لمزيد من الطاقة إلى زيادة الطلب على النفط وتزايد الاستثمار في عقوده طويلة الأجل، وبالتالي ارتفاع أسعاره، مما يساهم في انتعاش قطاع النفط الخليجي. كما أنه من المحتمل أن تُتاح بعض الفرص الاستثمارية المهمة للشركات الخليجية العاملة في مجال الطاقة المتجددة في الصين. 

بشكل عام، يمكن القول إن الجانب الإيجابي للأزمة يتوقع أن يعادل تقريباً الجانب السلبي، مما يبقي تأثير الأزمة على اقتصادات المنطقة في حدود معقولة وتحت السيطرة. وفي الختام، لابد من التأكيد على أن أزمة الطاقة في الصين سلطت الضوء على مدى صعوبة وتعقيد مهمة تحقيق التوازن بين أمن الطاقة والنمو الاقتصادي وأهداف الاستدامة البيئية المرتبطة بخفض مستويات الانبعاثات الكربونية، وهو أمر سيضطر الصين وغيرها من الدول الذاهبة في هذا الاتجاه، إلى مراجعة خططها في هذا الإطار، لتجنب الآثار والتبعات غير المحمودة المرتبطة بها.